الجمعة، 14 يونيو 2013

الدين كمفهومٍ مطلق، لا يستطيع إنسانٌ أن يحيط به، لأنه حكمة الله التي خلقها، وأسبابه التي أوجد، وقوانينه التي أنشأ، وإنما كلٌ يفهم بقدره

 حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.الحمد لله، والحمد دائماً لله، والشكر دائماً لله، والصلاة والسلام دائماً على رسول الله.

عباد الله: تدبروا في آيات الله حولكم، وفي كل ما يُقال في مجتمعكم، فكل كلمةٍ تُقال، إنما هي تعبر عن حالٍ لإنسان، تعبر عن مفهومٍ يتردد. وليدرك الإنسان حقيقة أمره، عليه أن يستفيد من كل هذا، فالمفاهيم لا نهاية لها، والتعدد واردٌ، والاختلاف موجودٌ، والحق على هذه الأرض هو حقٌ نسبي، له علاقةٌ بالإنسان وقدراته، له علاقةٌ بالمجتمع الذي يعيش فيه وبالبيئة التي نشأ فيها. بل أننا، إذا نظرنا إلى مفهوم الدين، سوف نجد أنه يختلف من إنسانٍ لإنسان، ومن جماعةٍ لجماعة.

فالدين عند البعض، هو أوامرٌ جامدةٌ لا تقبل التجزئة، ولها دلالةٌ واحدة، وهذه الدلالة هي ما قام فيه السلف، وإن كانت هنا مغالطة، فالسلف أيضاً اختلفوا في أمورٍ كثيرة. ولكن ما يهمنا هنا، هو تصور أن هناك مفهوماً واحداً لكل أمرٍ دينيّ، أياً كان مصدر هذا المفهوم. يرتبط بهذا المفهوم أيضاً، تصورٌ لعلاقة الإنسان بربه، هذا التصور القائم على أن الإنسان مطلوبٌ منه أن ينفذ ما أُمِر به كما هو، دون تفكيرٍ أو تفكرٍ أو تأملٍ أو تدبر. يرتبط أيضاً بهذا المفهوم، تصورٌ عن العالم الماديّ والأخرويّ. في هذا العالم الماديّ، عليك أن تقوم بشكلٍ معين محدد، في دائرةٍ لا تخرج عنها، فالعالم الأخروي أيضاً، مرسومٌ ومتصور بصورةٍ تجسيدية، وهناك أحكامٌ جاهزة تصنف الناس، فتضع إنساناً في جنةٍ وآخر في نار. وينطلق من هذا المفهوم مفاهيم متعددة، تتراوح بين التشدد في جزءٍ، وبين التيسير في جزءٍ آخر، ولكنها كلها في إطارٍ مقيد، لا يستطيع أن يخرج عن هذا الإطار، وهو إطار العلاقة بين الإنسان وربه، إنها علاقةٌ قائمةٌ على أمرٍ وطاعةٍ، دون فهمٍ لمدلول الأمر أو لمعنى القيام في الطاعة.
وهناك على النقيض مفهومٌ آخر، يصل إلى كفرٍ كاملٍ بكل هذه الصور، التي يرسمها من يطلقون على أنفسهم أصحاب دين، فيروا في أمورٍ كثيرة، أنه ليس لها معنى، فيرفضون كل هذا التصور المتدين رفضاً كاملاً. يرون في المادية كل شيء، وفي وجودهم الحاضر كل شيء، وأن الحسن هو ما استحسنوه، وأن القبيح ما استقبحوه، وأن وجودهم الأرضي هو كل شيء، وأن الغيب لا يعنيهم، فهم لا يعرفونه ولا يستطيعون أن يعرفوه، قيمهم قيمٌ مادية، وقد تصل قيمهم في بعض الأمور، إلى ما قد يصل له الآخرون المتدينون، ولكن الغيب لا وجود له عندهم، وأن ارتباط وجودهم على هذه الأرض بوجودٍ أخروي لا معنى له عندهم، وينبثق عن هذا الإطار جماعات كثيرة، تختلف فيما بينها، في التشدد في أمرٍ من هذه الأمور، وفي التخفيف في أمورٍ أخرى مما تراه.

والواقع، أن هناك اتجاهٌ يجمع بين الأمرين، اتجاهٌ يرى في الواقعية وفي مصلحة المجتمع أنه هدفٌ أساسيّ، يجب أن نبذل جهداً لنعرف ما هو أفضل من خلال واقعنا، ومن خلال قائمنا، من خلال حياتنا وممارساتنا المادية، وأننا في معاملاتنا على هذه الأرض، علينا أن نبحث عما نرى أنه الأفضل بمقاييسنا. فهذا الاتجاه بهذه الصورة، يميل في هذا الجانب الأرضي، إلى الذين يُعملون عقولهم إعمالاً كاملاً، ولا يريدوا أن يربطوا بين هذا الأمر الدنيوي، وبين أمورٍ غيبية.
ولكن الفارق، هو أن الذين يرون كذلك ـ هذا الاتجاه الوسطي، يرى أن هذا من الدين وليس خارج الدين، بل أنه يرى أن الدين قد أمر الإنسان أن يكون واقعياً، وأن يكون علمياً، بأن يبحث في علوم أرضه، وفي أسباب وجودها، "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ..."[العنكبوت 20]، بل أنهم يروا، أن الدين قد أكبر "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ..."[آل عمران 191]، بل أنه يرى أن الأمر النبوي [أنتم أدرى بشئون دنياكم](1)، وأن الأمر الإلهي "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ..."[آل عمران 104]*، هو أمرٌ أن يُعمِل الناس عقولهم وأفكارهم، وأن يبحثوا ويطوروا، فليس هناك خلافٌ بين أن تؤمن بالغيب، وبين أن تكون واقعياً مادياً فيما يختص أمور الدنيا.
ونحن لا نقصد هنا بالمادية، هي مادية الإنسان في أنانيته واستئثاره بسلطةٍ أو بمالٍ، أو باستغلال آخرٍ أو آخرين، لأنه لا يرى إلا هذه الدنيا المادية، نحن لا نقصد بالمادية هنا ذلك، إنما نقصد الأفضل للإنسان على هذه الأرض، بأن يرى أن الأفضل أن يكون أخوه الإنسان صالحاً مكتفياً، يعيش عيشةً راضية، وأن يساعده وأن يعطيه، وأن يبذل جهده ليكون الكل  في حالٍ راضٍ على هذه الأرض. نحن هنا، نرى في ذلك قيماً حقية، ولكن في صورةٍ مادية.
بل أن الصورة، التي قد يقوم فيها البعض، من الذين يتدينون أو ينتسبون لصورة دينٍ أو لشكل دين، ربما تكون قلوبهم قاسية بظن دينٍ، فلا يهمهم الفقير، لأن هذا نصيبه وقدره، فلذلك وصفهم القرآن في ذلك بقوله ـ حين يصف ـ: "كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ"[الإنفطار 9]، "وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً" [الفجر 20:18]، والذين يمنعون الماعون ـ  حين ـ "فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ"[الماعون 7:4]، في أن التجسيد الشديد في الدين، ربما يجعل من الإنسان جامداً، فهو لا يهمه الآخرين، وإنما هو يؤدي ما يؤمر به، فإذا كان يؤدي زكاةً، فهو يؤديها ولا يزيد، ولا يتطوع خيراً ولا يبذل جهداً مضاعفاً، حين يرى أن هناك إنساناً في حاجةٍ إليه، وهنا تقسو القلوب بظن دين.
فمن يرى أن إصلاح الدنيا، بكل القيم التي تكمن في قلب كل إنسانٍ صادقٍ، وأن هذا من الدين، وأنه في نفس الوقت، يؤمن بأنه كإنسان، بما فيه من طاقةٍ وبما فيه من قدرةٍ، له امتدادٌ وله حياةٌ أخرى، فهو لا يترك هذا الأمر، وإنما يعلم أنه في حاجةٍ لعونٍ من الغيب، إنه يؤمن بالغيب، وإنه يقرأ آيات الغيب، ولكنه يتدبرها ويتأملها ويستوعبها، ويرى فيها تعدداً، ويرى فيها مستوياتٍ مختلفة، ويعرف مقاصدها، فيكون قادراً حين يقرأها، أن يوائم ويتوائم معها، فيما يعقله من واقعٍ يعيشه له آثاره ونتائجه، وبين إيمانٍ بمصدرها وبدلالتها وبتأثيرها على وجوده وحياته.
لذلك، انظروا حولكم، وتأملوا وتدبروا فيما يُقال في مجتمعكم، فما يُقال، هو تعبيرٌ عن هذه الأحوال وعن هذه الصور وعن هذه الأشكال، فتأملوها وتدبروها، لتعرفوا أين أنتم، وما هو موقعكم وما هو موقفكم فيما يُقال حولكم، تأملوه بعقولكم، وتدبروه بقلوبكم، لتتعلموا، وليكون لكم حالٌ وموقف، تدفعوا به وفيه إلى الخير، وتدعوا الله بما تروه خيراً وما تروه حقاً، لوجودكم ولبلدكم ولمجتمعكم.

نسأل الله: أن يوفقنا أن نكون عباداً له صالحين، وأن نكون من "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ..."[الزمر 18].                
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
___________________

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أن في كل قضيةٍ، هناك مفاهيمٌ متعددة، والدين كمفهومٍ، يتعدد في عقول الناس، في رؤيتهم له، وفي تعاملهم معه. والحقيقة، أن الدين كمفهومٍ مطلق، لا يستطيع إنسانٌ أن يحيط به، لأنه حكمة الله التي خلقها، وأسبابه التي أوجد، وقوانينه التي أنشأ، وإنما كلٌ يفهم بقدره، ويأخذ من آيات الله بقدره، "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ..."[البقرة 286].
لذلك، فإن ما نراه أمامنا، وما نسمعه حولنا، ومفاهيمٌ متعددة، أو تعبيراتٌ متعددة، عن الدين، وعما يجب أن يكون عليه الإنسان في قيامه على هذه الأرض، يتراوح هذا بين تقييدٍ كاملٍ لحرية الإنسان في أطرٍ محددة، وبين انفلاتٍ كاملٍ للإنسان في حركته وفي فكره، بحيث يكفر بأي غيبٍ وبأي قيدٍ وبأي آيةٍ وبأي تبليغٍ.
وفي واقع الأمر، أن كلاً من هذين الاتجاهين المتناقضين المتطرفين، هو نتيجةٌ للآخر، فالتقييد الشديد الذي رآه الناس في بعض الجماعات أو في تاريخ البشرية، جعل جماعةً تنفلت انفلاتاً كبيراً من هذا القيد، الذي كان غير مبرر، والذي يتعارض مع أبسط المفاهيم وأبسط الحقائق، التي قد يجدها الإنسان واضحةً جلية.
فحين يكتشف البعض حقيقةً علمية، ثم يجدوا أن الجماعة الدينية، ترفض هذه الحقيقة باسم الدين، فما هو الواقع الذي يكون أو ما يجب أن يكون؟ إنه ـ أي إنسانٍ يرى ذلك، ربما يفقد ثقته الكاملة في الدين، هذا ما حدث في البلاد الغربية في وقتٍ ما. وحين يرى البعض اليوم، تسيباً شديداً في قضايا معينة، فربما يرفض ذلك، ويتجه إلى التطرف المقيد في أمر الدين. وهو في واقع الأمر، أن كل اتجاهٍ يوم يسرف في اتجاهه، يخلق نقيضه، لأن لأي فعلٍ يقوم به إنسان، رد فعلٍ من إنسانٍ آخر، فتتسع الفجوة والجفوة بين الاتجاهين.
مع أن الحقيقة التي جاء بها ديننا ـ كما نفهمه ـ هو التقريب بين الاتجاهين، فهو يحترم العقل وما يكشف عنه من نتائج، بل يأمر بذلك، وفي نفس الوقت، هو يكشف للإنسان أن له حياةً أخرى، عليه أن يعد نفسه لها، دون أن يكون إعداده لنفسه، متناقضاً مع حياته على هذه الأرض وما يحدث عليها، وقد أعطى للإنسان في ذلك كل الحقوق، فهو يريد إنساناً يصل إلى الحقيقة بعقله وبقلبه، وأن يطبق ذلك عن إيمانٍ في عمله، لا يريد إنساناً مقلداً دون وعيٍ ودون فهمٍ، وإنما يريد إنساناً متفكراً متدبراً ذاكراً متسائلاً، يبحث عن الحقيقة، حتى يصل إليها ويطمئن إليها قلبه.

عباد الله: نسأل الله: أن نقوم أمراً وسطاً، وأن نكون أهلاً لرحمة الله، ولنعمة الله، ولكرم الله.
اللهم وهذا حالنا، وهذا قيامنا نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ منك إلا إليك.
اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين،عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا.
  
خطبة الجمعة
 12 صفر 1433 هـ
الموافق 6 يناير 2012م
_______________

(1) أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون . فقال " لو لم تفعلوا لصلح " قال فخرج شيصا . فمر بهم فقال " ما لنخلكم ؟ " قالوا : قلت كذا وكذا . قال " أنتم أعلم بأمر دنياكم".الراوي: أنس بن مالك ، المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم ، وفي رواية أخري : "سمع أصواتا فقال ما هذا الصوت قالوا النخل يؤبرونها فقال لو لم يفعلوا لصلح فلم يؤبروا عامئذ فصار شيصا فذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال إن كان شيئا من أمر دنياكم فشأنكم به وإن كان من أمور دينكم فإلي". الراوي: عائشة ، المحدث: الألباني  - المصدر: صحيح ابن ماجه.

ملحوظة : يؤبرون النخل: يلقحونها . الشيص : تمر لم يتم نضجه.

* "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ..."[آل عمران 110].



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق