الخميس، 5 سبتمبر 2019

الذِّكر ليس كلماتٍ تُردِّدها أو حركاتٍ تقوم بها، وإنَّما الذِّكر هو يوم تستحضر عظمة الله، فتشعر باحتياجك إليه.


حديث الجمعة
22 رجب 1440هـ الموافق 29 مارس 2019م
السيد/علي رافع

حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
        عباد الله: إنَّ آيات الله تخاطبنا، وتُعلِّمنا، وترشدنا، لننتبه لحقائق الحياة، لنكون صادقين مع أنفسنا، ومع واقعنا، ومع كلِّ ما هو مشهودٌ لنا، ومعروفٌ لدينا، وألَّا نتكلَّم بما لا نعلم، وألَّا نظنَّ بالله الظُّنون، وألَّا ننسب إلى الله أمورًا نتصوَّرها، أو نتخيَّلها، إنَّما نشهد أنَّ لا إله إلَّا الله بقلوبنا وبعقولنا.
فأمَّا شهادة أنَّ لا إله إلَّا الله بعقولنا، فهي أنَّه تعالي عن كلِّ شيء، وأكبر من كلِّ شيء، ومن وراء كلّ شيء، ومن دون كلِّ شيء، ندعوه باسمه الرَّحمن الرَّحيم، ندعوه بأسمائه الحسنى، قوانين الحياة، وتجلِّياته علينا في كوننا وفي خَلْقِنا.
والقضيَّة الأساسيَّة، التي تُمثِّلها شهادة أنَّ لا إله إلَّا الله، هي أن يسأل الإنسان نفسه: هل هو يعرف كيف خُلِق هذا الكون، وكيف خُلِق هو؟ وأن يقف عاجزًا عن هذا السُّؤال، وعن إجابته، فهو لا يعرف شيئًا.
بل أنَّنا حين نتواصى بيننا، قد نقول: أنَّ هدف الإنسان من هذه الحياة، هو كذا وكذا وكذا. وقد يتصوَّر البعض أنَّه بهذا القول، قد عرف معنى الحياة، وقد عرف حكمة الله، وفي الواقع أنَّه لم يعرف حكمة الله، ولم يعرف الهدف الحقيقيّ من الحياة.
لذلك نقول ـ من وجهة نظرنا ـ: أنَّ الحقَّ المطلق، هو أنَّنا لا نعرف. وهنا نقف عاجزين، مفتقرين، طالبين، عابدين، ذاكرين، مُسبِّحين ـ وهذا ما نعنيه بشهادة أنَّ لا إله إلَّا الله بقلوبنا، هنا يبدأ الذِّكر.
وهذا الحال، لا يقوم فيه الإنسان بأن يتعلَّم هذه الكلمات ويُردِّدها، إنَّما هو ينبع من داخله. ولذلك، نُسمِّي ما نقوم به في تذكيرنا وفي أحاديثنا، ليس تعليمًا، وليس توجيهًا، ولكن نتواصى بما نعلمه، وبما نتعلَّمه.
والإنسان في هذه الحياة، حين ننظر إلى تركيبه، نجده لا يتعلَّم إلَّا من تجربته، هذا واقع، فمهما استمع الإنسان من شرحٍ لقضيَّةٍ معيَّنة، حتى في العلوم الظَّاهرة المادِّيَّة، فإنَّه لا يستطيع أن يستوعبها، إلَّا إذا قام بتجربةٍ تُوضِّح ما استمع إليه، أو بذل مجهودًا ذهنيًّا حتَّى يتعلَّمها، فالعلم لا يُؤخذ بالسَّمع، إنَّما يُؤخذ بالتَّجربة، أمَّا الذين يردِّدون ما يسمعون، فإنَّهم مجرَّد أدوات نقل، وهذا ليس بعلم.
والصُّوفيَّة قالوا عن الفقيه، أنَّه ليس هذا الذي يُردِّد آراء الآخرين، وإنَّما الفقيه الحقُّ هو الذي يقرأ، ويفكِّر، وينظر إلى الأمور من جميع جوانبها، ويتعمَّق حتَّى يصل إلى مفهومٍ له فيما تلقَّاه، وهذا ما نعنيه بالتَّجربة الذِّهنيَّة أو العقليَّة.
إذا نظرنا إلى ظواهر غير مرئيَّة، فإنَّك لا يمكن أن تَدَّعي العلم بها، فالذين يتكلَّمون مثلًا عن الإسراء والمعراج، ويقرِّرون قراراتٍ مثل: هل كان الإسراء والمعراج بالجسد والرُّوح، أم بالرُّوح فقط؟ ويدخلون في مناقشات ومجادلات عن ذلك، ما أشهدهم الله ذلك، وإنَّما الذي مرَّ بهذه التَّجربة، هو رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فأيُّ حديثٍ عن هذا الأمر، هو مُجرَّد تبليغ، إن كان النَّاقل صادقًا فيما سمع عن رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ.
ولذلك، فحين ننظر إلى ما بُلِّغنا إيَّاه عن الإسراء والمعراج، إنَّما نتأمَّل فيه كمعانٍ وليس كظاهرةٍ مادِّيَّة، نرى فيه أنَّ الإنسان بما أودع الله فيه من ملكات، وطاقات، وإمكانات، هو يعيش بجسده في مكانٍ محدودٍ على هذه الأرض، أمَّا هو كقيامٍ روحيّ، فهو ينطلق عن هذا الجسد.
وهذا ليس بشيءٍ نستنتجه، وإنَّما هو قائمٌ في حياتنا في ظواهر كثيرة، في ظاهرةٍ نقوم بها كلَّ يومٍ، وكلَّ ليلة، "اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ..."[الزمر 42]، فهو يتوفَّى الأنفس في منامها، تنطلق هذه الأنفس خارج ذاتها، ويتوفَّاها الله. وهنا، حين نقول يتوفَّاها الله، نقولها غيبًا، فنحن لا نعرف كيف يتوفَّى الله الأنفس، واستخدامنا لهذا اللفظ في حياتنا الظَّاهرة، هو أنَّه يُخرِجها من هذه الحياة، إنَّما الكلمة قد تعني أشياء كثيرةً أخرى.
ودون الدُّخول في أن نصف الإسراء بأيِّ شكلٍ، أو بأيِّ صورةٍ، أو أن نُمثِّله بظاهرة النَّوم وما يحدث خلاله، فهي تعبيرٌ عن انطلاق النَّفس الإنسانيَّة خارج الجسد، وأنَّ انطلاق هذه النَّفس لا حدود له من النَّاحية المكانيَّة ولا الزَّمانيَّة، قد تنطلق في مجال هذه الأرض في حدودٍ، ولكن أبعد من حدود الجسد، وقد تنطلق في مجالاتٍ خارج مجالات هذه الأرض.
وإذا كان الاتِّصال الرُّوحيّ قد كشف عن بعض هذه المعاني أيضًا، إلَّا أنَّ ما كشفه لا زال غيبًا أيضًا، البعض يتصوَّر أنَّ الاتِّصال الرُّوحيّ قد كشف أسرار ما بعد هذه الحياة، والحقيقة أنَّه لم يكشف الكثير، إنَّما هو كشف القليل.
وما تكلَّم عنه الصُّوفيَّة في حركتهم خارج أبدانهم، وفيما رواه البعض، من أنَّهم قد كانوا يرون شيخًا في مكانٍ يعرفون تمامًا أنَّه غير موجودٍ فيه، وما تناقلوه عن ذلك، إنَّما هو تعبيرٌ عن ظاهرة روحيَّة أيضًا، تُعبِّر عن أنَّ الإنسان أكبر من هذه الذَّات البشريَّة، وأنَّ النَّفس المخلوقة فيها أسرارٌ كثيرة.
        فأيُّ تصوُّرٍ عن هذه النَّفس وخَلْقِها، هو ما يتصوَّره المُضلُّون، وأيُّ تصوُّرٍ عن خَلْق هذا الكون وتكوينه، هو تصوُّرٌ يتصوَّره المُضلِّون، حين يُصرُّون على أنَّ ما علموه هو الحقُّ المطلق.
إنَّ الذين تحدَّثوا عن نشأة الكون من ظواهر رأوها وشاهدوها، في الظَّاهر، وفي الواقع، وفي الحاضر، لا يعني أنَّهم قد كشفوا عن سرِّ هذا الكون الكبير، إنَّما رأوا نقطةً في بحر، فالكون أكبر من ذلك بكثير، وإذا تحدَّثنا عن خَلْق هذه الأرض، وهذه المجموعة الشَّمسيَّة، فهذه نقطةٌ في بحرٍ لا نهائيّ، لا يعني أنَّنا عرفنا خَلْق الكون.
هذا التَّأمُّل وهذا التَّفكُّر في خارج الإنسان، في خَلْق الأكوان، وكذلك تأمُّل الإنسان في داخله، وخَلْق نفسه ـ هو الذي يُورِث الإنسان معنى الافتقار إلى الله، ومعنى الذِّكر لله، ومعنى التَّسبيح بالله.
لذلك، فتأمُّلنا في الذِّكر، هو أن نستحضر هذا الاحتياج من الإنسان لربِّه، من افتقاره لربِّه، من إحساسه بضعفه، حين يذكر بأيِّ صورةٍ وبأيِّ شكل، عليه أن يستحضر هذا المعنى، فهذا الاستحضار هو ما يجعل ما يقوم به ذكرًا، وأيُّ قولٍ، وأيُّ ترديدٍ بلسان، وأيُّ حركةٍ بجوارح دون أن يصاحبها هذا الإحساس بالافتقار، لا يمكن أن نطلق عليه ذكرًا.
لذلك، نجد الآية: "وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى"[الأعلى 15]، "وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ" هو ما نقوله في تأمُّلنا، أن نشعر باحتياجنا وافتقارنا إلى ربِّنا، فاسم ربِّنا هو أن ندرك أنَّنا في حاجةٍ إليه، وفي افتقارٍ إليه، نعجز أن نحيط إلَّا بالقليل القليل، ونطمع أن نكون في الطَّريق القويم، وعلى الصِّراط المستقيم.
وكلُّ إنسانٍ له تصوُّرٌ في الحياة، وله أهدافٌ في الحياة، أيًّا كانت هذه الأهداف، وهو لا يستطيع أن يُحدِّد أنَّ هذه الأهداف التي يستهدفها، هي خيره ونجاته، ولا يستطيع أيضًا أن يفعل شيئًا إلَّا أن يتَّبعها، فهو عليه أن يتَّخذ في كلِّ يومٍ قرارات، وأن يتَّخذ اختيارات، وهو يفعل ذلك وهو يعلم أنَّه لا يعلم، فالمساعدة هنا والتَّوفيق وطلب التَّوفيق، ضرورةٌ في حياة الإنسان. ومن هنا، كان الذِّكر، وكان استحضار هذه المعاني، ضرورةً في حياة الإنسان.
وكلُّ الدِّين، هو يُعلِّمك ذلك، يُعلِّمك ضرورة أن تكون في علاقةٍ بالغيب، بالذِّكر وبالدُّعاء، وهذا ما تُعبِّر عنه كلُّ العبادات، وهذا هو معنى طاعة الله. فطاعة الله، هي في الصِّدق في القيام، وفي إدراك قدرات الإنسان واحتياجه إلى الدُّعاء والرَّجاء.
عباد الله: هكذا نُذكِّر أنفسنا دائمًا، "... فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ"[الذاريات 55]، نُذكِّر أنفسنا أن نكون في افتقارٍ إلى الله دائم، وفي أن نشعر دائمًا بأنَّ لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله، وأن نتوكَّل على الله في كلِّ أمر، وأن نسأل الله أن يوفِّقنا في كلِّ حال، وألَّا نغترَّ بوجودنا، ولا بظلامنا، ولا بعقولنا، ولا بتقديرنا، ولا بفهمنا حتَّى، وإنَّما نكون دائمًا طالبين العون، وطالبين التَّوفيق.
نسأل الله: أن يوفِّقنا دائمًا، وأن يجعلنا في طريقه سالكين، ولوجهه قاصدين.
فحمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
_______________________
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: عن معنى الذِّكر، وأنَّ الذِّكر ليس كلماتٍ تُردِّدها، وليس حركاتٍ تقوم بها، وإنَّما الذِّكر هو يوم تستحضر عظمة الله، وعلوَّ الله، فتشعر باحتياجك إليه، وبرغبتك في الرُّجوع إليه، وباحتياجك للتَّوكُّل عليه، وأن لا هداية لك إلَّا بأن يهديك، فتكون مُتقبِّلًا لنفحاته، وقارئًا لآياته، ومدركًا أنَّ لا حول لك ولا قوَّة.
وفي نفس الوقت، فأنت مضطَّرٌّ في حياتك أن تتَّخذ قرارات، وأن تأتي بأفعال، فعليك أن تفعل ذلك، ولكن في فعلك تكون مستعدًّا دائمًا لأن تستمع لآيات الله، ولكلمات الله في كلِّ ما يحدث حولك، وأن تتَّجه إلى الله دائمًا في نهارك وليلك بالدُّعاء والرَّجاء، وهذا هو معنى العبادة، ومعنى الذِّكر، وهو سرُّ كلِّ التدريبات الرُّوحيَّة، والمناسك التي جاءت بها كلُّ الأديان، من صلاةٍ وصوم، ومن زكاةٍ وحجّ، ومن تعاملٍ بالتي هي أحسن، هذا ما يساعدك أن تخطو خطواتٍ إلى الأمام.
هذا ما نسأل الله دائمًا أن نكون عليه، وألَّا ننسى ذلك، فالإنسان ينسى، ويحتاج دائمًا إلى التَّذكير، "وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا"[طه 115]، هذا حديثٌ عن خَلْق الإنسان، وعن وجود الإنسان، هكذا خُلِق لحكمةٍ أكبر من أن نحيط بها.
لذلك، فإنَّ أيَّ إنسانٍ يَدَّعي معرفة حكمة الله، فهو بذلك يقول ما لا يعلمه، إنَّه يقول تَصوُّره، إنَّه يقول فهمه، ولكن ليست هذه حكمة الله، وليس أيُّ ما نقوله هو كلام الله، فالله أكبر دائمًا، إنَّما نحن نحاول، وتنتهي محاولاتنا دائمًا بأنَّ لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله، وأنَّنا عاجزون عن أن نفهم معنى الحياة، وأنَّنا مفتقرون إلى الغيب، وأنَّنا نسأل الله دائمًا أن تكون حركاتنا، واختياراتنا، وقراراتنا، خطواتٍ لنكسب في الله أكبر.
نسأل الله: أن يُحقِّق لنا ذلك، وأن يجعلنا كذلك.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النَّاس حولنا.
اللهم ونحن نتَّجه إليك، ونتوكَّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلَّا إليك.
اللهم فاكشف الغمَّة عنَّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنَّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السَّاعة ذنبًا إلَّا غفرته، ولا همًّا إلَّا فرَّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلَّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا.   
      


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق