الخميس، 5 سبتمبر 2019

قدرتنا الغير محدودة،هي قدرتنا على أن نفهم أنَّ هناك ما لا نعرفه، أمَّا ما علينا أن نفعله فهو ما هو مشهودٌ لنا.


حديث الجمعة 
8 رجب 1440هـ الموافق 15 مارس 2019م
السيد/علي رافع

حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
عباد الله: تدبَّروا آيات الله في الآفاق، وفي أنفسكم، حتَّى يتبيَّن لكم الحقَّ، فالحقُّ قريبٌ منكم، "... أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ"[ق 16]، "... وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ..."[الحديد 4]، ومع هذا القرب الشَّديد، فالإنسان لا يراه، فهو يتدانى إليكم ليساعدكم أن تروا الحقَّ في آياته، وفي تجلِّياته، "... دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى"[النجم 9،8].  
هذه إشارةٌ إلى أنَّ هذا يحدث دائمًا، وأنَّه قريبٌ منكم في كلِّ أحوالكم، في حياتكم، وما بعد هذه الحياة، فهو معكم الآن، ومعكم في "... سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى"[النجم 14]، منتهى رُقيِّكم، ومنتهى معراجكم، "... جَنَّةُ الْمَأْوَى"[النجم 15]، حين ترجعون إلى ربِّكم، "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي"[الفجر 30:27].
إنَّ حياة الإنسان قبل أن يكون على هذه الأرض، وبعد أن يغادرها، في كلِّ مراحلها من قديمٍ أزليّ، إلى قادمٍ أبديّ، هو نقطةٌ صغيرة فيما قبل الأزل، وفيما بعد الأبد، فالله أكبر دائمًا.
لذلك، حين نقرأ الآية: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ..."[فصلت 53]، تُعلِّمنا أنَّ كلَّ ما نستطيع أن نتواصل معه في ظاهرنا، هو آيات الله، هو تجلِّيات الله، وبتواصلنا معها، يتبيَّن لنا الحقُّ الذي نستطيع أن نراه، والذي نستطيع أن ندركه.
وهذا أيضًا، يمكننا أن نتأمَّل فيه في معنى: "دَنَا فَتَدَلَّى"، فقد دنا إلينا في كلِّ ما نستيطع أن نشهده، ومعنى: "فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى"، نتأمَّل فيها، فنجد أنَّها معنى حياتنا ووجودنا، حياتنا من الأزل إلى الأبد بين قوسين. لقد تجلَّى لنا في كلِّ مظاهر حياتنا، في وجودنا، وفي كلِّ ما حولنا، وكلِّ هذا بين قوسين، وقد تدنَّى لنا في حياتنا، وهو ما وراء حياتنا أيضًا، بلا نهائيّ وجوده، واتِّساعه، وقيامه، فهو "... الْحَيُّ الْقَيُّومُ ..."[البقرة 255]،"... لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ..."[الشورى 11].
إنَّ ديننا قد علَّمنا أن ننظر حولنا، وأن نتأمَّل في خَلْق الله في وجودنا، فنحن خَلْقُه، وفي خَلْق كلِّ الكائنات حولنا، "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ..."[العنكبوت 20]، كيف نسير فنرى كيف بدأ الخَلْق؟ هل نفهمها أنَّنا سوف نعرف بداية الخَلْق منذ الأزل؟
إنَّ العلماء يخرجون بنظريَّاتٍ كثيرة عن بدء الخَلْق، ولكنَّها كلُّها نظريَّاتٌ لا يستطيع أحدٌ أن يثبتها بصورةٍ نهائيَّة، حتَّى لو عرفوا بداية خَلْق هذه الأرض، أو الكواكب والنُّجوم التي استطاعوا أن يرصدوها بأدواتهم، فكلُّ ذلك يتكلَّم عن الكون المشهود لهم، في فترةٍ زمنيَّةٍ وإن طالت، إلَّا أنَّ وراءها ما قبل ذلك.
نستطيع أن نقول: أنَّ الآية تُوجِّهنا لما نستطيع أن نعرفه عن بدء الخّلْق بإمكاناتنا وبقدراتنا. إنَّنا نرى في كلِّ شيءٍ بدءًا للخَلْق، فنرى البذرة وهي تنمو فتصبح شجرةً، ونرى الجنين وقد تكوَّن في رحم أمِّه، ثم جاء إلى هذه الأرض، ونرى أيضًا ـ بنظريَّاتنا ـ كيف تكوَّنت الأرض، وكيف تكوَّنت المجموعة الشَّمسيَّة، ولو كان نظريًّا.
كلُّ ذلك لنتعلَّم، أن نتعلَّم من كلِّ ما نستطيع أن نراه، ونرى الله في كلِّ خَلْق، وقد تجلَّى بقدرته وبقانونه، بقانونه المنتظم في حياتنا وفي وجودنا، فكلُّ خلقٍ يُخْلَق، له قوانينه، وله أبعاضه، وله وظائفه، وله قدرته على الحياة، يحاول أن يبقى، وأن يدوم، وأن يعيش، بكلِّ ما عنده من إمكاناتٍ وطاقات.
[ما ظهر الله في شيءٍ مثل ظهوره في الإنسان](1)، الله ظهر في كلِّ شيء، وظهر في الإنسان بصورةٍ تُمكِّننا من أن نتأمَّل في معنى الخَلْق، وفي معنى المخلوق. فالإنسان له إرادة، وعنده قدرةٌ على أن يُغيِّر، وعنده قدرةٌ على أن يتعلَّم ممَّا يرى، وعنده قدرةٌ على أن يُعبِّر عمَّا أدركه، وهو بذلك قد تَميَّز عن باقي الكائنات.
فالكائنات الأخرى قد ترى، وقد تسمع، وقد تلمس، عندها حواسٌّ كالإنسان، وقد تفوق حواسُّها ما عند الإنسان، ولكنَّ الإنسان تَميَّز بقدرته على التَّفكُّر والتأمُّل والتدبُّر، وعلى أن يُغيِّر نفسه، وأن يُغيِّر بيئته، فهو يتعلَّم، ولم يكُ يعلم شيئًا، وهو يُغيِّر البيئة حوله، ولم يكن هناك شيءٌ.
بهذه القدرات، تَميَّز الإنسان، فخوطب بأن يتعرَّف على خَالِقه من خلال خَلْقه، وأن يُقدِّر خَالِقَه من خلال تقديره لقانونه الذي أوجد، ولكنَّ الإنسان غفل عن ذلك في مراحل كثيرة من مراحل وجوده، فنسى أن يُفعِّل ما أعطاه الله من طاقات، ونسب كلَّ ما يستطيع أن يفعله، أو يحدث له على أرضه، إلى هذه القوى الغيبيَّة التي لا يراها، ورسم لها صورًا، وربط بين ما يحدث له وبين طقوسٍ يؤدِّيها، فظنَّ أنَّه إن فعل كذا وكذا، أرضى ربَّه، أرضى هذه القوى الغيبيَّة.
وفي كلِّ بيئةٍ، وفي كلِّ أمَّةٍ، وفي كلِّ مجتمعٍ، كان إرضاء هذه القوى الغيبيَّة يتمُّ بطريقةٍ مَّا، من تقديم قرابين، أو القيام بطقوسٍ معيَّنة، حتَّى في أمورٍ يمكن للإنسان أن يعالجها بعلمه المادِّيّ المحدود، أو بقدرته المادِّيَّة المحدودة. لم يكن هذا واضحًا في العصور القديمة، فكان علم الإنسان قليلًا، وكانت قدراته على المعرفة محدودة.
ولكن مع تطوُّر الجنس البشريّ، ومع ما وصلنا إليه اليوم من معارف كثيرة بالنِّسبة لأممٍ سابقة، أصبحت الصُّورة واضحةً أكثر، فالذي كان يراه السَّابقون أنَّه لا يمكن أن يُعالَج، أو أن يُتناوَل، أو أن يُغيَّر إلَّا بقوٍّةٍ غيبيَّة، وإلَّا بطقوسٍ مبتدعة ـ أصبح اليوم، يُمكن أن يُغيَّر من خلال معرفة الإنسان، وعلم الإنسان.
ولكنَّ الطبيعة البشريَّة الموجودة، والتي هي لها جانبٌ حقِّيّ في أن يتَّجه إلى الغيب، خلطت بين الاتِّجاه إلى الغيب، وبين ما يمكن للإنسان أن يُحقِّقه على هذه الأرض.  
وتوالت الأمم تلو الأمم، حتَّى عصرنا الحديث، الذي فيه بدأ العلم المادِّيّ ينمو ويتطوَّر، وأصبح الإنسان أكثر قدرةً من سابق، ولكنَّ الفكر القديم المُتأصِّل في الفكر الإنسانيّ، في الخلط بين ما يمكن أن يفعله الإنسان وما لا يفعله الإنسان، ظلَّ موجودًا بيننا، بل أنَّنا بهذا الفكر القديم الرَّاسخ، خلطنا بين ما أُمِرنا به من عباداتٍ تُعلِّمنا كيف نلجأ إلى الغيب في دوامٍ بالدُّعاء ـ وهذا أمرٌ لا غبار عليه ـ وبين واقعنا، وما نستطيع أن نقوم به، فجعلنا من العبادات طقوسًا أخرى نتصوَّر أنَّها مطلوبةٌ لحدِّ ذاتها، وأنَّها ليست وسيلةً للإنسان للدُّعاء، مع تقديره الكامل لما يستطيع أن يفعله بقدراته وإمكاناته الأرضيَّة.
وأخذ النَّاس بعض الأحاديث بهذا المفهوم، [لو توكَّلتم على اللَّهِ حقَّ تَوَكُّلِهِ لرزقكم كما يرزق الطَّير ...](2)، وتصوَّر البعض أنَّ التَّوكل على الله هو في التزامٍ حرفيٍّ شكليٍّ فقط بعباداتٍ ومناسك، ولا يفعل الإنسان شيئًا؛ لأنَّه سيكون كالطَّير.
والحقيقة، أنَّ مفهوم الرِّزق كمفهومٍ مجرَّد، هو في يد الله كغيب، ولكن لا يعني ذلك، أنَّ في التَّقييد أن يتصوَّر الإنسان صورةً فيها تَخلِّي، وفيها تكاسلٌ، وفيها تباطؤٌ، وإنَّما هو مع كلِّ ما يفعله، وكل ما يقوم به، من اجتهادٍ، ومن عملٍ، ومن سعيٍ، فإنَّه يعلم أنَّه أيضًا كالطَّير بالنِّسبة لله بتقديره المجرَّد، وإنَّما هو بقيامه المشهود له، عليه أن يفعل كلَّ ما يستطيع. والطَّير يفعل، ويطير من مكانٍ إلى مكان ليبحث عن رزقه، فقد فعل ما يستطيعه، وأنت عليك أن تفعل مثل الطَّير، بأن تبحث وتسعى.
فهنا، ليس من الحكمة ومن المعرفة، أن يقول القائلون ويعتقدون أنَّهم يُرَغِّبون الشباب والنَّاس جميعًا في العبادة، بأن يقولوا لهم أنَّكم لو فعلتم كذا وكذا، لأصبحتم أغنياء، ولحُلَّت كلَّ مشاكلكم؛ لأنَّ القضيَّة ليست بهذه البساطة، فالقانون دائم، والحقُّ يخاطب النَّاس في خطابه لرسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ "وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ..."[الطور 48].
عباد الله: نسأل الله: أن نتعامل مع واقعنا، ومع ما هو مشهودٌ لنا، حتَّى نرى الحقَّ في ذلك، وحتَّى نتعلَّم من ذلك، وحتَّى نكون أهلًا لرحمة الله، ولفضل الله، ولنور الله.
فحمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
_______________________
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم ـ ونحن نقوله دائمًا ـ: أنَّ الإنسان عليه أن يرى الغيب في تَجلِّيه عليه في كلِّ ما يستطيع أن يشهده، فهذا هو الحقُّ بالنِّسبة له، وأن حياته كلَّها هي سعيٌ في طريق الله، وأنَّه عُلِّم في آيات الله، أن يسير في الأرض فينظر كيف بدأ الخَلْق.
في رؤيتك للحياة في مظاهرها، وفي أطوارها المختلفة، في كلِّ الكائنات التي تستطيع أن تشهدها على هذه الأرض، ترى قانون الله الفاعل، ترى قانونًا مكتملًا يتكرَّر بصورةٍ فائقة الدِّقة في كلِّ خَلْق، "... كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ"[الأنبياء 104].
فإذا كنَّا نرى، أو نستطيع أن نقول أنَّ الكون بدأ منذ بلايين السِّنين بصورةٍ مَّا، نتيجة مظاهر معيَّنة نراها في الكون اليوم، فإنَّه قبل ذلك كان هناك خَلْق، وقبل ذلك كان هناك خَلْق، وإلى لا نهاية البدء، هناك خَلْق، وبعد هذا الكون، هناك خَلْقٌ وخَلْقٌ وخَلْق، وما وراء هذا الكون في بعدٍ آخر لا نراه إطلاقًا، هناك خَلْقٌ وخَلْقٌ وخَلْق.
فكلُّ ما نستيطع أن نعرفه عن بدء الخَلْق، هو ما هو مشهودٌ لنا في حياتنا، أو بعقولنا التي استطاعت أن تُكوِّن صورةً عن قديمٍ لا تراه اليوم في حاضرها، حتَّى هذا الذي لا نراه اليوم في حاضرنا، ونراه بعقولنا، فهو أيضًا محدود، وهو أيضًا من الظَّاهر لنا، فقد ترى العقول ما لا تراه العيون، ولكن هي قدراتٌ أيضًا محدودة.
قدرتنا الغير محدودة، هي قدرتنا على أن نفهم أنَّ هناك ما لا نعرفه، وأنَّ هناك ما لا نراه، وأنَّ هناك ما لا نقدر عليه. أمَّا ما علينا أن نفعله، فهو حاضرنا، وظاهرنا، وما هو مشهودٌ لنا، وما هو الحقُّ بالنِّسبة لنا، هذا هو ما نستطيع أن نراه، وبرؤيتنا لهذا الحقِّ الذي نستطيع أن نشهده، نعلم أنَّ هذا هو الحقُّ بالنِّسبة لنا، ما علينا أن نتَّبعه، وما علينا أن نتعامل به، وما علينا أن نعتقد فيه.
عباد الله: نسأل الله: أن يجعلنا أهلًا لرحمته، وأهلًا لعلمه وحكمته، وأهلًا لفضله ورحمته.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النَّاس حولنا.
اللهم ونحن نتَّجه إليك، ونتوكَّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلَّا إليك.
اللهم فاكشف الغمَّة عنَّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السَّاعة ذنبًا إلَّا غفرته، ولا همًّا إلَّا فرَّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلَّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا.      
_______________________

(1)  مقولة صوفية.

(2) عَنْ عُمَرَ بن الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُوْلَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُوا خِمَاصاً وَتَرُوْحُ بِطَاناً» (رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي المُسْنَدِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ فِي السُّنَنِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيْحِهِ، وَرَوَاهُ الحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَصَحَّحَهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيْثٌ حَسَنٌ صَحِيْحٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الوَجْهِ).



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق