الجمعة، 29 مايو 2015

علينا أن نتعلم كيف نخطو خطواتٍ على أرضنا، لنصل إلى أقصى ما يمكن أن نحققه عليها



حديث الجمعة
 4 شعبان 1436هـ الموافق 22 مايو 2015م
السيد/ علي رافع

      حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
      عباد الله: يا من ترجون لقاء الله، ويا من تجتمعون على ذكر الله، ويا من تقصدون وجه الله، حديث الحق لكم يرشدكم ويعلمكم، كيف تكونون عباداً لله، وكيف تكونون في طريق الحياة. يعلمكم كيف أن اجتماعكم على ذكر الله وأن تواصيكم بالحق والصبر بينكم، يساعدكم على أن تخطوا خطواتٍ إلى الأمام، أن تتقدموا يوماً بعد يوم في طريق حياتكم وإحيائكم، إحياء قلوبكم وإنارة عقولكم وتزكية نفوسكم.
      الحياة، طريقٌ نسير فيه من مرحلةٍ إلى مرحلة، ومن مستوىً إلى مستوى، ومن حالٍ إلى حال. القضية، أن نبدأ المسير، وأن نكون في جمعٍ يُمَكِّننا من ذلك، يمنحنا قوةً تدفعنا في طريقنا.
[سر بي إلى حيهم ودعني ... في أي صورةٍ فلا أبالي
الكل عندي جنة خلدٍ ... ما دمت في حضرة الرجال](1)
إنه يتكلم عن الحال، يتكلم عن الجمع، يتكلم عن الحضرة.
      فالذي هو في هذا الجمع، سوف يواصل المسير، سوف يتغير حاله من مستوىً إلى مستوىً أعلى، " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى"[الأعلى 3:1]، سبح اسم ربك الأعلى، تسبيحٌ دائم. ونحن في صلاتنا في سجودنا نسبح باسم ربنا الأعلى، وهذا معناه، الارتقاء من حالٍ إلى حالٍ أعلى. فإسمه الأعلى، أن المعراج فيه لا نهاية له.
      ونحن نرجو في حياتنا أن نتقدم يوماً عن يوم، وأن نرتقي يوماً عن يوم، وأن نعرج يوماً عن يوم. إنا نقول ذلك، لنفرق بين إنسانٍ طالبٍ دائمٍ للعلم والمعرفة والارتقاء، وبين إنسانٍ متوقفٍ عند حال، يظن أنه قد عرف الدين وعرف الحياة في نقطةٍ ما ولا يتحرك منها. فكثيرٌ من الناس يتصورون أن الدين هو مجموعةٌ من المناسك يؤدونها بجوارحهم، فإن فعلوا ذلك، فهذا كل شيءٍ بالنسبة لهم.
      يقومون في هذه المناسك يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وسنةً بعد سنة، وهم لا يتفكرون فيما يقومون به وفيما يؤدونه من عباداتٍ تساعدهم على أن يتحركوا إلى الأمام، وأن يرتفعوا إلى أعلى.
      فحركة الإنسان في ارتقائه، هي تحركٌ في مستوىً أفقيّ على أرضه، يقترب فيه من معنى الحقيقة القائمة على هذه الأرض. وهناك حركةٌ رأسية، وهي أن يعلو عن ذاته في اتجاه الأعلى، بحيث تسمو صفاته، وتنطلق روحه، وينير عقله، ويحيا قلبه، مرتفعاً عن نفسه الأمارة بالسوء، وعن ذاته المتثاقلة إلى الأرض. وهذا ما تشير إليه رحلة الإسراء والمعراج، كما سبق وتكلمنا في ذلك.
      فالإسراء حركةٌ أفقية، والمعراج حركةٌ رأسية. هذا هو الهدف الذي تشير إليه رحلة الإسراء والمعراج، "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ"[الإسراء 1].
      فإذا رجعنا خطوةً إلى الخلف، لننظر كيف نكون في المسجد الحرام، وجدنا ما جاء في منتصف شعبان من توجيهنا إلى قبلةٍ نرضاها، "قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا..."[البقرة 144].
      فتَوَجُّهنا إلى القبلة في صلاتنا، تَوَجُّهنا إلى البيت الحرام في صلاتنا، هو تعبيرٌ عن رغبتنا في أن نكون في البيت الحرام، أن نكون في دائرته، أن نكون في حرمه، أن نكون في جواره، أن نكون في ذلك بقلوبنا وعقولنا وأرواحنا.
      بهذا، نكون في المسجد الحرام، الذي منه يساعدنا الله أن نسير في اتجاهٍ أفقيّ إلى أقصى ما يمكننا أن نُحَصِّله على أرضنا. وهذا ما نذاكر فيه اليوم، من أن علينا أن نتعلم كيف نخطو خطواتٍ على أرضنا، لنصل إلى أقصى ما يمكن أن نحققه عليها.
      لذلك، فنحن في حاجةٍ إلى طاقةٍ تدفعنا في هذه الحركة. وهذه الطاقة، هي بالجمع على ذكر الله، هي بالتواصي بالحق الذي لن ينتهي أبداً. كلما غاص الإنسان في داخله واتجه إلى قلبه، وجد حقاً أكبر، ووجد فهماً أعمق، ووجد نوراً أشمل، ووجد معرفةً أفضل، ووجد ذكراً أعظم، ووجد إسماً أعلى. بالتواصي بالحق، نجد دائماً ما هو أقوم، وما هو أفضل، وما هو أعظم، وما هو أعلى.
      وبالتواصي بالصبر، لا نمل في بحثنا، ولا في ذكرنا، ولا في محاولاتنا. لا نفرح بما وصلنا إليه فنتوقف، ولا نحزن على ما فاتنا فنيأس، إنما نصبر صبراً جميلا، نطمع في رحمة الله، ونطمع في مغفرة الله، ونطمع في كرم الله وفي عطاء الله.
      نطمع في رحمة الله ومغفرته حتى لا نأسى على ما فاتنا، ونطمع في عطاء الله وجوده وكرمه حتى نتقدم إلى الأمام، فيكون تقدمنا هو وسيلةٌ لتبديل ما فاتنا إلى أحسن، "فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ..."[الفرقان 70].
      عباد الله: نسأل الله: أن نكون دائماً مستقبلين قبلتنا، متوجهين إليها، شادين الرحال إليها بقلوبنا وبعقولنا وبأرواحنا، آملين أن يكون يومنا أفضل من أمسنا، وغدنا أفضل من يومنا، في حركةٍ دائمةٍ على أرضنا في اتجاه الحق والصلاح والفلاح.
      فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
      الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
      عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أن علينا أن نسعى على هذه الأرض، لنكون أكثر تأملاً وتفكراً وأكثر ذكراً وأكثر عملاً صالحاً، لنكون في كل يومٍ في حالٍ أفضل، ساعين أن نكون في معنى العبودية لله، وأن نكون في حرم بيت الله، مقتدين برسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ، آملين أن يأخذ الله بيدنا لنصل إلى أقصى ما يمكن أن نصل إليه على أرضنا، وأن يأخذ كذلك بناصيتنا ليعرج بنا في سماوات العلا، من سماءٍ إلى سماء، من حالٍ إلى حال، ومن مقامٍ إلى مقام.
      في سبيل ذلك، نجاهد أنفسنا التي تجعلنا نتثاقل إلى الأرض، والتي تقيد حركتنا فلا ننطلق مجيبين لدعوة الداعي إذا دعانا. نجاهد أنفسنا بما تعلمناه فيما جاء به رسولنا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وفيما جاء به كل الرسل، بأن نطلب قوةً وأن نطلب مدداً بدعائنا وصلاتنا، وأن نُهذِّب أنفسنا بصومنا، وأن نشد الرحال بقلوبنا إلى قبلتنا، وأن نتواصى بالحق والصبر بيننا.
      "وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ"[العصر 3:1]. هذه الآيات الكريمة، تُلخِّص سلوك الإنسان على هذه الأرض، وتعلمه المحاولة المستمرة والجهاد الدائم فيما يحمله التواصي بالحق والتواصي بالصبر من معنى في الاستمرارية وعدم الوقوف عند نقطةٍ، إنما في سعيٍ دائم، في معرفةٍ دائمة، في ذكرٍ دائمٍ لا يتوقف.
       إن الأحداث التي حدثت على أرضنا في الرسالة المحمدية، تشير إلى الطريق الذي يجب أن نسلكه. والحق حين جاء بحادث الإسراء والمعراج، ما جاء به كحادثةٍ نذكرها تاريخياً ونتحاكى بما جاء فيها، وإنما هي تعبيرٌ مستمر عن معنى المواصلة على هذه الأرض، وعن أن نكون أهلاً لأن يأخذ الله بأيدينا لنحقق ما خَلقنا من أجله على هذه الأرض، ولأن يأخذ بنواصينا لنحقق ما أراده لنا بعد هذه الأرض. فنضع هذا كهدفٍ لنا يوم نقرأ ما فيه من إشارات، ثم يعلمنا كيف نكون أهلاً لذلك، فيعلمنا معنى القبلة، ثم يعلمنا كيف نقترب من القبلة، فيجيئ شهر الصوم لمجاهدة نفوسنا لنتخفف من أحمالنا، وننطلق في اتجاه قبلتنا.
      هكذا نقرأ ديننا، وهكذا نقرأ سيرة نبينا، متأملين متدبرين في كل أحداثها وفي كل مراحلها، لا نَقُصُّ ما حدث على أنه تاريخ، وإنما نقرؤه قراءةً مستمرة مادمنا موجودين على هذه الأرض. نقرؤه لنتعلم ولنتدبر، ولنتحرك إلى ما هو أفضل وإلى ما هو أقوم .
      اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا وتعلم ما عليه الناس حولنا.
اللهم ونحن نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
      اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
      اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
      اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
      اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلا قضيتها.
      اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
      يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا.








­___________________________

(1)  من أشعار الصوفية.

إذا رَضُوا بِي أَهْلُ الوصالِ ... فَكُلُّ حالي عينُ الجمالِ
سِرْ بي إلي حَيِّهِمْ وَدَعْنِي ... فِي أي طَوْرٍ فلا أُبَالِي
إن عَذَّبوني أو رَحَمُونِي ... فالعَبْدُ عَبْدٌ في كلِّ حالِ
مَوْتِي حَيَاتِي مَحْوِي ثَبَاتِي ... ذُلِّي عِزِّي فَقْرِي كَمَالِي
الكلُّ عِنْدِي جنَّاتُ خُلْديٍ ... ما دُمْتُ فِي حَضْرَةِ الرِّجَالِ



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق