الجمعة، 2 ديسمبر 2016

الدين هو أن تُفَعِّل طاقاتك بكلّ قوة

حديث الجمعة 
27 شعبان 1437هـ الموافق 3 يونيو 2016م
السيد/ علي رافع

حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
"....الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ..."[الأعراف 43].
نستغفر الله في كلّ وقتٍ وحين، أن نقول زوراً، أو نغشى فجوراً، أو أن نكون به مغرورين. فمع كلّ حمدٍ نستغفر، ومع كلّ استغفارٍ نحمد الله أن جعلنا من المستغفرين.
عباد الله: إنّ وجود الإنسان على هذه الأرض له حكمةٌ أرادها الله بخَلْقه، ولا نستطيع أن ندّعي أنّنا نعرف حكمة الله في خَلْقنا، فالله أعلم بحكمته، والله أعلم بخَلْقه، وما نستطيع أن نعلمه هو قيامنا، هو واقعنا، هو ما نراه بعيوننا، وما نسمعه بآذاننا، وما نعقله بعقولنا، وبما نشعر به بقلوبنا، وما نستطيع أن نعمله بجوارحنا.
وقد جاءت آيات الله لتساعدنا في هذا الوجود وفي هذا القيام. فجاءت لتخبرنا عن وجودنا، عمّا نشعر به، وعمّا نتّصف به، وعمّا نستطيع أن نفعله وما نستطيع أن نفهمه، وفتحت لنا الأبواب لنعلم دون حدٍّ ودون سقفٍ، "... إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ"[الرحمن 33]، لم تضع لنا حدّاً لتفكيرنا ولا لما يمكن أن نتعلّمه.
"قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ..."[العنكبوت 20]، وهنا تعبير دقيق: "كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ". كيف نعلم بدْء الخَلْق؟ كيف ننظر بدْء الخَلْق؟ لم يقلْ لنا فانظروا ما هو حال الخَلْق اليوم، أو كيف تعيشون، أو كيف تعيش الكائنات حولكم؟ إنما قال انظروا كيف بدأ الخَلْق. ولنا أن نتفكّر في هذه الآية فنتعلّم من واقعنا كيف بدأ الخَلْق.
حين ننظر إلى الخَلْق اليوم، وكيف يظهر إنسانٌ على هذه الأرض بميلادٍ، وكيف تتكاثر النّباتات، وكيف تتكاثر كلّ الكائنات، نتعلّم أنّها سلسلةٌ من التواجد ترجع إلى زمنٍ بعيد لا نستطيع أن نحدّده بدقّة.
ولكنّنا حين ننظر إلى ما جاء به العلماء حديثاً من نظريّاتهم عن بدْء الخَلْق، بدْء هذه الأرض، بدْء هذا الكون المحسوس لنا، لقد تفكّروا وتدبّروا فيما هو قائمٌ حولنا وجاءوا بنظريّةٍ عن تصوّرهم لبدْء هذا الكون في صورته الحاليّة ـ وهذا أمرٌ ليس حقّاً مطلقاً ولكنّه كما نقول في العلم أنّه نظريّةٌ لها الظواهر التي تؤيّدها.
ولكنّنا لا نستطيع أن نحكم بأنّها الحقّ المطلق، إنّما هي مصداقٌ للآية، أنّ من النّاس من يستطيعون أن يتفكّروا ويتعلّموا ويصلوا إلى تصوّرٍ أو إلى نظريّةٍ في كيفيّة بدْء الخَلْق، وهم بذلك لا يخرجون عن الجادّة وإنّما ينفّذون الأمر الإلهيّ: "لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ".
أطلقوا لعقولكم قدرة التفكّر والتصوّر ووضع النظريّات التي تفسّر ما هو ظاهرٌ لكم على هذه الأرض.
وحين نظروا في الكون وجدوا أنّ المادة التي تُكَوِّن هذا الكون هي مادةٌ واحدة، مما يُرجّح أن الأصل هو نقطةٌ واحدة.
حين نظروا إلى هذا الكون وجدوا موجاتٍ في كلّ الكون لها نفس الخصائص التي لا تنتج إلّا من حرارةٍ شديدة تنتج عن انفجارٍ شديد، يجدونها في كلّ مكانٍ في الكون يرصدونه ـ الكون الظاهري.
حين نظروا إلى الكون أيضاً، في المجرّات البعيدة وفي الضّوء الصادر منها، استطاعوا أن يستنتجوا أنّ هذه المجرّات تبتعد عن الأرض بسرعةٍ قد تكون أكثر من سرعة الضّوء. من هذه المشاهدة تعلّموا أنّ الكون يتّسع، "وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ"[الذاريات 47]. وطالما أنّ الكون يتّسع بهذه السرعة الشديدة، فإنّه كان في سابق أقلّ حجماً ثم بدأ يتّسع فيتّسع فيتّسع. قد يكون قد بدأ من نقطة، وقد يكون قد بدأ كما هو وظلّ يتّسع من لحظة وجوده.
إنّما هذا يعني أنّ الإنسان بتفكيره وصل إلى تصوّرٍ ـ قد يكون صواباً أو يكون خطأً ـ عن بدْء الخَلْق. وهذه إشارةٌ إلى أن يفكّر الإنسان بأقصى ما يستطيع دون أن يضع حدوداً على ما يمكن أن يوصّله إليه تفكيره.
وهذا ما نفهمه من آيات الله، بعكس ما يدّعيه البعض من ألّا تفكّر حتى لا تكفر، أو أنّك يجب أن تحدّ هذا التفكير. ماذا يعني هذا؟ يعني أنّ الإنسان وما أُعْطِيَ من طاقاتٍ له حريّة الحركة والتفكير في كلّ الاتجاهات بأقصى ما يستطيع، وأنّ هذا هو الدين.
الدين، هو أن تُفَعِّل طاقاتك بكلّ قوة. فإذا فكّرت فكّر بقوة، وإذا ذكرت فاذكر بقوة، وإذا عملت فاعمل بقوة. أبذل كلّ طاقاتك وإمكاناتك، واتقن بكلّ ما تستطيع من فهمٍ وإدراكٍ ومعرفةٍ وعلمٍ. تفاعل مع الكون بكلّ ما أعطاك الله، واقرأ آيات الله في كلّ ما أنزل الله، في خَلْق الله، في كائنات الله، في كلام الله، في كلّ شيءٍ في هذا الكون، فكلّ شيءٍ منسوبٌ في النهاية إلى الله، وهذه تجلّيات الله، وهذه آلاء الله. فكّر في كلّ ما تستطيع أن تفكّر فيه.
إنّك أيضاً تفكّر في الله، فإذا فكّرت في الله الذي هو وراء كلّ شيء، والذي هو الأول قبل كلّ شيء، وهو الآخر بعد كلّ شيء، وهو الظاهر فوق كلّ شيء، وهو الباطن دون كلّ شيء ـ حين تفكّر فيه سوف تعلم أنّه الغيب. والغيب هو الدلالة على وجود الله، فالله غيبٌ، وهذا ناتجٌ عن تفكيرك أيضاً، لا بحدّ تفكيرك، ولكن بإطلاق تفكيرك إلى أقصى حدود، وسوف يصل تفكيرك إلى اللّانهاية، إلى الغيب.
إنّ الذين أبدعوا الرياضيّات أدركوا أن هناك قيمةً يجب أن يطلقوا عليها اللّانهاية؛ لأن هناك ما لا يستطيعون أن يعبّروا عنه بنهاية، فقالوا اللّانهاية، فما كانت اللّانهاية إلّا نتيجة تفكيرٍ في أنّه هناك أمراً لا يوصف. وهذا تفكيرٌ أيضاً.
والقرآن حين يصف لنا هذا الحال الذي يقوم فيه الإنسان، "ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ..."[البقرة 2، 3]. إذاً، فهناك إيمانٌ بالغيب، وهذا أمرٌ ضروريّ للإنسان؛ لأنّه يعلم بالقطع أنّ هناك ما لا يعلمه.
فإذا جئنا إلى حياة الإنسان ومعاملات الإنسان، فنحن هنا نتكلّم عن صفاته، وعن أفعاله، وعمّا يحبّ، وعمّا يكره، وعمّا يفعل في وقتٍ ما، وما لا يفعل في وقتٍ آخر ـ والأمثلة على ذلك كثيرة. "إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً، إِلَّا الْمُصَلِّينَ"[المعارج 19: 22]. فحين يقرأ الإنسان هذه الآية وينظر إلى نفسه، سوف يجد فيه شيئاً من هذه الآية، أو يجد فيه كلّ هذه الآية، أو يجد أنّه قد تخلّص من هذا الحال الذي كان فيه، أو يرى أنّه يريد أن يتخلّص من هذا الحال. النّاس تتفاوت.
 ويتعلّم أنّ التخلّص من هذا الحال لا يكون إلا بالصلاة. والصلاة تعني الدعاء، والدعاء يعني أنّ الإنسان أدرك ما فيه من ظلام، ويدعو الله أن يساعده أن يتخلّص منه. ودعاء الإنسان الحقّ هو قيامه في أنّه أدرك أنّه لا يريد أن يكون كذلك، وأنّه يطمع في أن يتخلّص من ذلك. ولا معنى لدعاءٍ باللسان دون أن تكون هناك نيّةٌ وإرادة.
لذلك، نجد كثيراً من النّاس لا يريدون أن يتخلّصوا من هذا الحال الذي هم فيه، إنّهم يرون أنّهم عليهم إن أصابهم خيرٌ أن يحتفظوا به ويمنعوه عن النّاس، وهذا حالهم، ويرون أنّ إذا أصابهم شرٌ عليهم أن يهلعوا وأن يشكوا وأن ينفروا وأن يتّجهوا إلى الآخرين بهلعهم وخوفهم ليساعدوهم، لم يروا غضاضةً في ذلك. فإذا كان هذا حالهم، فلماذ يدعون؟ ولماذا يصلّون؟ ولماذا يطلبون أن يتخلّصوا من هذا الحال؟
فالحديث كما نقول موجّهٌ دائماً للإنسان الطالب، الإنسان الذي في قلبه ذرّةٌ من حياة، يريد أن يتخلّص من ظلامه، ويريد أن يعيش بنوره. أما الذين لا يريدون ذلك فـ "... صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ"[البقرة 171]، وقد يستمعون إلى الآيات فلا تصل إلى قلوبهم، بل أنّها لا تُسمع بآذانهم.
فكم من الآيات تُتْلى على النّاس وهم عن الآيات لاهون، لا يريدون أن يسمعوا آيات الله، لا يريدون أن يتصوّروا ما سيكونون عليه، "... يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ..."[البقرة 19]، لا يريدون أن يسمعوا أنّهم سوف يغادرون وأنهم لهذه الأرض مغادرون، يظنّون أنّهم باقون ولا يريدون أن يفكّروا في لحظة مغادرتهم.
"إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ"[العاديات 6: 8]. إنّه لا يفكّر في ربّه، لا يفكّر أنّه مخلوقٌ لحياةٍ أخرى، إنّه لا ينظر إلّا إلى هذه الحياة، ودائماً ينظر إلى الجانب السيّئ الذي يصيبه ولا ينظر إلى الخير الذي يناله، فلا يحمد الله ولا يشكر الله، وإنّما هو في شكوةٍ دائمة.
فالحقّ حين يرسل لنا آياته إنّما يصف أحوالنا على هذه الأرض، ويرشدنا أنّ النجاة من هذه الأحوال لا يكون إلّا باللّجوء إلى الغيب، إلّا بالصلاة، إلّا بمجاهدة النفس، إلّا بالتوجّه إلى القبلة، إلّا بأن نرى أنفسنا في الآخرين فنساعدهم لأنّهم جزءٌ منا.
نتعلّم كلّ ذلك في أركان ديننا بعد أن نكون قد شهدنا أنّ لا إله إلّا الله وأنّ محمداً رسول الله شهادة حقٍّ، كما شرحنا في بداية هذا الحديث، وكما نشرح ونذاكر دائماً، في معنى شهادة لا إله إلّا الله وشهادة أنّ محمداً رسول الله.
عباد الله: نسأل الله: ونحن مقبلون على شهر الصّوم في زماننا وفي دورةٍ من دورات أرضنا، أن نكون أهلاً للصّوم، وأن نُعمِل ما أمرنا الله به وأشهدنا إيّاه في معنى الصّوم، بأن نعيش بأرواحنا، وأن نعيش بقلوبنا، وأن نتخلّص من أنفسنا وهي تجذبنا إلى الأرض جذباً تجعلنا متثاقلين إليها.
نريد أن نخفّف هذه الأثقال، وأن نتدرّب على أن نعيش بأرواحنا وأن نتخلّى عن أجسادنا، وأن نسأل الله في كلّ وقتٍ في صومنا وبعد صومنا، في قيامٍ نقومه دعاءً ورجاءً أن نأخذ قوةً تساعدنا في أن نُكمِل حياتنا في طريقه وفي سفينته، سفينة النجاة، سفينة الحياة.
نسأل الله: أن يحقّق لنا ذلك، وأن نكون كذلك.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه الناس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق