الخميس، 10 مارس 2016

علينا أن نتوافق مع ما نقرؤه من نصوص، ومع ما نراه في فطرتنا، بذلك نكون في الطريق القويم

حديث الجمعة
17 جمادى الأول 1437ه الموافق 26 فبراير 2016م
السيد/ علي رافع

حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
الحمد لله الذي جمعنا على ذكره وعلى طلبه وعلى مقصود وجهه، الحمد لله الذي جعل لنا بيننا حديثاً متصلاً نتواصى فيه بالحق والصبر بيننا، نتدبر أمور حياتنا وأمور ديننا. وفي واقع الأمر، فإن حياتنا وديننا هما وجهان لأمرٍ واحد، أمر الإنسان، وجود الإنسان، بقاء الإنسان.
فالدين كما نتدبر ونذاكر ونتذكر دائماً، كما جاء في الرسالات السماوية، ما هو إلا كشفٌ لحقائق الحياة، ولقوانين الحياة، ولأسباب الحياة. وفهمنا هذا قائمٌ على ما كشف الله لنا في آياته، "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ"[الإنشقاق 6]، و"يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ"[الإنفطار 8:6]، "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"[الذاريات 56]، إلا ليعرفون، إلا ليكدحون، إلا ليغيرون.
"...إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ..."[الرعد 11]، فالفعل نابعٌ من الإنسان، والبدء بادئٌ من الإنسان، وكل إنسانٍ يولد على الفطرة، والفطرة هي قانون الحياة الموجود في كل إنسان. لذلك، فإن وجَد الإنسان تعارضاً بين ما جاء في آيات الله وبين ما فيه من فطرةٍ، فإنه عليه أن يراجع نفسه في إدراكه للأمر، وهذه هي الطاعة الحقيقية.
أما أن تتصور أنك تريد شيئاً والله يريد شيئاً آخر، وعليك أن تخضع بمعنى الطاعة، فهذا لا يعني أنك تطيع، فأنت لا تستطيع أن تطيع إلا يوم يقوم فيك المعنى الذي تريد أن تُطبِّقه، ولا يمكن أن يقوم فيك المعنى الذي تريد أن تُطبِّقه، إلا يوم يتوافق هذا الأمر الصادر من الحق، مع فطرتك.
وغالباً يكون عدم التوافق هو نتيجة عدم فهمك وإدراكك للأمر. "...يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ..."[البقرة 185]، والإنسان في غفلته يريد العسر، ولا يريد اليسر.
"فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى"[الليل 7:5]، واليسرى هي أن يتوافق ما يقرؤه وما يفهمه من آيات الله مع فطرته، فيجد توافقاً بين ما يفهمه وما يجده في قلبه. "وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى،فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى"[الليل 10:8]، والعسرى هي أن لا يجد توافقاً بين ما يقرؤه ويتأمله، وبين ما يجده في قلبه، فيكون في عسرى.
لذلك، فعلى الإنسان أن يدرك كيف يحل هذا الاختلاف إذا وُجِد، وهذا يكون بالفهم الصحيح لما يقرؤه، بالتأمل العميق للمقصد وراء الأمر، وفي نفس الوقت البحث في داخله عن لماذا لا يتوافق مع ما أدركه من أمرٍ جاء له من مصدرٍ حقيّ، ويظل هو في هذا التأمل، وهذا معنى "فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى".
فالعطاء هنا، هو في إدراكه لأن يكون أداة خيرٍ لنفسه وللناس أجمعين. معنى العطاء هو في بحثه عما يستطيع أن يقدمه للآخرين، هل هو بفهمه الذي هو حائرٌ فيه، يُعطِي أم يَأخذ، يُسَاعِد أم يُسَاعَد، يُعلِّم أم يتعلَّم، يُطبِّب أم يتطبَّب.
فإذا كان الأمر الذي هو حائرٌ فيه، إذا كان مفهومه هو، يجعله في معنى الأخذ وليس في معنى العطاء، فعليه أن يراجع نفسه، عليه أن ينظر، فربما تكون نفسه أمارةً بالسوء، ربما تكون نفسه غير راغبةٍ في فهمه لآيات الله بصورةٍ تجعله يُعطِي، وهو يريد أن يأخذ.
"...وَاتَّقَى"، ماذا تعني التقوى؟ خشية الله. ما هي خشية الله؟ هل هي أن تكون مجرد خائفٍ من عذاب الله، كما يفسر البعض؟ أو أنك تدرك أنه مهما كان حالك، فعليك أن تراجع نفسك دائماً، ولا تتكبر، بل تبحث أن تكون أكثر تعاملاً مع الله.
ورسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يعلمنا ذلك، [لا يدخل الجنة أحدكم بعمله، حتى أنت يا رسول الله حتى أنا ما لم يتغمدن الله برحمته](1)، تقوى. [ها أنا رسول الله بينكم، ولا أدري ما يُفعَل بي غدا](2)، تقوى. "...إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء..."[فاطر 28]، تقوى. فانظر في أمرك الذي يحيرك، ما هو حالك في فهمك له على حالٍ دون آخر، هل يزيدك فهمك تقوى، أم يجعلك فهمك تتكبر على الناس؟
"وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى"، فما هي الحسنى؟ إنا حين ننظر إلى داخلنا، نجد أنا جميعاً بخلقتنا نميل إلى العدل، نميل إلى العلم، نميل إلى أن نساعد بعضنا بعضا، "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"[النحل 90]، هذه هي الحسنى، "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..."[العنكبوت 46]، والأحسن هنا، يرجع إلى الواقع وإلى الحياة.
وليس من الأحسن أن تقولوا لهم أن رسولنا خيرٌ من رسولكم، وأن صلاتنا هي خيرٌ من صلاتكم، وأن ديننا هو خيرٌ من دينكم، فهذا كلامٌ لا معنى له، وإنما الكلام الحق، والكلام الحسن والأحسن هو أن "...لَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ..."[آل عمران 64]، وأن نرجع إلى الكلمة السواء. والكلمة السواء هي ما نراه جميعاً بفطرتنا أنه الأحسن، نصدق أن هناك أحسن، نصدق بالحسنى.
وحين ننظر إلى شيءٍ نريده يتعارض مع ما نفهمه من كتاب الله وآياته، نرجع إلى هذا أيضاً، هل ما نريده نحن نقبل أن يُطبَّق علينا؟ فإذا وجدنا الإجابة نعم، اطمأننا إلى ذلك. أما إذا وجدنا أن الإجابة لا، ما نريده نحن لأنفسنا لا نريده أن يُطبَّق علينا من الآخرين، فهنا ندرك أن أنفسنا في مرحلة النفس الأمارة بالسوء.
لذلك، نجد آيات الله تُرسِّخ معنى الإنسان، وإرادته، وفكره، وعقله، وقلبه، وضميره، وتفاعله مع آيات الله، وعدم النظر إليها على أنها أمرٌ بعيدٌ عنا. حين ننظر إلى الذين لهم تفكيرٌ جامدٌ في الدين، بصورةٍ لا تتفاعل مع الواقع ومع وجودهم وعقولهم، سوف نجد أنهم يصلون إلى نتائج من فهم الآيات تجعلهم لا يقبلون أن يُطبَّق ما يصلون إليه عليهم.
فالذين يعتقدون أنهم على الحق المطلق، وأن الآخرين الذين يخالفونهم على الباطل المطلق، الذي هو في تعبيراتهم أنه الكفر المطلق، يجدون أن تفسيرهم لآيات الله أن يَقتلوا هؤلاء، وألا تأخذهم بهم رحمة، فإذا قلبوا الآية، وكانوا هم في وضع الضعيف، وكان الآخر في وضع القوة، وكان الآخر يفكر نفس تفكيرهم، فهل يقبلون أن يُقتَلوا لاختلاف عقيدتهم، أم أنهم سيقولون في هذه اللحظة  لكم دينكم ولنا ديننا، لكم عقيدتكم ولنا عقيدتنا.
إذا نظروا بصورةٍ أخرى، وقصروا نوعاً آخر من الفهم وقصروا صراعهم مع الآخر، إذا اعتدى الآخر عليهم، وأراد أن يجبرهم على فهمٍ وعلى عقيدةٍ لا يقبلونها، فدافعوا عن أنفسهم، فهذا أيضاً قتال، إنما في هذه اللحظة إذا طبقوا هذا الأمر على أنفسهم أيضاً، سوف يجدون أن من حق الآخر إذا هم أرادوا أن يجبروه على حالٍ لا يريده أن يدافع عن نفسه، فهم إذاً لن يقاتلوا إلا إذا قوتلوا، لا يعتدون إلا إذا اعتُدِيَ عليهم.
لذلك، كانت الآية التي نفهمها في هذا السياق، "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ..."[الممتحنة 8]، فتجد هنا حرية العقيدة موجودة، فتفهم الآيات الأخرى التي ربما تحتمل معنى قتال الكافرين بقسوة، وبأن لا تأخذنا بهم رحمة، نأخذها في سياقها، بمفهوم الدفاع عن أنفسنا.
وهناك فهمٌ أعمق من ذلك، في أن ندعو إلى المحبة للجميع، وألا نتصارع على عقيدة، وألا نتصارع على غنيمة، وإنما نتوافق إذا تواجدنا في مكانٍ ما، في وطنٍ ما، في بلدٍ ما، أياً كانت عقائدنا، وأياً كانت اتجاهاتنا، وأياً كان فكرنا.
فنحن على هذه الأرض علينا أن نتوافق لنعيش جميعاً على هذه الأرض لنحقق رسالتنا عليها، كلٌّ كما يعتقد، وكلٌّ كما يرى، فلا نجعل من العقيدة التي هي معنى علاقتنا بالغيب سبباً في أن نتصارع على هذه الأرض، أو في أن نتقاتل على هذه الأرض.
ونكرر دائماً الدعوة الموجهة للأمة بكل من فيها، أياً كانت عقائدهم، وأياً كانت اتجاهاتهم، "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران 104، 105]. والبينات هي هذا الهدي الذي نتحدث عنه في مراجعة النفس، وفي فهم الأمر، وفي التوافق في المجتمع، وفي قبول أن ما تريد أن تفعله على الآخر يجب أن تقبله على نفسك.
"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"(3)، وأخوه هنا هو أخوه في الإنسانية، أخوه في البشرية، وليس فقط أنه يكون مع أخيه الذي يقولون أنه له نفس دينه، وإنما مع أي إنسانٍ ومع أي كائن.
وأن إذا كان هناك في المجتمع من لا يريد أن يقبل هذا التعايش، أياً كان دينه ـ إذا صح لنا أن نستخدم هذا التعبير ونحن لا نحب أن نستخدمه ـ أو فكره، أو عقيدته، سمها ما شئت، وهو يرفض ويشذ عن أن يتوافق مع الآخرين، ولا يقبل أن ما يريده لنفسه يريده للآخرين، إنما يريد لنفسه كل شيء، ولا يريد للآخرين أي شيء، يريد لنفسه الحرية، ولا يريد للآخرين الحرية، يريد لنفسه المال والجاه، ولا يريد للآخرين الكفاف، فهنا يشذ هذا الإنسان عن المجتمع.
وهذا هو في واقع الأمر ما يُطلَق عليه في بعض الآيات معنى الكفر، "مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ"[الفتح 29]. الكفار هنا، هم الذين يخرجون عن الجماعة، ليس بأن يعتنقوا نفس الفكر، ليس بأن يتبعوا نفس أسلوب العبادة، ليس أن يقولوا أننا مسلمين أو أننا غير مسلمين، إنما هم المعتدون، القاتلون، السارقون، الناهبون، المفسدون.
والشدة هنا هي أن يُعاقَبوا، وأن يكون هناك قانونٌ يحكم خروج هؤلاء، هذا كل ما في الأمر؛ لأننا لن نكون أبداً مجتمعاً كل ما فيه يُطبِّق المعايير الحقية، إنما سيكون هناك شاذون منحرفون يخرجون عن الجادة، والمجتمع هو الذي يقرر كيف يعاملهم، وكيف يتعامل معهم، وكيف يحاول إصلاحهم، وكيف يوجههم إلى الطريق القويم.
عباد الله: إننا لو فهمنا ما في ديننا من أمورٍ لوجدناها تتوافق مع الحياة في سلامٍ، وفي وئامٍ، وفي تكافلٍ، وفي تراحمٍ، وفي إنتاجٍ، وفي عملٍ، في كل أمرٍ يجعلنا أمةً صالحةً قائمةً على الخير، مدركةً للمعروف، ومدركةً أيضاً للباطل وللمنكر، تأمر بالمعروف حقاً، وتنهى عن المنكر حقاً، وتدعو إلى الخير في كل أمرٍ من أمورها.
عباد الله: نسأل الله: أن نفهم ديننا حقاً، وأن نفهم معنى الدين حقاً، حتى نكون عباداً لله صالحين، لوجهه قاصدين، معه متعاملين، عنده محتسبين.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أن الدين مفهومٌ أعمق مما تلوكه ألسنتنا، بما نسمعه في مجتمعنا في كل مقولةٍ نريد أن نرجعها إلى ما نطلق عليه رأي الدين. وما رأي الدين في هذا الأمر؟ وما رأي الدين في ذلك الأمر؟ كما لو أن الدين أمرٌ مجرد كلمات، مجرد آيات، مجرد جمل، نصوص نريد أن نطبقها حرفياً، كما نطبق أي قانونٍ وضعيّ، أو أي أمرٍ إنسانيّ ماديّ ليس فيه البعد الحقيّ، وليس فيه البعد الإنسانيّ، وليس فيه البعد الإيمانيّ، وليس فيه التفاعل الإنسانيّ.
فآيات الله حين تأمرنا بأمرٍ، نجد أنها تُصاغ بحيث يتفاعل الإنسان معها، فيجد تطبيقاتٍ كثيرة، "...فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ..."[البقرة 194]*، "...فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ..." [الشورى 40] نحن نتمسك بالجزء الأول في أغلب الأحيان، ولا ننظر للجزء الآخر.
فإن نظرنا إلى الآية كاملة، لوجدنا أنك يوم لا تسرف في رد الاعتداء لتطبيق "بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ..."، فهذا جائزٌ في تطبيقٍ إنساني مقبولٍ للعقل، والمجتمع يستطيع أن يقوم بذلك نيابة عنك، حتى لا يكون هناك تصارعٌ لا ينتهي، وهذا في تطبيق قانونٍ عادلٍ يُصاغ لوضع العقوبات للجرائم المختلفة، وهذا واردٌ ومطلوبٌ في المجتمع؛ لأن ليس كل الناس يريدون أن يعفوا.
ولكن في نفس الوقت أعطى الله للإنسان المُعتَدى عليه أنه ربما يرى أن يعفو عمن اعتدى عليه، تعاملاً مع الله واحتساباً عند الله، وتقديراً لظروفٍ ربما يكون المعتدِي لم يدركها بالنسبة لعلاقاته، أو لأسرته، أو لمن يعولهم، أو أو، أشياءٌ كثيرة.
ربما يجد الإنسان في قلبه قدرةً على أن يعفو عن الذي اعتدى عليه، بل أنه ربما يجد في هذا كسباً له في الله وتَرَفُّعاً عن أن يكون مثله، فإذا قَتَل له قريبٌ، لا يريد هو أن يقتله فيكون قاتلاً مثله، يريد أن يعفو عنه، هذا يمكن أن يكون بالنسبة للإنسان.
فهنا نجد أن الآيات في صياغتها وفي تبليغها وفيما حُمِّلت به من معاني، حُمِّلت بمعانٍ كثيرة، ويمكنك أن تفهم منها الكثير، وهذا ما أراد الله من عباده، ليتفاعلوا مع النصوص دائماً، وليأخذوا منها ما هو مناسبٌ لواقعهم ولحاضرهم، دون أن يكون هناك عَنَتٌ في أن يخالفوا النص، بأنهم لم يروا فيه تطبيقاً صالحاً.
فهذا ليس واردٌ أبداً؛ لأن كل النصوص وكل الآيات، هي في صياغتها وفي حكمها، يوم تنظر إليها في المقصود الكلي، من وجود المجتمع ومعيشته في سلامٍ، وفي أمان، وإعطاء الفرصة للإنسان أن يراجع نفسه، وأن يتوب إلى الله إذا كان لذلك سبيلاً ـ نجد أن هذه المعاني موجودةٌ بكثرة، وهذا متوافقٌ تمام التوافق مع فطرة الإنسان السليمة. إنما ما يُحدِث الاختلاف وظن الاختلاف، هو عدم فهم الإنسان للآية، أو ظلام نفسه التي لا تريد أن تسمع ما يُقَوِّمه إلى الأفضل والأحسن.
وقد تكلمنا في حديث اليوم عن كيف نعالج أنفسنا، وكيف نعالج هذا الحال إذا تواجدنا فيه، بأن نراجع أنفسنا مرةً ومرةً ومرة، وفي نفس الوقت نقرأ الآية مرةً ومرةً ومرة، فربما نظن أننا نختلف مع مفهوم الآية، فنصل إلى نتائج سيئة، كما يحدث من البعض ومن بعض الجماعات التي تتكلم باسم الدين، فلا ترى إلا جانباً واحداً فيه عنفٌ وفيه قتلٌ، بظن أنهم المؤمنون، والآخرون هم الكافرون الذين يجب قتلهم بأي شكلٍ وبأي صورةٍ.
فهموا آياتٍ على ذلك، وظنوا أنهم بتطبيقها حتى وإن كانت قلوبهم ـ إذا كان فيها شيءٌ من الحياة ـ ترفض ذلك، فيظنون أن هذا ضعف، وأن عليهم أن ينفذوا الآية وأن ينفذوا أمر الله، مع أنهم لو رجعوا إلى قلوبهم، ووجدوا هذا الاختلاف الذي لا يريدون أن يقوموا فيه، ونظروا في الآيات مرةً أخرى، وفيما كتب الآخرون، وفيما قال الآخرون، سوف يجدون مفهوماً آخر للآيات، فيتوافق هذا المفهوم الذي لا يتعارض مع صحيح النص، مع قلوبهم، ومع ما يرون أنه الحق، ولكنهم لا يفعلون ذلك.
ففي بعض الأحيان يكون الضعف من القلب، يوم يريد الإنسان أن يخرج على النص بظلام نفسه، وفي بعض الأحيان يكون السبب في فهم النص بصورةٍ سيئة، مع أن القلب لا يريد أن يفعل ذلك، ولكن سوء الفهم وسوء التفسير، يجعل الإنسان يخرج ولا يتفاعل مع قلبه.
فنحن عندنا قلوبٌ حتى نستطيع أن لا نجعل مفاهيمنا تخرج بنا إلى ظلام، وعندنا عقولٌ نفهم بها النصوص، حتى لا نجعل نفوسنا تخرج بنا إلى ظلام، إن علينا أن نتوافق مع ما نقرؤه، ومع ما نراه في فطرتنا، بذلك نكون في الطريق القويم، وعلى الصراط المستقيم، الذي ندعو الله دائماً في كل فاتحةٍ أن يهدينا إليه، "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ"[الفاتحة 6،7].
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه الناس حولنا.
اللهم ونحن نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلا قضيتها .
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا.
_____________________

(1)    لا يُدخل أحدكم الجنة عمله، قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمة وفضل" حديث شريف رواه أحمد بهذا اللفظ ورواه البخاري ومسلم هكذا "سددوا وقاربوا وابشروا فإنه لن يُدخل الجنة أحدكم عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمه ".

(2)       حديث شريف نصه: (قال صلى الله عليه وسلم: "هذا أنا رسول الله، والله ما أدرى ما يصنع بي")، وفى رواية أخرى: " قال صلى الله عليه وسلم: ما أدرى وأنا رسول الله ما يفعل بى ولا بكم". (أخرجه احمد ابن حنبل- مسند احمد بن حنبل).

(3) حديث شريف الراوي: أنس بن مالك المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري.


 * "وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ"[الشورى 40] 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق