الثلاثاء، 12 نوفمبر 2019

رسول الله هو معنىً دائم نستطيع أن نستحضره وإن ابتعدت ذواتنا عن عصر النُّبوَّة لأنَّ معناه وروحه ونوره دائمًا موجود


حديث الجمعة 
4 ربيع الأول 1441هـ الموافق 1 نوفمبر 2019م
السيد/ علي رافع

حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
نستعين بالله ونستنصره، ونعوذ به من الشَّيطان الرَّجيم، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، نسأله هدايةً، وتوفيقًا ورحمة.
"... وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً"[الإسراء 15]، "وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ"[الذاريات 21]، "... إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا"[الأحزاب 46،45]، "لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ "[التوبة  128].
إنَّا حين نتحدَّث عن رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يجول في أذهان الكثيرين أنَّ الحديث يدور حول الذَّات المُحمَّديَّة التي ظهرت على هذه الأرض منذ أربعة عشر قرنًا، وهذا هو واقعٌ وحقيقة، وإن كان معنى رسول الله يتَّسع لمعانٍ أكبر.
والآيات التي تخاطبنا وتُحدِّثنا عن رسول الله، هي آياتٌ دائمة؛ لأنَّ معنى رسول الله وامتداده هو رحمةٌ الله، هو قانون رحمة الله، هو اسم الله الرَّحمن الرَّحيم، هو كلُّ آيةٍ تُبلِّغ الإنسان رسالة، هو كلُّ ظاهرةٍ تفتح للبشريَّة بابًا، هو كلُّ نورٍ يُضيء ظلامًا، هو كلُّ توفيقٍ يُوفَّق فيه الإنسان، هو كلُّ وصلةٍ بغيبٍ، هو كلُّ مددٍ من الغيب، هو كلُّ استجابةٍ لدعاء، هو كلُّ عنايةٍ ورعاية.
فـ "النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ..."[الأحزاب 6]، هو معنىً دائم. "... وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ..."[الأنعام 122]، هو معنىً دائم. "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً"، هو معنىً دائم. و[يبعث الله على رأس كل قرنٍ من يجدد لأمَّتي أمور دينها](1)، هو أمرٌ دائم. وأن نقتدي بما جاءت به الذَّات المُحمَّديَّة ـ صلوات الله وسلامه عليها ـ هو أمرٌ دائم.
من هذه التَّعاليم، خشية الله، [أنا أقربكم من الله وأخوفكم منه](2)، [لا يدخل الجنَّة أحدكم بعمله، حتَّى أنت يا رسول الله، حتى أنا ما لم يتغمدن الله برحمته](3)، "... اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ"[آل عمران 102]. فما معنى خشية الله، وتقوى الله؟
إنَّها إدراك الإنسان أنَّه لا يعلم إلَّا القليل، وأنَّ عليه وهو يعمل بما يعلم ألَّا يغترَّ بعمله، وألَّا يغترَّ بقوله، فلا يُسرع ويَتسرَّع في حكمٍ، لا يحكم على من يعارضه فكرًا أو قولًا أو عملًا، إنَّما يدرك أنَّنا في الدُّنيا نسير في حجابٍ من ظلام، وأنَّه مع ذلك، جعل الله لنا نورًا في قلوبنا نستطيع أن نتَّجه إليه، وأن نهتدي به، "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ..."[البقرة 286].
أصبحت مرجعيَّتك هي ما فيك من نورٍ، وما فيك من فطرة، [إستفت قلبك وإن أفتوك، وإن أفتوك، وإن أفتوك](4)، وتعلم أنَّ كلَّ إنسانٍ عنده هذا النُّور بقدره، وأنَّ الاختلاف واردٌ.
ومن هنا، كان الأمر أن نتواصى بالحقِّ وأن نتواصى بالصَّبر، أن يُعبِّر كلُّ إنسانٍ عن النُّور فيه بقدره، وأن يستمع للآخر، وأن يبحثا معًا عمَّا هو أفضل لهما، فإن لم يجدا ما يتَّفقان عليه، فليفعل كلٌّ ما يرى أنَّه الخير، دون صراعٍ، ودون كراهيةٍ، ودون حكمٍ من أحدٍ على أحد.
سيظلُّ الإنسان في الدُّنيا كذلك، وستظلُّ هناك الرُّؤى المختلفة، وكانت هذه الرُّؤى موجودةً في قديم، في الحياة الظَّاهرة للذَّات المُحمَّديَّة، وفيما حدث بعد انتقاله إلى الرَّفيق الأعلى.
بعض النَّاس ينظرون إلى اختلاف الصَّحابة بعد انتقال رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ على أنَّه كيف يحدث ذلك؟ ولكن ما حدث ذلك إلَّا ليُبيِّن لنا أنَّ الاختلاف واردٌ، سواء كان عهد النَّاس في اقترابٍ أو في قربٍ من عصر النُّبوَّة بظاهرها، أو ما بعد ذلك. المشكلة لم تكن ـ في تاريخنا ـ في الاختلاف، فهو أمرٌ وظاهرةٌ صحيَّة، إنَّما المشكلة كانت في أن يُكفِّر كلُّ فريقٍ الفريق الآخر، وأن يتصارع معه، وأن يتقاتل معه.
وهذا ليس تاريخ المسلمين فقط، إنَّما هو تاريخ البشريَّة في كلُّ المجتمعات، كانت هذه النَّظرة التَّفاضليَّة والأحاديَّة التي لا تريد لأحدٍ أن يخالفها، هي السِّمة الواردة والقائمة في تلك العصور، بل حتَّى عصرنا هذا، لا زلنا نرى هذا الحال في كلِّ البلدان بصورٍ متفاوتة.
ومع تطوُّر البشريَّة، وتَعلُّمها، وإدراكها أنَّه لا بد أن يكون هناك اختلافٌ في النَّظر إلى الأمور، وأنَّ على النَّاس، وعلى المجتمع، بكلِّ فئاته وبكلِّ نظراته، أن يتواصى، وأن يتناقش، وأن يبحث عمَّا هو أفضل، هو السِّمة والأسلوب الذي يجب أن يسود.
إلَّا أنَّ هذا قد ينساه البعض، ويرجعون إلى عصورٍ قديمة، لا يرون فيها ما جنته البشريَّة من هذه النَّظرة الأحاديَّة، ومن هذه الأفكار التي تريد أن تسيطر على الجميع بفكرةٍ واحدة، وبأفكار إنسانٍ واحد، يقول وقوله الحقُّ، ويفعل وفعله الخير، وما دون ذلك باطلٌ، وما دون ذلك شرٌّ.
هذا التَّوجيه من محمدٍ ـ عليه صلوات الله وسلامه ـ بتقوى الله، وبخشية الله، وأن يضرب بنفسه مثلًا، فيه خيرٌ كثير، ولكنَّ النَّاس لم يروا في هذا التَّوجيه إلَّا أن خشية الله هي مجرَّد تمسُّكٍ بعباداتٍ ومناسك، أو بصورٍ شكليَّة، وأنَّ هذه هي صفات تقوى الله وخشية الله.
ولم يعلموا أن خشية الله هي في مراقبتهم لأنفسهم في أفكارهم، وفي أحكامهم، وفي أفعالهم، وفي أفهامهم، وفي اختلافهم مع غيرهم، ومع إكبار الحقِّ عن أيِّ صورةٍ وعن أيِّ شكل، إنَّها ليست في أشكالٍ وصور، ومناسك تؤدَّى، وأقوالٍ تُقال. إنَّها حال الإنسان في إدراكه لضعفه، وفي إدراكه لنقصه، وفي إدراكه لافتقاره إلى الله، وفي إدراكه أنَّ هناك الكثير الذي لا يعلمه، ولا يعرفه.
عباد الله: نسأل الله: أن نكون متقبِّلين آيات الله، مستمعين لها، قارئين لها، فهي قول رسول الله الدَّائم، هي رحمة الله الدَّائمة، هي نور الله الذي يكشف الظّلام، هي الحقُّ الذي يعيننا على الباطل، هي النُّور، هي الحياة، هي كلُّ ما يُمكِّننا من أن نصبح أحياءً، ونصبح شهداءً، فنكون عند ربِّنا نُرزق، ونكون دائمًا في معراجٍ دائمٍ في الله.
فحمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
______________________
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نُوضِّحه اليوم، ونحن نتذكَّر مَوْلِد محمدٍ ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ على هذه الأرض: هو أن يكون تذكُّرنا هو تذكُّرٌ لما يحمله هذا المَوْلِد، ولما تحمله كلُّ الآيات التي تتحدَّث عن رسول الله.
كيف نتعامل معها اليوم؟ هل نقرؤها كتاريخ، أنَّه حدث في قديم؟ هل نقرأ: "... لَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا"[النساء 64]، هل نتذكَّرها ونتفكَّر فيها على أنَّ هذا يعود إلى أيام صحابته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ.؟  أم أنَّها آيةٌ موجَّهةٌ للنَّاس جميعًا في كلَّ وقتٍ وحين؟
وأنَّ معنى رسول الله في هذه الآية، وإن كان متوافقًا مع ما كان في عصر النُّبوَّة، وعصر محمدٍ ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ إلَّا أنَّها تحمل معنىً مستمرًّا، وهو أنَّ رحمة الله المُهداة، وهي صفةٌ من صفات رسول الله، هي صفةٌ قائمةٌ بمعنى رحمة الله الدَّائمة، وأنَّ استحضار هذا المعنى، وهذه الصِّفة كصفةٍ دائمة، وأنت تستغفر الله، هو معنى: "لَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا".
فحين تقرأ الآية: "لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ"[التوبة 128]، فإنَّك تستحضر هذا المعنى، وتعلم أنَّ الله أودع فيك من سرِّه، وأنَّ سرَّه فيك هو معنىً من معاني رسول الله لك، فما فيك من ضميرٍ، وما فيك من إحساسٍ بالخير وبالحقِّ وبالحياة، هو معنى من معاني رسول الله لك.
"لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ"، في هذا المعنى، وإن كان في عصر النُّبوَّة قد يُحمَل، ويُفهَم، وله واقعٌ في وجود محمدٍ ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ بين صحابته، إلَّا أنَّه اليوم يعني استحضار معنى رحمة الله، ومعنى فطرة الله فيك، التي هي سرٌّ من أسراره، ومعنى من معنى رسوله لك.
فالقضيَّة ليست قضيَّة ذواتٍ جاءت وانتقلت، وإنَّما هي قضيَّةٌ دائمةٌ على هذه الأرض، ويُمكننا أن نستحضر هذا المفهوم ونحن نُصلِّي ونُسلِّم على رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ونستحضر معنى: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا"[الأحزاب 56].
هكذا نتدبَّر في معنى مَوْلِد محمدٍ ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ ونتدبَّر في معناه كرسول الله، وفي معنى الرَّسول كمعنىً دائم، نستطيع أن نستحضر هذا المعنى وإن ابتعدت ذواتنا اليوم عن عصر النُّبوَّة في قديم، إلا أنَّ معناه وروحه ونوره دائمًا موجود، "وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ"، في قديمٍ، وفي حاضرٍ، وفي قادمٍ. فلنستحضر معنى هذا النُّور، ومعنى الرَّحمة، ومعنى الحياة، ونحن نُصلِّي ونُسلِّم على رسول الله.
عباد الله: نسأل الله: أن يُحقِّق لنا ذلك، وأن يجعلنا كذلك.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النَّاس حولنا.
اللهم ونحن نتَّجه إليك، ونتوكَّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلَّا إليك.
اللهم فاكشف الغمَّة عنَّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنَّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا.
____________________

(1)    حديث شريف أخرجه أبو داود والحاكم بنص :" إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها". 

(2)    حديث شريف، نصه: "قال صلى الله عليه وسلم: "هذا أنا رسول الله، والله ما أدرى ما يصنع بي""، وفى رواية أخرى: "قال صلى الله عليه وسلم: ما أدرى وأنا رسول الله ما يفعل بى ولا بكم". أخرجه احمد ابن حنبل - مسند احمد بن حنبل.

(3)    "لا يُدخل أحدكم الجنة عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمة وفضل" حديث شريف رواه أحمد بهذا اللفظ، ورواه البخاري ومسلم هكذا "سددوا وقاربوا وابشروا فإنه لن يُدخل الجنة أحدكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمه ".

(4)     حديث شريف جاء نصه: "استفت قلبك واستفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك" قالها الرسول ثلاث مرات. أخرجه أحمد والدرامي.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق