- حديث بعد صلاة الجمعة 29 مايو 1998 للسيد علي رافع
- أعد للنشر بواسطة: عائشة رافع
إن الهدف من هذا الطريق هو أنه يقدم رؤية جديدة وقراءة جديدة في تناول ما بين أيدينا من آيات الله وكتاب الله وأحاديث رسول الله. نحن نقول جديدة بالنسبة لما هو قائم .. وإنما هي ليست جديدة بمعنى أنها طارئة أو مستحدثة .. فهي موجودة في الأصول .. موجودة في الآيات .. موجودة في الأحاديث ولكن القراءة تختلف. الناس تجمدت عند مفهوم واحد في قراءة الآيات وقراءة الأحاديث وقراءة الدين ككل، مع أن المفروض أن تكون هناك قراءات متعددة ومفاهيم متعددة. التعدد ليس أمرا بعيدا طالما أن هناك احتراما من كل فهم للآخر. الخطورة في التعدد حين يظن كل واحد أنه على حق والآخرين على باطل، وأن ما يفهمه هو الحق الوحيد، وهذا شئ ليس صحيحا لأن كل إنسان له مفهومه، وأيا كان الإنسان، وأيا كانت مقدرته، وأيا كان مستواه، فله رؤية محدودة ولا يحق له أن يجعلها مطلقة. هذا ما نطبقه على أنفسنا، فإذا كنا نتحدث عن مفهوم، فهذا المفهوم ليس هو الصحيح الوحيد، أو ليس هو القراءة الوحيدة، إنما هناك قراءات كثيرة سبقت وقراءات كثيرة ستلحق.
أساس قراءتنا هو أن البدء في الفهم والرقي والتغيير إلى الأفضل يأتي من الإنسان نفسه، وأن الإنسان حين يقوم بأي منسك في الدين أو يلتزم ظاهريا بتعاليمه دون أن يكون عنده مفهوم فيما يفعل وإحساس بما يفعل فإن الأمر كله يصبح مجرد عادة .. أو تقليد .. أو ترديد لكلمات لا أثر لها ولا تأثير حقيقي على وجوده، الأحاديث النبوية توضح أن الإنسان في أي مرحلة إذا قام بأي من التعاليم دون وجود الفهم الصحيح القائم على احترام العقل وصفاء القلب و القيام بالعمل معبرا عن ذلك، تصبح أشياء لا قيمة لها بل هي رياء مرفوض "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا" و"رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش" و "اقرأ القرآن ما نهاك، فإن لم ينهك فلست تقرأه" ويحدثنا عن زمن لا يوجد فيه من الدين إلا شكله ولا من القرآن إلا رسمه.
ويعيش الإنسان الظن بأنه في إيمان في حين أنه لم يراع أساسيات الدين. فالدين يدعو الإنسان لأن يعمل ما أعطاه الله من نعم، فالآية الكريمة تقول {إن شر الدواب الصم البكم الذين لا يعقلون} الأنفال (8) : 22 ومن يقوم بأي شئ دون أن يفهمه فهو {كمثل الحمار يحمل أسفارا} الجمعة (62) : 5 . فالدين الإسلامي يأمر الإنسان بالتفكر ويضرب أمثلة على ذلك في عشرات وعشرات الآيات{قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق} العنكبوت (29) : 20 {فلينظر الإنسان مما خلق. خلق من ماء دافق} الطارق (86) : 5، 6 {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} الغاشية(88) : 17{ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور} الملك (67) : 3 ومع استعمال العقل استعمال كافة الحواس من السمع والبصر لأنها نافذة العقل إلى العالم الخارجي. فهذا أساس من أسس الدين. الأساس الثاني والذي يكمل ولا يعارض الأساس الأول هو استعمال القلب والإحساس والضمير وهو "الذكر" : {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} هم أيضا {ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا} آل عمران (3): 191 وهناك {الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه"} الكهف (18) : 28. وهناك العمل بالجوارح {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } التوبة(9): 105. {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا}الإسراء(17): 36
هذه البداية ـ إعمال العقل والقلب واستقامة الجوارح ـ هي المنهج الذي اتبعه جميع الرسل والأنبياء بلا استثناء .. فكل رسول رفض مالم يقبله عقله من سلوك قومه ومن أفكار سائدة وجامدة يفعلونها لأنها "دين آبائهم".. وكل رسول اعتزل قومه وابتعد عن الحياة المادية إلى حين حتى يتيح لنفسه التواصل مع داخله .. مع فطرته .. مع قلبه الذي يعرف الحقيقة .. وكل رسول أو نبي نادى بالأمانة في العمل وإتقانه وخدمة الآخرين من خلاله .. لماذا إذن لم يستفد الإنسان من هذا المنهج؟
لأنه حوّل الدين إلى مفاهيم جامدة وإلى صور وأشكال خالية من الروح وإلى عادات وتقاليد اجتماعية .. باسم الدين يُسلب الإنسان قدرته على إعمال عقله .. ويقع فريسة لطبقات من المفاهيم البالية تحرمه التواصل مع قلبه .. مع فطرته .. مع صوته الداخلي الذي يعرف كل الحقيقة إذا ما "ذكر وتذكّر".. وباسم الدين أيضا يتكاسل الإنسان ويقصر في استعمال قدرات وجوده المادي الهائلة والمتنوعة .. الحقيقة أن الدين ليس شيئا بعيدا عن الإنسان، الآية الكريمة تقول {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} الذاريات(51): 21 والحديث الشريف يقول ."استفت قلبك وإن أفتوك وإن أفتوك وإن أفتوك"
الرؤية التي نقدمها تقول بأن الإنسان لا يستطيع أن يستمد من أي مصدر للمعرفة .. ولا من أي كتاب مقدس .. أو تعاليم دينية شيئا نافعا قبل إعداده هو لنفسه وتنمية كل ملكاته. من أساسيات الدين أن يتدرب الإنسان على استفتاء قلبه، يتعلم كيف يتجرد من الهوى، هذا تدريب على إحياء القلب والتواصل معه ليجيب الإنسان في أمر ما. ومن أساسيات الدين أن يستعمل الإنسان عقله في النظر بعمق لكل ما حوله، أي استيعاب جميع العلوم وتطويرها واكتشاف أسرار الكون بأدواته، ومن أساسيات الدين العمل ثم العمل في كل مجال وبلا تكاسل.
إن الإنسان إذا ما أعمل عقله وقلبه وجوارحه سيجد تساؤلات كثيرة وسيجد إجاباتها عندئذ فيما يقدمه القرآن والسنة .. فالإنسان مثلا سيعمل عقله إلى أقصى ما يستطيع لكنه سيجد أن عقله وحده ليس هو العنصر الوحيد .. فيتوجه إلى قلبه .. بهذا القلب يدرك أن هناك ماهو غيب عليه .. قوى عليا ينتمي إليها وجوده .. وأن هذه القوة لها تأثير بشكل ما على حياته .. كيف لايؤدي به هذا الإحساس إلى تغييب كل شئ؟ وكيف لا يتعارض هذا الإحساس مع احترام العقل؟ نجد الآيات والأحاديث التي توجه الإنسان إلى أن إقامته لعلاقة مع هذا الغيب إنما هي لإعطائه قوة روحية نورانية تساعد كيانه على البقاء والامتداد .. وأنه بهذه القوة الروحية عليه أن ينطلق في الأرض بالسعي للمعرفة والعلم والعمل طبقا لما يراه ويقدره العقل. إذا فهم الإنسان ذلك وأحسه سيفهم لماذا يوجد منسك الصلاة .. تصبح الصلاة استجابة لاحتياجه هو للصلة مع الغيب .. صلة يكون لها تأثيرها الإيجابي في وجوده .. فحين يسلك في الحياة يحترم العقل أكثر ويرفض الانصياع لأي عادات أو تقاليد لا يقرها عقله.. ومع العلم والعمل هو يحتاج للوصلة بالغيب ليستمد طاقة روحية. هذا ما تستهل به سورة البقرة من معان وهي أول سورة بعد فاتحة الكتاب حيث يذكر الله تعالى أن الذين سيجدون الهدى في "الكتاب" هم الذين يؤمنون بالغيب "ويقيمون الصلاة" أي الصلة بهذا الغيب .. ثم "مما رزقناهم ينفقون" أي العمل الصالح الذي ينبع من قوة الخير ويوجهه العقل في هذا الاتجاه.. اتجاه حسن استخدام الإنسان لكل ما يملك من نعم .. تفكير.. إحساس .. مهارة يدوية .. صحة .. بصر .. سمع .. مال .. موهبة .. علم .. تجربة .. كل شئ ليس موجودا للعبث أو الإهدار، وإنما للخدمة. الخدمة هي أن يحسن الإنسان عمله في كل مجال، وأن يقوم بما ينفع الناس فهنا القول الصالح "الدين المعاملة" والحديث الشريف يعتبر أن من يقضي حاجة لأخيه أو يفرج عنه كربة من كرب الدنيا فقد كسب كثيرا في الله، وتقول الرسالة الروحية إن أعظم رقي للإنسان يأتي من الخدمة.
من الطبيعي أن يقابل الإنسان قضايا مختلفة وهو يسلك في الحياة من هذا المنطلق وسنرى أن كل صغيرة وكبيرة من تعاليم الإسلام تعبر عن قضية ما .. ليس هناك التقسيم التعسفي بين الجسد والقلب والعقل واعتبار أن ما هو عقلي أو قلبي متفوقا على ما هو مادي .. ولا يحل العمل الجسدي محل العمل القلبي ويلغيه "إن ذرة من عمل القلوب تساوي جبالا من عمل الجوارح" .. المهم هو "الاتجاه" ..فالعقل ممكن أن يضل إذا ما أبدع في التخطيط للشر .. والقلب يضل حين تصدر منه طاقات مظلمة من حسد أو حقد أو كراهية .. والجسد يضل حين ينفذ إرادة قلب مظلم وعقل شرير .. في المقابل هناك عمل صغير بالجوارح لكن قيمته عظيمة لأن وراءه طاقة كبيرة من الحب .. فالقضية هي كيف يمكن ـ لمن يحب ويختار ذلك بمحض إرادته ـ أن يجعل كل هذه الملكات تعمل في اتجاه الخير والحب والجمال .. إذا ما أراد ذلك فأمامه رحلة طويلة يشاركنا فيها المعرفة والقراءة .. قراءة نفسه .. فهو كما أن فيه كل هذه المقومات الإيجابية .. والتي تعبر عنها تعاليم الإسلام بأنها "الفطرة " أو "روح الله" أو "السر الإلهي" أو "أمانة الحياة" ففيه أيضا قوة سلبية، فالإنسان خلق و"الله أقرب إليه من حبل الوريد"، كما أن "الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم " .. فمن خصائص تواجد الإنسان على الأرض وجود "النفس" .. هذا الوجود المرتبط بالتواجد على هذه الأرض.. إذا ما ارتبط الإنسان بقوة الخير والنور تتطور هذه النفس ولا تصبح عائقا لتطور الإنسان الروحي بل وسيلة من وسائل حمايته على هذه الأرض .. وإذا لم يعرف الإنسان كيف يفعل ذلك فهي بطبيعتها تجذبه إلى الاتجاه المعاكس .. وتحاول أن تسخر وجوده لنفسها .. تحبه أن يكون أنانيا طماعا .. تحبه أن يتكاسل عن إعمال عقله .. أو تدفعه لاستغلاله لصالحها فقط دون الآخرين .. تستولي على قدرات قلبه وتوجهها للهوى فتضلله إذا ما أراد استفتاء قلبه . إذا ما لاحظ الإنسان ذلك في نفسه وأحب أن يعرف كيف يسلك سيجد أن تعاليم الإسلام تتيح له فرصة المعرفة بكيف يوصل قلبه بقوة الخير وتلك هي الصلاة، وكيف يعد جسده للتطهر وهذا منسك الزكاة والصيام ومعنى الاستغفار. وكيف لا يتيح ل"النفس" أن تستولي على وجوده وهذا هو جوهر المحللات والمحرمات.. وكيف يطلب العون من القوة العليا وهذا هو الدعاء، وكيف يتحرر من أي سطوة على وجوده من رغبة أو شهوة أو هدف موقوت أو شخص يظنه يملك له أي شئ فيعامل مع كل وكأنه إله.. وهذا هو جوهر شهادة "أن لا إله إلا الله" .. وكيف يتوجه لكل ما هو أحسن وأفضل وأقوم في حياته الواقعية وهذا هو جوهر "محمد رسول الله" .. وكيف يكون محور حياته هو علاقة في الله وهذا هو معنى من معاني "الحج" .. وكيف تكون كل لحظة في الحياة هي من أجل كسبه الروحي ومن أجل صالح وجوده على الأرض أيضا.. وهذا معنى العمل الصالح .. وكيف يكون رقيه وكسبه بلا حدود وبلا انتهاء وهذا هو معنى العبودية لله.
كل كلمة في الكتاب والسنة هي كشف عن معنى لمن يسعى لهذا المعنى، وليس قهرا من أي نوع.
كل هذه المعاني موجودة في تراثنا الإسلامي وموجودة في التراث الروحي للبشرية، لكن الناس تجمدها في أشكال ولا تقرأها القراءة التي تحيي في الإنسان قيمة وجوده، وتجعله يقدّر هذا الوجود ويقدّر حياته على هذه الأرض ويقدّر معناه.
إذا ما فعل الإنسان ذلك فيصبح حاله غير الحال الذي هو عليه الآن
أساس قراءتنا هو أن البدء في الفهم والرقي والتغيير إلى الأفضل يأتي من الإنسان نفسه، وأن الإنسان حين يقوم بأي منسك في الدين أو يلتزم ظاهريا بتعاليمه دون أن يكون عنده مفهوم فيما يفعل وإحساس بما يفعل فإن الأمر كله يصبح مجرد عادة .. أو تقليد .. أو ترديد لكلمات لا أثر لها ولا تأثير حقيقي على وجوده، الأحاديث النبوية توضح أن الإنسان في أي مرحلة إذا قام بأي من التعاليم دون وجود الفهم الصحيح القائم على احترام العقل وصفاء القلب و القيام بالعمل معبرا عن ذلك، تصبح أشياء لا قيمة لها بل هي رياء مرفوض "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا" و"رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش" و "اقرأ القرآن ما نهاك، فإن لم ينهك فلست تقرأه" ويحدثنا عن زمن لا يوجد فيه من الدين إلا شكله ولا من القرآن إلا رسمه.
ويعيش الإنسان الظن بأنه في إيمان في حين أنه لم يراع أساسيات الدين. فالدين يدعو الإنسان لأن يعمل ما أعطاه الله من نعم، فالآية الكريمة تقول {إن شر الدواب الصم البكم الذين لا يعقلون} الأنفال (8) : 22 ومن يقوم بأي شئ دون أن يفهمه فهو {كمثل الحمار يحمل أسفارا} الجمعة (62) : 5 . فالدين الإسلامي يأمر الإنسان بالتفكر ويضرب أمثلة على ذلك في عشرات وعشرات الآيات{قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق} العنكبوت (29) : 20 {فلينظر الإنسان مما خلق. خلق من ماء دافق} الطارق (86) : 5، 6 {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} الغاشية(88) : 17{ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور} الملك (67) : 3 ومع استعمال العقل استعمال كافة الحواس من السمع والبصر لأنها نافذة العقل إلى العالم الخارجي. فهذا أساس من أسس الدين. الأساس الثاني والذي يكمل ولا يعارض الأساس الأول هو استعمال القلب والإحساس والضمير وهو "الذكر" : {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} هم أيضا {ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا} آل عمران (3): 191 وهناك {الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه"} الكهف (18) : 28. وهناك العمل بالجوارح {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } التوبة(9): 105. {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا}الإسراء(17): 36
هذه البداية ـ إعمال العقل والقلب واستقامة الجوارح ـ هي المنهج الذي اتبعه جميع الرسل والأنبياء بلا استثناء .. فكل رسول رفض مالم يقبله عقله من سلوك قومه ومن أفكار سائدة وجامدة يفعلونها لأنها "دين آبائهم".. وكل رسول اعتزل قومه وابتعد عن الحياة المادية إلى حين حتى يتيح لنفسه التواصل مع داخله .. مع فطرته .. مع قلبه الذي يعرف الحقيقة .. وكل رسول أو نبي نادى بالأمانة في العمل وإتقانه وخدمة الآخرين من خلاله .. لماذا إذن لم يستفد الإنسان من هذا المنهج؟
لأنه حوّل الدين إلى مفاهيم جامدة وإلى صور وأشكال خالية من الروح وإلى عادات وتقاليد اجتماعية .. باسم الدين يُسلب الإنسان قدرته على إعمال عقله .. ويقع فريسة لطبقات من المفاهيم البالية تحرمه التواصل مع قلبه .. مع فطرته .. مع صوته الداخلي الذي يعرف كل الحقيقة إذا ما "ذكر وتذكّر".. وباسم الدين أيضا يتكاسل الإنسان ويقصر في استعمال قدرات وجوده المادي الهائلة والمتنوعة .. الحقيقة أن الدين ليس شيئا بعيدا عن الإنسان، الآية الكريمة تقول {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} الذاريات(51): 21 والحديث الشريف يقول ."استفت قلبك وإن أفتوك وإن أفتوك وإن أفتوك"
الرؤية التي نقدمها تقول بأن الإنسان لا يستطيع أن يستمد من أي مصدر للمعرفة .. ولا من أي كتاب مقدس .. أو تعاليم دينية شيئا نافعا قبل إعداده هو لنفسه وتنمية كل ملكاته. من أساسيات الدين أن يتدرب الإنسان على استفتاء قلبه، يتعلم كيف يتجرد من الهوى، هذا تدريب على إحياء القلب والتواصل معه ليجيب الإنسان في أمر ما. ومن أساسيات الدين أن يستعمل الإنسان عقله في النظر بعمق لكل ما حوله، أي استيعاب جميع العلوم وتطويرها واكتشاف أسرار الكون بأدواته، ومن أساسيات الدين العمل ثم العمل في كل مجال وبلا تكاسل.
إن الإنسان إذا ما أعمل عقله وقلبه وجوارحه سيجد تساؤلات كثيرة وسيجد إجاباتها عندئذ فيما يقدمه القرآن والسنة .. فالإنسان مثلا سيعمل عقله إلى أقصى ما يستطيع لكنه سيجد أن عقله وحده ليس هو العنصر الوحيد .. فيتوجه إلى قلبه .. بهذا القلب يدرك أن هناك ماهو غيب عليه .. قوى عليا ينتمي إليها وجوده .. وأن هذه القوة لها تأثير بشكل ما على حياته .. كيف لايؤدي به هذا الإحساس إلى تغييب كل شئ؟ وكيف لا يتعارض هذا الإحساس مع احترام العقل؟ نجد الآيات والأحاديث التي توجه الإنسان إلى أن إقامته لعلاقة مع هذا الغيب إنما هي لإعطائه قوة روحية نورانية تساعد كيانه على البقاء والامتداد .. وأنه بهذه القوة الروحية عليه أن ينطلق في الأرض بالسعي للمعرفة والعلم والعمل طبقا لما يراه ويقدره العقل. إذا فهم الإنسان ذلك وأحسه سيفهم لماذا يوجد منسك الصلاة .. تصبح الصلاة استجابة لاحتياجه هو للصلة مع الغيب .. صلة يكون لها تأثيرها الإيجابي في وجوده .. فحين يسلك في الحياة يحترم العقل أكثر ويرفض الانصياع لأي عادات أو تقاليد لا يقرها عقله.. ومع العلم والعمل هو يحتاج للوصلة بالغيب ليستمد طاقة روحية. هذا ما تستهل به سورة البقرة من معان وهي أول سورة بعد فاتحة الكتاب حيث يذكر الله تعالى أن الذين سيجدون الهدى في "الكتاب" هم الذين يؤمنون بالغيب "ويقيمون الصلاة" أي الصلة بهذا الغيب .. ثم "مما رزقناهم ينفقون" أي العمل الصالح الذي ينبع من قوة الخير ويوجهه العقل في هذا الاتجاه.. اتجاه حسن استخدام الإنسان لكل ما يملك من نعم .. تفكير.. إحساس .. مهارة يدوية .. صحة .. بصر .. سمع .. مال .. موهبة .. علم .. تجربة .. كل شئ ليس موجودا للعبث أو الإهدار، وإنما للخدمة. الخدمة هي أن يحسن الإنسان عمله في كل مجال، وأن يقوم بما ينفع الناس فهنا القول الصالح "الدين المعاملة" والحديث الشريف يعتبر أن من يقضي حاجة لأخيه أو يفرج عنه كربة من كرب الدنيا فقد كسب كثيرا في الله، وتقول الرسالة الروحية إن أعظم رقي للإنسان يأتي من الخدمة.
من الطبيعي أن يقابل الإنسان قضايا مختلفة وهو يسلك في الحياة من هذا المنطلق وسنرى أن كل صغيرة وكبيرة من تعاليم الإسلام تعبر عن قضية ما .. ليس هناك التقسيم التعسفي بين الجسد والقلب والعقل واعتبار أن ما هو عقلي أو قلبي متفوقا على ما هو مادي .. ولا يحل العمل الجسدي محل العمل القلبي ويلغيه "إن ذرة من عمل القلوب تساوي جبالا من عمل الجوارح" .. المهم هو "الاتجاه" ..فالعقل ممكن أن يضل إذا ما أبدع في التخطيط للشر .. والقلب يضل حين تصدر منه طاقات مظلمة من حسد أو حقد أو كراهية .. والجسد يضل حين ينفذ إرادة قلب مظلم وعقل شرير .. في المقابل هناك عمل صغير بالجوارح لكن قيمته عظيمة لأن وراءه طاقة كبيرة من الحب .. فالقضية هي كيف يمكن ـ لمن يحب ويختار ذلك بمحض إرادته ـ أن يجعل كل هذه الملكات تعمل في اتجاه الخير والحب والجمال .. إذا ما أراد ذلك فأمامه رحلة طويلة يشاركنا فيها المعرفة والقراءة .. قراءة نفسه .. فهو كما أن فيه كل هذه المقومات الإيجابية .. والتي تعبر عنها تعاليم الإسلام بأنها "الفطرة " أو "روح الله" أو "السر الإلهي" أو "أمانة الحياة" ففيه أيضا قوة سلبية، فالإنسان خلق و"الله أقرب إليه من حبل الوريد"، كما أن "الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم " .. فمن خصائص تواجد الإنسان على الأرض وجود "النفس" .. هذا الوجود المرتبط بالتواجد على هذه الأرض.. إذا ما ارتبط الإنسان بقوة الخير والنور تتطور هذه النفس ولا تصبح عائقا لتطور الإنسان الروحي بل وسيلة من وسائل حمايته على هذه الأرض .. وإذا لم يعرف الإنسان كيف يفعل ذلك فهي بطبيعتها تجذبه إلى الاتجاه المعاكس .. وتحاول أن تسخر وجوده لنفسها .. تحبه أن يكون أنانيا طماعا .. تحبه أن يتكاسل عن إعمال عقله .. أو تدفعه لاستغلاله لصالحها فقط دون الآخرين .. تستولي على قدرات قلبه وتوجهها للهوى فتضلله إذا ما أراد استفتاء قلبه . إذا ما لاحظ الإنسان ذلك في نفسه وأحب أن يعرف كيف يسلك سيجد أن تعاليم الإسلام تتيح له فرصة المعرفة بكيف يوصل قلبه بقوة الخير وتلك هي الصلاة، وكيف يعد جسده للتطهر وهذا منسك الزكاة والصيام ومعنى الاستغفار. وكيف لا يتيح ل"النفس" أن تستولي على وجوده وهذا هو جوهر المحللات والمحرمات.. وكيف يطلب العون من القوة العليا وهذا هو الدعاء، وكيف يتحرر من أي سطوة على وجوده من رغبة أو شهوة أو هدف موقوت أو شخص يظنه يملك له أي شئ فيعامل مع كل وكأنه إله.. وهذا هو جوهر شهادة "أن لا إله إلا الله" .. وكيف يتوجه لكل ما هو أحسن وأفضل وأقوم في حياته الواقعية وهذا هو جوهر "محمد رسول الله" .. وكيف يكون محور حياته هو علاقة في الله وهذا هو معنى من معاني "الحج" .. وكيف تكون كل لحظة في الحياة هي من أجل كسبه الروحي ومن أجل صالح وجوده على الأرض أيضا.. وهذا معنى العمل الصالح .. وكيف يكون رقيه وكسبه بلا حدود وبلا انتهاء وهذا هو معنى العبودية لله.
كل كلمة في الكتاب والسنة هي كشف عن معنى لمن يسعى لهذا المعنى، وليس قهرا من أي نوع.
كل هذه المعاني موجودة في تراثنا الإسلامي وموجودة في التراث الروحي للبشرية، لكن الناس تجمدها في أشكال ولا تقرأها القراءة التي تحيي في الإنسان قيمة وجوده، وتجعله يقدّر هذا الوجود ويقدّر حياته على هذه الأرض ويقدّر معناه.
إذا ما فعل الإنسان ذلك فيصبح حاله غير الحال الذي هو عليه الآن