الثلاثاء، 7 يونيو 2016

إيماننا بالغيب يقودنا إلى كيف نقوم في الشهادة، وقيامنا في الشهادة يزيدنا أكثر إيماناً بالغيب

حديث الجمعة
8 رجب 1437هـ الموافق 15 أبريل 2016م
السيد/ علي رافع

حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
نستعين بالله ونستنصره، ونعوذ به من الشيطان الرجيم، نعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، نسأله رحمةً ومغفرةً وقوةً نستعين بها على ظلام نفوسنا وغفلة قلوبنا وتفريطنا في أمرنا، نتوب إليه، ونرجع إليه، ونستغفره، ونطمع في رحمته وفي كرمه وجوده ونعمته ـ لنكون أهلاً لرحماته ونفحاته.
عباد الله: إن ما جاء به ديننا هو لإيقاظ قلوبنا، ولمساعدتنا على أن نتواصل مع فطرتنا ومع سرّ الله فينا ومع أمانة الحياة التي حمّلنا الله إيّاها. علّمنا أن الحق لا نهائيّ، متعالٍ، لا نستطيع أن نحيط به.
فهو أولٌ ليس قبله شيء، وهو آخرٌ ليس بعده شيء، وهو ظاهرٌ ليس فوقه شيء، وهو باطنٌ ليس دونه شيء، هو أحدٌ صمدٌ، "لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ"[الإخلاص 4،3]، ليس كمثله شيء، وتعالى عن كل شيء وعن كل تصوُّرٍ، هو غيبٌ لا نستطيع أن ندركه، "لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ"[الأنعام 103]، أودع في كل قلبٍ ما أشغله، "...أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى"[طه 50]، "..خَلَقَ فَسَوَّى"[الأعلى 2].
علّمنا أن الإيمان به هو إيمانٌ بالغيب، "ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ..."[البقرة 3]، علّمنا أن الإيمان بالغيب هو الذي يجعلنا نحيا على هذه الأرض، علّمنا أن نكون صادقين مع ما أوجد فينا من عقل، وما أوجد فينا من قلب، وما أوجد فينا من ضمير.
وأول ما يدركه العقل أنه لا يستطيع أن يدرك كل شيء، بل أنه لا يستطيع أن يعرف ما وراء هذا الكون، وأن كل ما هو ظاهرٌ له هو خَلْق، وأن الله وإن كان قد تجلّى في مخلوقاته وفي آلائه إلا أننا لا نستطيع أن ندركه، فهو فوق كل هذا الظاهر الذي نشهده. بل أن الإنسان حين يتساءل عن حياته في حاضرها وفي مستقبلها، فمستقبلها غيبٌ لا يعلمه إلا الله، وحِكمة خَلْقِه غيبٌ لا يعلمه إلا الله.
ما يعلمه هو، أنه قائمٌ على هذه الأرض وأنه يتحرك عليها، وأنه يريد كذا ولا يريد كذا، وأنه يستطيع أن يفعل كذا ولا يستطيع أن يفعل شيئاً آخر، وأنه يستطيع أن يدرك أمراً ولا يستطيع أن يدرك أمراً آخر، وأنه يستطيع أن يدعو الله كغيب ويستطيع ألا يدعوه، ويستطيع أن ينفق مما أعطاه الله ويستطيع ألا ينفق مما أعطاه الله ـ هذه الرؤية لما هو عليه هي ما هو مسئولٌ عنه، [كلكم راعٍ، وكلكم مسئولٌ عن رعيته](1)، "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ..."[البقرة 286]، "بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ"[القيامة 14].
لذلك، فإنّا نقول دائماً أن البدء في الفهم عن الحياة يبدأ من الإنسان، يبدأ من أن يتجه الإنسان إلى داخله ويسأل نفسه ماذا يريد أن يفعل وماذا يريد أن يعلم؟ إنه ـ كما قلنا ـ يستطيع إن شعر بضعفٍ أو وهنٍ أو ضيقٍ، أن يتجه إلى خالقه كغيب. من الناس من سيفعل ذلك ويتّجه، ومن الناس من سوف ينكر ذلك ويتوقّف.
ماذا يريد أن يعلم؟ من الناس من سوف يتجه إلى أن ينظر في خلق الله، ويتعلم مما خلق الله، مدركاً قوله: "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ..."[العنكبوت 20]، ولقوله: "...وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..."[آل عمران 191]، فيتّجه بكلّه أن يتعلّم مما حوله ليفيد الناس وليخدمهم وليقوم بدورٍ في حياتهم الأرضية، أو حتى ليساعدهم في معرفتهم عن أنفسهم وتوجيههم أن يهتموا بحياتهم التي هم عليها، ولا يكونوا في فراغ.
ومن الناس من سوف لا يرغب في أن يتعلّم شيئاً، فيظل هائماً على وجهه، لا يريد أن يفكر، ولا يريد أن يتدبر، ولا يريد أن يسير في الأرض فيتعلّم، ولا يريد أن يحلّل ما يحدث له وما يحدث حوله، لا يريد أن يعلم إلا عن ذاته وشهواته ورغباته، لا يفكّر إلا في نفسه، لا يفكّر أن يكون أداة خيرٍ للناس ولمن حوله، بل أنه يريد أن يعلم أو يظن أنه يعلم عن أمورٍ غيبية. فيحدّث الناس بظنونٍ وخرافاتٍ وظنٍ في دينٍ وظنٍ في علمٍ، دون أن يتّبع أسلوباً صادقاً ليتعلّم به.
يتّبع الظن، يتّبع الخيال، يتّبع الوهم، يتّبع ما يخدع به الناس، بقصدٍ أو بدون قصد؛ لأن الإنسان يوم يخبر أحداً دون أن يكون هو واثقٌ مما يقوله ومما يدعو إليه، فإنه بذلك يُضِلّ الناس دون أن يدري أو يكون قاصداً أن يخدعهم، هناك من الناس من هو كذلك، وهناك من الناس من ليس كذلك.
لذلك، فإن الإيمان بالغيب يُحتّم علينا أن نُخلِص في الشهادة وأن نَصدُق في الشهادة، وكيفما نكون يكون الله علينا، [أنا عند ظن عبدي بي، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر](2)، [كن كيف شئت، فإني كيفما تكون أكون](3)، "...وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ"[النحل 118].
إن هذا الاتجاه الذي نتحدث به هو ما نعتقده، قد يكون صواباً وقد يكون خطأً، نحن لا نُلزِم أحداً بأي شيء؛ لأننا نقول للإنسان فكّر بما أعطاك الله من عقل واتبع ما يهديك إليه قلبك، هذا ما نقوله، واستمع لكلمات الله وتدبّرها وتفهّمها، واعلم أنك بوجودك على هذه الأرض مقيد، وأن أي مفهومٍ هو مفهومٌ نسبيّ، وأنك قد تخطئ وقد تصيب، فلا تغترّ، ولا تتكبّر.
وهذا يُمْكِنك أن تصل إليه بفطرتك؛ لأنك تعلم أنك محدود، وأن ما يمكن أن تفهمه هو يتناسب مع هذه الحدود التي تملكها من علمٍ، أو في علمٍ، أو معرفةٍ، وأن إحاطتك بكل جوانب أي قضية هو محدود، لذلك فإن حكمك لا يمكن أن يكون مطلقاً، وكلمات الله ترشدك إلى ذلك.
كل كلمات الله يوم تستمع إليها بصدق، سوف تجد أنها تتناغم مع ما فيك من معرفةٍ وعلم وصدق، معرفةٍ صادقة، "...إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء..."[فاطر 28]، خشية الله، ورسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يعلّمك خشية الله، [ها أنا رسول الله بينكم، ولا أدري ما يفعل بي غدا](4)، [لا يدخل الجنة أحدكم بعمله، حتى أنت يا رسول الله؟ حتى أنا ما لم يتغمدني الله برحمته](5)، هذا لتكون في خشية.
هكذا، نذاكر دائماً أنفسنا، لنكون صادقين مع فطرتنا، مع عقولنا، مع قلوبنا، لنتعلّم أن كل ما نقرأه ونشهده من آيات الله في الآفاق وفي أنفسنا، ما سنصل إليه يتناسب مع محدودية علمنا ومعرفتنا، ولذلك فنحن دائماً في حاجةٍ أن نتجه إلى الله، وأن نسأل رحمة الله، وأن نسأل توفيق الله.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أن إيماننا بالغيب يقودنا إلى كيف نقوم في الشهادة، وأن قيامنا في الشهادة يزيدنا أكثر إيماناً بالغيب، وهكذا إيماننا بالغيب يزيدنا استقامةً في الشهادة، واستقامتنا في الشهادة، تزيدنا إيماناً بالغيب.
فإيماننا بالغيب يجعلنا ندرك أن ما نستطيع أن نفعله في حياتنا يرجع إلى أن نسأل قلوبنا وعقولنا فيما يجب أن نقوم عليه، هل نتجه بالدعاء إلى الغيب الذي خلقنا والذي أوجدنا، طالبين قوةً ورحمةً ونوراً؟ أم أننا لسنا في حاجةٍ إليه؟ هل نحن في افتقارٍ إلى الله لأن يمدّ سرّ الحياة فينا بقوةٍ مستمرة، تساعدنا وترشدنا من داخلنا؟ أم أننا استغنينا عن هذا الفضل وعن هذا الكرم وعن هذا العطاء؟ وأننا باختيارنا سنكون كما نختار؟ إذا استكفينا بما لدينا، فسوف نُترك إلى حالنا، وهذا معنى،"...وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا"[الكهف 28]، القانون سيترك الإنسان إلى ما يريد، وهذا معنى، "...أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا...".
ولذلك، كانت الآية "...ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ..."[غافر 60]، فالبدء من الإنسان، وكذلك اختيارنا فيما نستطيع أن نفعله في ماديّ وجودنا، أن ننفق مما أعطانا الله، فنبذل كل طاقاتنا وقدراتنا، فهذا هو عطاء الله، والرزق هنا والعطاء هنا هو كل ما أعطى الله للإنسان من قدرةٍ على الفعل وقدرةٍ على العلم.
فإنسانٌ سوف يعطي مما أعطاه الله، وإنسانٌ سوف لا ينظر إلا إلى نفسه فلا يعطي مما أعطاه الله، وهذا أيضاً اختيار الإنسان، "فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى، وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى"[الليل 11:5]، توجيهٌ يكشف للإنسان قانون الحياة.
فإذا استقام الإنسان في اختياراته، فإن ذلك سوف يقوده إلى الإيمان بالغيب أكثر؛ لأنه مهما وصل من علمٍ واختار ما يرى أنه الحق بالنسبة له، يعلم أن اختياره محدود بمعرفته وبعلمه وبفعله، فسوف يقوده ذلك إلى الاتجاه إلى الغيب، وإلى خشية الغيب، وإلى سؤال الغيب، وإلى إقامة صلةٍ مع الغيب ـ حتى يساعده الغيب على أن يستقيم في حياته أفضل وأحسن.
عباد الله: هذا ما أردنا أن نقوله اليوم لعلنا نستفيد بذلك، وكلٌّ عليه أن يفكّر فيه، وأن يتدبّر، يقبل أو يرفض، هذا اختياره.
عباد الله: نسأل الله: أن يهدينا سواء السبيل، وأن يرحمنا برحمته، وأن يغفر لنا بواسع مغفرته، وأن يتقبّلنا، وأن يجعلنا دائماً أهلاً لرحماته ونفحاته.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه الناس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا.      
________________________

(1)    جاء بسنن الترمذي: ‏عن النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم أنه‏ ‏قال ‏" ‏ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، فالأمير الذي على الناس راع ومسئول عن رعيته ، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم ، والمرأة راعية على بيت بعلها وهي مسئولة عنه ، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه ، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"‏.

(2)    يقول الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن خيراً فله، وإن ظن شراً فله". أخرجه أحمد بن حنبل الجامع الصغير للسيوطي.   

(3)    هذه العبارة تتوافق مع الحديث القدسي في الملحوظة السابقة.

(4)    حديث شريف، نصه (قال صلى الله عليه وسلم: "هذا أنا رسول الله، والله ما أدرى ما يصنع بي")، وفى رواية أخرى: "قال صلى الله عليه وسلم: ما أدرى وأنا رسول الله ما يفعل بى ولا بكم". (أخرجه احمد ابن حنبل - مسند احمد بن حنبل).

(5)    "لا يُدخل أحدكم الجنة عمله، قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمة وفضل" حديث شريف رواه أحمد بهذا اللفظ ورواه البخاري ومسلم هكذا "سددوا وقاربوا وابشروا فإنه لن يُدخل الجنة أحدكم عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمه ".



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق