الأحد، 23 مارس 2014

ديننا يعلمنا منهجاً لنُقِيم الاتزان في تعاملنا مع واقعنا المادي والروحي، ومستقبلنا في آخرتنا




حديث الجمعة
 20 جمادى الأول 1435هـ الموافق 21 مارس 2014م
السيد/ علي رافع



حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
الحمد لله، الذي جمعنا على ذكره، وعلى طلبه، وعلى مقصود وجهه.
الحمد لله، الذي جعل لنا حديثاً متصلاً، نتواصى فيه بالحق والصبر بيننا، نتدبر أمور حياتنا وأمور ديننا، مدركين أن آيات الله، تخاطبنا في كل ما يحدث حولنا، "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ..."[فصلت 53].
نتعلم، أن آيات الله جاءت وتجيئ دائماً، لتكشف لنا، عن أسرار وجودنا، وعما هو موجودٌ في قلوبنا. جاءت، لتضع لنا منهجاً، نستطيع أن نتعامل به مع واقعنا، مع مادي وجودنا، وأيضاً مع أرواحنا ومعنوي حياتنا، ومستقبلنا في آخرتنا.
جاء الدين، ليكشف للإنسان، عن منهجٍ يقوم على ما أودع الله في الإنسان من طاقاتٍ وقدرات. جاء الدين، ليعلم الإنسان، كيف يستغل هذه الطاقات، في أن يكون في حياةٍ أفضل، في الدنيا وفي الآخرة. جاء الدين، متوافقاً مع قوانين هذه الأرض، مع أسبابها، ومع أدواتها، ومع ما يستحسنه الإنسان من أمورٍ عليها.
لذلك، نجد دائماً هذا المقصد، في كل ما أُمِرنا به من أمورٍ على أرضنا. وعلمنا الحق، أن "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا..."[البقرة 286]، [يسر ولا تعسر، بشر ولا تنفر](1). والله يعلم ما في الإنسان من ضعفٍ، وهذا الضعف، قد يكون مطلوباً ليعيش الإنسان على هذه الأرض، "قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً"[الإسراء 95].
فكانت نفس الإنسان، بما فيها من بعض ظلمات، هي وِجَاءٌ له من ظلمات هذه الحياة الدنيا. "فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا"[الشمس 8]. فالله لم يلهم النفس فجورها هباءاً أو باطلاً، ولكن لأن لهذا الفجور ــ إن جاز لنا التعبير ــ وظيفةٌ في الإنسان، في معيشته على هذه الأرض. ولكنه في نفس الوقت، ألهمها أيضاً تقواها، حتى يقوم الاتزان، "وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ"[الرحمن 9]، "وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ"[الرحمن 8،7].
هذا الاتزان في الإنسان، هو الذي يجعله يسير على الصراط المستقيم. فإذا اختل هذا الميزان، بأن طغى فجور النفس على تقواها، وأفاق الإنسان فوجد هذا الحال وقد اختل، فقد أوجد الله له مخرجاً بأن يستغفر الله، وأن يتوب إلى الله، "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا..."[الزمر 53]، "إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء..."[النساء 48].
هذا، كشفٌ لقوانين هذه الحياة في الناحية المعنوية، وأوجد الله لنا أدوات، "...ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ..."[غافر 60]. فكانت العبادات كلها دعاء، الصلاة دعاء، والصوم دعاء، والحج دعاء، والزكاة دعاء، وكل تعاملٍ صالحٍ دعاء، وكل احتسابٍ عند الله دعاء، وكل أذىً يصيبك دعاء. لأن الدعاء، هو وسيلةٌ لأن يعتدل الميزان.
"...رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا..."[آل عمران 193]، وما تكفير السيئات، إلا ما يصيب الإنسان من أمورٍ، تجعله يفيق ويتجه إلى الطريق المستقيم. وهكذا، نجد أن الدين يعلمنا منهجاً، قبل أن يعلمنا أشكالاً وصوراً، وما المناسك التي علمنا الدين إياها، إلا وسائل لتطبيق هذا المنهج.
لذلك، فإن من يفصل بين المنهج وبين وسائل تطبيقه، يخل بالميزان. فإذا نظرنا إلى المناسك في المطلق، دون أن نرجعها إلى منهج الدين الذي علمه للإنسان، فإنها تصبح أعمالاً بلا جذور، وبلا أثرٍ أو تأثير.
وقد عبر الرسول ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ عن ذلك بقوله: [من لم تنهه صلاته فلا صلاة له](2)، [وكم من صائمٍ لم يأخذ من صيامه إلا الجوع والعطش](3). لأن كل هذه المناسك، تصبح أفعالاً حركية، أو أفعالاً مادية جسدية، ليس فيها روح، وليس لها دافع، وليس لها أثر.
بل إننا يوم نفصل بين المنهج وبين الأفعال، فإننا نجد أموراً عجيبة وكلاماً عجيباً، يطلقه البعض هنا وهناك، وينسبونه إلى الدين، فيصبح الدين مجرد كلمات وأفعال لذاتها، دون وضوح رؤية لمقاصدها وأهدافها، وكيف تتكامل مع حياة الإنسان ككل، ومع هدفه الأسمى في أن يكون إنساناً فالحاً صالحاً، هيأ وجوده لحياةٍ ممتدة بعد انطلاقه من هذه الأرض. هذا، من الجانب المعنويّ والروحيّ للإنسان.
أما من الجانب الماديّ الحياتيّ، فإنه أيضاً يقوم ويرتكز على هذا المنهج، الذي هو أساسه صلاح الإنسان وفلاحه، وأيضاً على هذا الاتزان في داخله، وإنما ينعكس ذلك أيضاً على معاملاته المادية على هذه الأرض، فيكون مراقباً لنفسه، في أخذها وعطائها.
ويصف لنا الحق، حال الإنسان في اعتلال هذا الميزان إلى جانب الظلام، فيصف المطففين "الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ"[المطففين 3،2]، وهذا هو الحال في أي معاملة، فأي معاملةٍ فيها أخذٌ وعطاء. وعليك أن تراقب نفسك في أخذك وعطائك، وهذا هو الميزان الذي تزن به أفعالك وأعمالك، وهذا هو الميزان الذي تزن به مفهومك في تطبيق ما أمر به الله.
فإذا وجدت مفهومك قد اعتل، بأن الأخذ والعطاء غير متكافئٍ، فعليك أن تغير مفهومك. وإذا وجدت أن مفهومك يكلف الناس أكثر من طاقاتهم، فعليك أن تراجع أيضاً مفهومك. وإذا وجدت أن مفهومك يتدخل في حياة الناس، وفي قلوبهم وضمائرهم، فاعلم أنك يجب أن تغير مفهومك.
لقد أوجد الله للإنسان دائرته، التي لا يجب لآخرٍ أن يخترقها، بأن لا يحكم على ما في قلبه، وأن ليس له من الإنسان إلا ما أظهره، فها هو رسول الله ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ يراجع أحد الصحابة، يوم قتل مشركاً بعد أن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقال له الصحابي: إنما يقول ذلك ليحمي نفسه من القتل، فيقول له الرسول: أَوَ اطلعت على قلبه؟
كل إنسانٍ له تقديره واحترامه، لا يجب أن يتدخل الإنسان، ويحكم على ما في قلب الإنسان وفي ضميره، فإذا وجدت هناك من الناس من يقتحمون البيوت، ويحكمون على ضمائر الناس بدون بَيِّنة، فإن ذلك يجب أن يُراجَع.
وإذا كان البعض قد فهم من بعض الآيات أو الأحاديث، ما يجعلهم يقومون بذلك، فواجبٌ أن يراجعوا مفاهيمهم. وقد أوجد الدين من المعايير والقيود، ما يجعلنا نصحح مفاهيمنا، وأن نأخذ المفهوم الذي يعتدل به ميزاننا. وهكذا، نكون مطبقين للدين حقاً.
فتطبيق الدين، هو منهجٌ يتوافق مع العقل، ومع الفطرة، ومع ما هو أحسن وأقوم، ومع ما يتوافق عليه الناس، "...تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ"[العصر 3]، "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ..."[آل عمران 104]، ويؤمنون بالله*. هكذا، يكون تطبيق الدين على هذه الأرض.
عباد الله: نسأل الله: أن يوفقنا لما فيه صلاحنا، ولما فيه نجاتنا، وأن يجعلنا فيمن "..يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ..."[الزمر 18]، ومن الذين يرجون لقاء ربهم.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أن ديننا، جاء ليعلمنا منهجاً يتوافق مع قوانين الحياة، ومع الفطرة السليمة، ومع ما أعطى الله الإنسان من نعمٍ، أولها العقل، والضمير، والقلب الحي، وما تحمله هذه الطاقات من محبةٍ لكل كائنٍ على هذه الأرض، ومن تكافلٍ مع كل كائنٍ على هذه الأرض، ومن شفقة ومن حبٍ للمساعدة والعطاء.
كل ما أمر به الله، يتوافق مع عطائه، ويتوافق مع خلقه الذي خلق، وإذا كان بعض الناس يختل عندهم الميزان في جانب فجورٍ، أو ظلمٍ، أو أثرةٍ، أو أخذٍ ـ فقد أوجد الله فيهم أيضاً، قدراً من التقوى التي تُذكِّرهم، وجعل لهم على هذه الأرض، من إخوانٍ لهم في البشرية، من يُذَكِّر بالحسنى، "فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى، سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى، وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى"[الأعلى 11:9].
ولا تكون الذكرى، إلا بالمنهج الذي يقبله كل عقلٍ أياً كان، وبالفطرة التي يقبلها كل إنسانٍ مهما كان، وهذه هي الكلمة السواء التي أُمِرنا أن ندعو بها، "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ..."[آل عمران 64].
فأنت يوم تُذَكِّر، لا تتصور أنك إله، تريد أن تُخضِع الآخر، وأنك أفضل منه، تريد أن تجعله مثلك، وإنما تجادل بالتي هي أحسن، كيف يكون الناس أحسن، كيف يكون المجتمع أحسن، كيف يكون الإنسان أحسن، كيف يكون عندك رؤية لوجودك على هذه الأرض، في تعاملك مع كل الناس عليها، بل مع كل الكائنات عليها.
أتريد أن تكون وحدك الذي يملك كل شيء، ودونك لا يملك شيئا؟ كيف تعيش في عالمٍ كهذا؟ إنك لن تستطيع أن تعيش، وهذا حال مجتمعك وبيئتك. إنك في حاجةٍ أن تكون معطياً، كريماً، شاعراً بالناس جميعاً، تريد أن تساعد كل من يحتاج إليك.
علينا أن نُذَكِّر بذلك، وكل إنسانٍ في غفلةٍ عن ذلك، إذا سمع توجيهاً فيه تذكيرٌ برفق، فإنه سوف يتغير تغيراً كبيرا، "...ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ..."[فصلت 34]، "اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى"[طه 44،43]، "سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى".
هل ذلك يعني أن الكل سوف يتذَكَّر؟ لا، ليس كذلك، "سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى، وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى"، فهذا واردٌ، وستظل الدنيا فيها من هم أشقى. ولكن من هم أهلٌ للتغيير، لا يجب أن يفقدهم أهل الخير، أن لا يكون أهل الخير وسيلةً لدفع الناس إلى الشر، بسوء فهمهم، وبسوء دعوتهم.
وهذا، ما نجده في بعض الأحيان، من أناسٍ هم في ظاهرهم يريدون أن يستقيموا كما أُمِروا في الدين، ولكن بجهلهم وبسوء دعوتهم، قد يُنفِّرون الناس من الدين، بذلك يكونون أداة سوءٍ، وليسوا أداة خير. الذين "...يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا"[الكهف 104]، الذين يحسبون هذا "...أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ..."[النور 39].
عباد الله: نسأل الله: أن نكون من الذين يُذَكِّرون بما هو أفضل، وبما هو أحسن، وبما هو أقوم، أن نكون من الذين يدعون بالكلمة السواء، وأن نكون أداة خيرٍ وسلامٍ ورحمة لنا، ولبلدنا، ولأرضنا.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه الناس حولنا.
اللهم ونحن نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا.







____________________

(1)  حديث شريف: "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا". الراوي: أنس بن مالك المحدث: البخاري- المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 69.

(2) أخرجه الطبراني الجامع الصغير للسيوطي بنص:"من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً ".

(3) حديث شريف نصه :"رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر". الراوي: عبد الله بن عمر المحدث: الألباني.

*"كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ..."[آل عمران 110].

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق