الأحد، 8 سبتمبر 2019

كيف نفهم "يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً"؟


حديث الجمعة 
18 شوال 1440هـ الموافق 21 يونيو 2019م
السيد/ علي رافع

حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
عباد الله: إنَّا نتدبَّر ونتأمَّل في كلِّ حديثٍ أو حدثٍ يدور حولنا، من أيِّ فئةٍ، ومن أيِّ جماعةٍ، ومن أيِّ إنسانٍ، فكلٌّ يتحدَّث بما هو له أهل، سواء كان الذي يقول يجد رضًا عندنا، أو نختلف معه. فكلُّ إنسانٍ يُعبِّر عن زاويةٍ يراها طبقًا لثقافته، ولعلمه، ولاعتقاده. بل أنَّ دين الحقِّ أخبرنا بأنَّ الذين يقرؤون كتاب الله، منهم من يهتدي به، ومنهم من يَضِلُّ، "... يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ..."[البقرة 26].
وكثيرٌ يتساءلون: كيف يُضِلُّ به كثيرا؟ والإنسان حين يسمع ذلك، فربَّما يقول أنَّ هناك تفسيرًا وتأمُّلًا لا أعلمه، في كيف أنَّ حديث الحقِّ قد يُضِلُّ به من النَّاس الكثيرين. وكذلك، حين نقرأ الآية: "... مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا"[الكهف 17]، أيضًا نتساءل نفس التَّساؤل.
فإذا أردنا أن يكون لنا فهمٌ في مثل هذه الآيات، فعلينا أن ننظر إلى الواقع، لأنَّنا لا نستطيع أن نتكلَّم عن الله، وكيف يُضِلُّ الله، وكيف يُضِلُّ حديث وكتاب الله، وإنَّما نتكلَّم عن الواقع الذي نراه، نتكلَّم عن النَّاس، نتكلَّم عن النَّاس ونحن ندرك أنَّ رؤيتنا لهم، هي رؤيةٌ مرتبطةٌ بما نفهمه نحن.
والإنسان حين يفهم شيئًا ويعتقد فيه، يظنُّ أنَّه الأفضل بالنِّسبة له، وأنَّه الهُدى بالنِّسبة له، فنحن نبدأ بذلك حتَّى لا يُفهم أنَّنا نقول أنَّنا مَنْ على الهدى وأنَّ الآخرين هم الضَّالون، إنَّما نقول ذلك نسبيًّا واعتقادًا.
وإذا أردنا أن نكون أكثر صدقًا في قولنا، فإنَّنا نقول أيضًا، أنَّه مفهومٌ ضدَّ مفهوم، وحالٌ ضدَّ حال، وقيامٌ ضدَّ قيام، ورؤيةٌ ضدَّ رؤية، سمِّهما ما شئت، سمِّهما ضلالٌ وهُدى، أو إيمانٌ وكفر، أو حقٌّ وباطل، أيًّا كانت التَّسمية، إنَّها أضدادٌ، وكلُّ إنسانٍ يؤمن بما يعتقده.
هذا تمهيدٌ قبل أن نجيب عن السُّؤال: كيف نفهم "يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً"؟
إنَّا حين ننظر اليوم في مجتمعٍ غير المجتمع الذي وُلِد على الاعتقاد بالرِّسالة المُحمَّديَّة، كتعبيرٍ عن مفهوم الإسلام الحقِّيّ، نتحدَّث عن أناسٍ من مجتمعاتٍ غير هذه المجتمعات، سوف نجد كتاباتٍ وكتبًا تتكلَّم عن القرآن بإكبارٍ وإجلالٍ، ورؤيةٍ لما فيه من إعجازٍ، في بلاغةٍ، أو في إنباءٍ، أو في تعبيرٍ عن قضايا لم يكن يعلم المجتمع الذي نزل فيه القرآن شيئًا عنها، قد تكون ظواهر علميَّة عَبَّر عنها القرآن بصورةٍ قريبةٍ ممَّا أدركه العلم بعد قرون، وتكلَّموا عن هذا الإعجاز.
من نفس هذه المجتمعات، نجد من قرأ القرآن ونقد القرآن، ونقد آياتٍ في القرآن، بل قال في بعضها عكس ما ذهب إليه الآخرون. في نظرنا، قد يكون هؤلاء مُتجنِّين، ولكن هذه رؤيتهم، وهذه قراءتهم، قراءتهم انعكاسٌ لاعتقادٍ اعتقدوه، ولمفهومٍ فهموه، فأسقطوا مفهومهم واعتقادهم على ما يقرؤون، ففهموه بطريقةٍ ملتوية، مصداقًا لقوله: "يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً".
والضَّلال هنا، من الإنسان الذي يقرأ الآيات فيُسقِط عليها مفهومه، ويُحوِّلها إلى ما يُؤيِّد مفهومه، ونفس هذه الآيات حين يقرؤها إنسانٌ آخر محبٌّ معتقدٌ رأى معانٍ جميلة، يرى في هذه الآيات نفسها إعجازًا، وتقديرًا، وإدراكًا لمعانٍ عميقة، ويفهمها فهمًا آخرًا تمامًا. فالقضيَّة في الإنسان.
في المعنى المُجرَّد ـ كما نقول دائمًا ـ خلق الله كلَّ إنسان، والله من وراء الكلِّ بإحاطته، وأوجد في كلِّ إنسانٍ ما أوجد. بإدراك إطلاق الله وتجريده عن الصُّورة والشَّكل، فالله من وراء كلِّ هؤلاء بإحاطته، فهم خَلْقه، "إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا"[مريم 93].
هذا الفهم المُجرَّد، هو فهمٌ مطلق، لا نستطيع أن ندخل في تفصيله، وإنَّما نحن نستطيع أن نرى من يهتدي بما يقرأ، ومن يَضِلُّ بما يقرأ، من يرى رؤيةً في اتجاهٍ مُعيَّن، ومن يرى رؤيةً في اتجاهٍ آخر، بل أنَّ هذا أيضًا ليس مقصودًا به اتِّجاهين، إنَّها اتجاهاتٌ مختلفة، وإنَّها رؤىً مختلفة، "... رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ..."[الأنعام 165]، "... جَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ..."[الحجرات 13]، "... وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ..."[المائدة 48].
لذلك، فمن ناحية التَّقييد نقول مؤمنٌ وكافر، نقول مهتدٍ وضالّ، نقول هذا يرى ذلك، وذلك يرى شيئًا آخر. ومن ناحية التَّجريد لا نجد إلَّا أنَّ الكلَّ يحاول ويفهم ما يعتقده. فإذا قلنا وإذا تصوَّرنا أنَّ كلَّ ما يعتقده الإنسان، طالما هو قائمٌ عن صدقٍ ورغبةٍ حقيقيَّة في أن يكون في الأفضل ـ فكلُّ النَّاس مؤمنون. وإذا قلنا أنَّ النَّاس لا يستطيعون أن يروا ما يراه الآخرون، وكلٌّ يُكفِّر الآخر ـ فكلُّ النَّاس كافرون.
أمَّا ونحن في عالمٍ مقيَّد، فنحن نرى الأضداد، ونختلف، فنقوم في الحالين، في حال تقييدنا نقول نحن وهم، وفي حال تجريدنا نقول كلُّنا، والله أعلم بنا، والله أعلم بما نحن فيه مختلفون، الله أكبر عن أيِّ تصوُّرٍ لنا، وعن أيِّ تضادٍّ بيننا، وعن أيِّ اختلافٍ نختلف عليه، ونحن في تقييدنا نحاول أن نَصدُق مع ما نرى أنَّه الخير لنا.
فنحن لا نستطيع أن نتعامل على أرضنا، إلَّا إذا كانت لنا وجهةٌ نتَّجه إليها، وقبلةٌ نستقبلها، وفهمٌ نُطبِّقه، وعملٌ صالحٌ نُؤدِّيه، وتعاملاتٌ نقوم بها، نرى فيها الأحسن والأفضل والأقوم.
إنَّ تصوُّر أنَّ منطقًا معيَّنًا هو المنطق الواحد الصَّحيح، هو تصوُّرٌ باطل؛ لأنَّ هذا المنطق الذي تتصوَّره سيرفضه الآخر رفضًا تامًّا. ولكنَّنا في حياتنا نرى أنَّ كلَّ فريقٍ يتصوَّر أنَّه يملك المنطق الحقَّ المطلق، وكلٌّ يدفع بذلك، ويهاجم الآخر. والهَدْي القرآنيّ يعلمنا تعبيرًا عن الاختلاف، "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ"[الكافرون 6:1].
فالدِّين هنا، هو ما يعتقده الإنسان، وما يؤمن به الإنسان، فلو تصوَّرنا ـ جدلًا ـ أنَّ هناك إنسانًا يؤمن بالقيم الإنسانيَّة، ولا يؤمن بأيِّ غيبيَّاتٍ أو علاقاتٍ غيبيَّة، فهذا يمكن أن يُسمَّى أنَّ هذا هو دينه؛ لأنَّ هذا هو ما يعتقده، هذا كما نرى في الآية القرآنيَّة.
عباد الله: إنَّا نقول هذا، لنفهم "مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا"، "يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً".
نحن في قولنا هذا، إنَّما نحاول أن نفهم فهمًا يُقرِّب هذا المعنى لنا، ولكن قد يفهمه آخرٌ بصورةٍ أخرى، لا مانع في ذلك، فنحن نقول فهمًا، ولا نقول أنَّنا نُعبِّر عن فهمٍ أَوْحد، أو عن إدراكٍ أقوم، إنَّما هي محاولةٌ لنتعلَّم ما يُفسِّر لنا ما نراه حولنا، ونربطه بآيات الله لنا، حتَّى نكون أكثر إدراكًا لقوانين الحياة حولنا.
نسأل الله: أن يوفِّقنا لما فيه خيرنا، ولما فيه صلاحنا.
فحمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
___________________________


الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم، وأن نفهمه، وأن نتأمَّل فيه: "مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا"، و"يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً"، ونرى ذلك في واقعنا، وفيما يحدث حولنا، في بيئتنا، وفي بيئاتٍ مختلفةٍ عنا.
والهَدْي والضَّلال هنا، لا يعني هديًا مطلقًا، أو ضلالًا مطلقًا، وإنَّما هي مفاهيمٌ مختلفة، نرى ذلك في تاريخنا، وكيف اختلف صحابة رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ في مفاهيمهم، وكذلك أتباعهم، وأتباع أتباعهم، إلى يومنا هذا.
ونرى ذلك أيضًا في مجتمعاتٍ غريبةٍ عنَّا من ناحية الثقافة والتَّاريخ، قرأوا كتاب الله، فمَسَّ قلوبهم، وأدركوا ما فيه من حكمةٍ ظاهرةٍ وباطنة، وآخرون رفضوا ما فيه من حقّ، بل وتهجَّموا عليه، ولا زالوا كذلك، لا زال هناك من تَمَسُّ الآيات قلبه، وهناك من لا تَمَسُّ الآيات قلبه، إنَّما يُسقِط فهمه ورفضه على ما يقرأ، فيقرأ ما يقرأ بظلامٍ موجودٍ فيه، وبرؤيةٍ مُسبَّقةٍ رآها وصدَّقها.
كلُّ إنسانٍ مطالبٌ بأن يقرأ آيات الله في الآفاق، وفي نفسه، وفي كلِّ صورةٍ من كتابٍ، أو حدثٍ، أو حديثٍ، أو رؤيةٍ، أو فهمٍ لآخر، ويعرض الأمر على قلبه وعلى عقله، ليرى أين هو، وكيف هو.
والإنسان الصَّادق يخشى الله، "... إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ..."[فاطر 28]، و"... لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ..."[الأحزاب 21]، وهو يقول لكم: [أنا أقربكم من الله وأخوفكم منه](1).
فالقضيَّة ليست أن يتعصَّب إنسانٌ لرأيه بظنِّ إيمان، وإنَّما أن يتعصَّب لمنهجٍ في القراءة، وفي الرُّؤية، وفي الصدق، وفي المحاولة، وفي كيفيَّة التَّعامل مع الآخر الذي يختلف معه، وهو دائمًا يتَّجه إلى الله بالدُّعاء والرَّجاء أن يكشف له ما هو أفضل بالنِّسبة له، ما يجعله أكثر صدقًا، وأكثر نورًا، وأكثر صلاحيةً، وأكثر إدراكًا، وأكثر ذكرًا، وأكثر قربًا من حقيقة وجوده، ومن الهدف الذي خُلِق له.
وهو في هذه الدَّار قائمٌ في حجاب، لا يعرف من هو، وكيف هو، وإلى ماذا سيصير، فيسأل الله دائمًا أن يجعل خواتيم أعماله أصلحها، وأن يجعله أهلًا لتلقِّي نفحات الله، وأن يجتبيه الله إليه فيهديه، وينير له طريقه، ويفتح له باب الحقِّ والصَّلاح والفلاح ـ الحقُّ المناسب له والأصلح له. يخشى الله دائمًا، ويُسبِّحه دائمًا، ويرجوه دائمًا، ويلجأ إليه دائمًا، في كلِّ صلواته، وفي كلِّ عباداته، وفي كلِّ معاملاته.
نسأل الله: أن يجعلنا كذلك، وأن يوفِّقنا لذلك، وأن يجعل أفعالنا تطبيقًا لما نقوله، ولما نؤمن به، حتَّى نكون عبادًا لله حقًّا، ورجالًا في طريقه سالكين، ولوجهه قاصدين.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النَّاس حولنا.
اللهم ونحن نتَّجه إليك، ونتوكَّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلَّا إليك.
اللهم فاكشف الغمَّة عنَّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنَّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك صادقين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا.
________________________

(1)  "إني أتقاكم لله وأخشاكم له". حديث شريف أخرجه مسلم في صحيحه، كما ورد في موطأ مالك، ومسند أحمد بصيغ مختلفة.

            


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق