السبت، 22 سبتمبر 2018

المهم أن يكسب الإنسان نفسه، وليس في النصر المادي


حديث الجمعة 
11 محرم 1440هـ الموافق 21 سبتمبر  2018م
السيد/ علي رافع

حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاًة وسلامًا عليك يا رسول الله.
الحمد لله الذي جمعنا على ذكره، وعلى طلبه، وعلى مقصود وجهه، وهذا فضل الله علينا، ونعمته بنا، وكان فضل الله علينا عظيما. بنعمته نُحدّث، وبما أفضل به علينا نشكر، وعمّا أرانا من عيوبنا نستغفر، طامعين في رحمته، وفي كرمه، وجوده ونعمته.
عباد الله: نتدبّر دائمًا في قوانين الله، بما أظهر لنا في أحداث الحياة، في قديمها، وفي حاضرها، وبما سنراه في مستقبلنا.
إنّ في كلّ يومٍ، وفي كلّ حدثٍ، وفي كلّ مكانٍ، نرى الشّيء ونقيضه، نرى الخير ونرى الشّرّ، نرى الحقّ ونرى الباطل، بمعاييرنا وبما نحن قائمون عليه من حال. والأمثلة من تاريخنا كثيرة، ويمكن أن نرى في نفس التّاريخ، حدثًا انتصر فيه الحقّ على الباطل، وفي نفس هذا التّاريخ، نرى حدثًا انتصر فيه الباطل على الحقّ.
ونحن حين نقول انتصر هنا، نعني ما نراه في شهادتنا، وفي واقع عالمنا، نحن لا نخلط بين الكلمات في دلالاتها المقيّدة، وبين الكلمات في دلالاتها المطلقة. ففي المطلق، لا يوجد إلّا أنّ "... اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ..."[الطلاق 3]، في كلّ الأحوال، وفي كلّ الحالات، أما في المقيّد، فإنّنا نقيس الأمور بقواعد هذه الأرض في الغلبة والهزيمة.
في نفس هذا اليوم الذي نعيشه الآن، أو في هذه الأيّام، يُقال أنّ هذا اليوم هو الذي انتصر فيه موسى على فرعون، وكذلك، هو اليوم الذي انتصر فيه يزيد بن معاوية على الإمام الحسين ـ عليه السّلام ـ بالمعيار الأرضيّ، وأصبحت له الغلبة، واستقرّ له الحكم والخلافة والأمر.
من الجانب الحقيّ، سوف نرى صورةً مختلفة، فالحسين ـ عليه السّلام ـ كان يرمز للصّدق مع النّفس ومع الحقّ ـ كما يراه ـ فهو يرى باطلًا قائمًا من وجهة نظره، ويرى أناسًا يدعونه ويساندونه لتغيير هذا الباطل، فهو كإنسانٍ صادق لا يستطيع إلّا أن يتفاعل مع ما يرى أنّه الحقّ. وهذا، ما يجب أن يكون عليه الإنسان الصّالح، فبغضّ النّظر عمّا حدث بعد ذلك، فهو قد ربح نفسه، وصدق فيما عاهد الله عليه، وهذا هو المهمّ على هذه الأرض، أن يكسب الإنسان نفسه.
أمّا الجانب الآخر، فهو يعلم علم اليقين، أنّه ليس على حقّ، وأنّه يريد الدّنيا بأيّ صورةٍ وبأيّ شكل، وأنّ فعله هذا هو فعلٌ آثم، ولكن شهوة الدّنيا تناديه، والتّثاقل إلى الأرض يجذبه، وعدم القدرة على الإعتراف بالحقّ يُعجِزه، وأن يأتي بفعلٍ فيه مخادعةٌ وظلمٌ، لا يتوانى عنه، فهو وإن استعمل الحيلة، والخداع، وضعف نفوس الآخرين ـ هو مدركٌ لذلك، وفعل ذلك عن عمدٍ، فخسر نفسه.
وبذلك، فهي قضيّة إنسانٍ كسب نفسه، وإنسانٍ خسر نفسه، أمّا ما يحدث على الأرض، فهو تعبيرٌ عن قوانين هذه الأرض، بما فيها من "... دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ..."[البقرة 251].
لذلك، فإنّ تصوّر البعض أنّهم على حقّ، وهذا حقّهم أنّ يتصوّروا ذلك، إلّا أنّهم يعتقدون أنّهم بذلك لهم الغلبة على الآخرين بالقطع، فهذا هو تصوّرٌ ناقص، فهذه ليست قضيّتهم، هم عليهم أن يفعلوا كلّ ما يستطيعون، وكلّ ما يقدرون عليه، ولكن إذا جاءت النّتائج بهزيمةٍ لهم في ظاهرهم، عليهم أن يتقبّلوا ذلك، وأن يدركوا أنّ القضيّة دائمًا ـ كما نقول ـ ليست في نصرٍ مادّيّ، ولا في غلبةٍ أرضيّة، وإنّما في أن يكون الإنسان صادقًا مع نفسه.  
ونحن نقرأ تاريخ هذه الأرض، سوف نجد أنّ الرّموز الذين حملوا شعلة المعرفة، ورسموا طريق الحياة، وأرشدوا إلى الحقيقة، عانوا كثيرًا في مجتمعاتهم، والرّسل والأنبياء كلّهم كذلك، رُفِضوا من مجتمعاتهم، وحُورِبوا في كلّ دعوةٍ دعوها، وفي كلّ رسالةٍ أرادوا أن يبلّغوها.
وتظهر الرّسالة بعد حين، وتكون لهم غلبةٌ لوقتٍ مّا، ثم يجيئ المتابعون فينحرفون، ويتحوّلون، وتجذبهم الدّنيا، وتُخرجهم من الرّسالة التي كانوا يحملونها في يومٍ مّا، إلّا من رحم الله، فيواصل ويواصل.
وكما قلنا ونقول دائمًا، أنّ هذا سوف يستمرّ، فهذا هو قانون هذه الأرض، وأنّ هذا أيضًا هو حال الإنسان، فهو متقلّبٌ بين حالٍ وحال، [قلوب العباد يقلّبها الرّحمن كيف يشاء](1).
وكما أشرنا الآن، أنّ كثيرين ممّن حملوا الرّسالة المحمّديّة، وكانوا من الذين ضحّوا بكلّ ما يملكون في سبيل أن تنتشر على هذه الأرض، هم أنفسهم انقلبوا بعد ذلك. ونرى في القصص الصّوفيّ عن الذين جاهدوا على هذه الأرض، ثم انقلبوا في أواخر حياتهم، فارتدّوا إلى أسفل سافلين. ونرى ذلك أيضًا في إخوانٍ لنا في قديمٍ، أو في ماضٍ قريب.
لذلك، فإنّ كلّ إنسانٍ معرّضٌ لأن ينقلب على عقبيه، وهذا ما نعبّر عنه دائمًا، أنّ الإنسان وهو يدرك ذلك، عليه أن يخشى الله، يتعلّم خشية الله، فلا يتكبّر، ولا يغترّ، ولا يظنّ أنّه قد بلغ القمّة، ولا يعتقد أنّه أصبح مالكًا للحقيقة بين يديه، فهو لا يدري ما يُفعل به غدا. فعلينا أن ندعو الله دائمًا، وأن نتعلّم من رسوله وهو يخبرنا بذلك: [ها أنا رسول الله بينكم ولا أدري ما يُفعل بي غدا](2)، [أنا أقربكم من الله وأخوفكم منه](3).
والخوف هنا، ليس خوف إنسانٍ من إنسان، في تجسيدٍ للعلاقة بين العبد وربّه، وإنّما هو إدراكٌ لقانون الحياة الذي فيه الخير والشّرّ، وفيه الحقّ والباطل، وفيه الإنسان الذي يحمل في داخله هذه الصّفات.
عباد الله: نسأل الله، أن يجعلنا من الذين يخشونه، والذين يذكرونه، والذين يدعونه، والذين يطلبونه، والذين يستغفرونه في كلّ وقتٍ وحين.
فحمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
__________________________

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أنّنا ونحن نقرأ تاريخنا، ونرى أحداثًا تجلّت فيها قوانين الله، في "دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ"، وفي ظهور الحقّ واختفائه، وفي ظهور الباطل واختفائه، وكما نرى على أرضنا، الليل والنّهار، والنّور والظّلام، فكذلك حال الأقوام، وحال الإنسان.
فلنُدرِكْ ذلك، ولنتعلّم أنّ لا ملجأ لنا إلّا ما أودع الله فينا من عقلٍ وقلب، نتدبّر بعقولنا، ونذكر بقلوبنا، ثم نحوّل هذا إلى عملٍ بجوارحنا ـ بهذه المحاولة المستمرّة، نكون في طريقٍ يؤدّي إلى أن يكسب الإنسان نفسه. والتحدّي الأكبر، أن يظلّ الإنسان كذلك إلى أن يخرج من هذه الأرض، فإذا استمرّ كذلك، وخرج من هذه الأرض، يكون قد حقّق هدفه.
عباد الله: نسأل الله: أن يجعلنا من هؤلاء الذين يجاهدون في سبيل الله بعقولهم، وقلوبهم، وجوارحهم، حتّى يخرجوا من هذه الأرض.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، أنت أعلم بنا منّا، تعلم ما في نفوسنا، ولا نعلم ما في نفسك، "... إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ"[المائدة 109].
تعلم ما نحن عليه، وما النّاس عليه، تعلم "... خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ"[غافر 19].
اللهم ونحن نجأر إليك، ونلجأ إليك، ونتوسل بجاه رسولك لديك، وبنعمتك عليه.
اللهم وهذا حالنا، وهذا قيامنا لا يخفى عليك.
اللهم اكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم اجعلنا أهلًا لرحمتك، وأهلًا لنعمتك، وأهلًا لعلمك وحكمتك.
اللهم اجعلنا في طريقك سائرين، ولوجهك قاصدين، معك متعاملين، وعندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنبًا إلّا غفرته، ولا همًّا إلّا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا.

________________

(1)     حديث شريف: "إن القلوبَ بين إصبعين من أصابع الرحمن، يُقلِّبها كيف يشاءُ" أخرجه الترمذي، عن أنس بن مالك.

(2)     حديث شريف نصه (قال صلى الله عليه وسلم: "هذا أنا رسول الله، والله ما أدرى ما يصنع بي")، وفى رواية أخرى " قال صلى الله عليه وسلم: ما أدرى وأنا رسول الله ما يفعل بى ولا بكم". (أخرجه أحمد بن حنبل - مسند أحمد بن حنبل).

(3)     حديث شريف: "إني أتقاكم لله وأخشاكم له". أخرجه مسلم في صحيحه، كما ورد في موطأ مالك ومسند أحمد بصيغ مختلفة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق