- خطبة الجمعة 2 ربيع أول 1427 هـ الموافق 31 مارس 2006
الحمد لله، والحمد دائماً لله، والشكر دائماً لله، والصلاة والسلام دائماً على رسول الله.
عباد الله : يا من ترجون لقاء الله، ويا من تجتمعون على ذكر الله، ويا من تطمعون في رحمة الله، حديث الحق لكم، وآيات الحق تخاطبكم، ورسائل الله ترشدكم وتوجهكم إلى ما يجب أن تكونوا عليه وأن تقوموا فيه. انظروا حولكم في مجتمعاتكم وفي مجتمعات غيركم، في كل مكانٍ على أرضكم، وتدبروا ما آل الناس إليه وما أصبحوا عليه، فحال الناس رسائلٌ من الله لمن يقرأ ولمن يتدبر ويتأمل.
سوف تجدون هناك من يؤمنون بالمادة وهم كُثْـرُ، بل أن من يؤمنون بمادي الحياة يختلفون وينقسمون إلى صورٍ كثيرة، فمنهم من يؤمن بالمادة لأنها كل شيءٍ يستطيع أن يتعامل معه، ويرفض كل شيءٍ لا يستطيع أن يتعامل معه، وهناك من يُسَخِّر الدين للمادة، هدفه مادي، ويرتدي جلباباً غيبياً معنوياً، وهناك من هو منغمسٌ في المادة إلى أذنيه والدين بالنسبة له أو المعنى بالنسبة له هو بعض شعاراتٍ يرددها ومناسك يؤديها ، أما معبوده فهو الدنيا .. وهناك ما يمكن، أو هم يصفون أنفسهم بأنهم مؤمنين، وهم الذين يتبعون رسائل سماوية أو دياناتٍ أياً كان مصدرها، وهؤلاء ينقسمون أيضاً، فمنهم من يرى أن دينه هو الحق كل الحق وأن أي دينٍ آخر هو باطلٌ، ومنهم من يتقبل الآخر في جزء يشترك فيه معه في بعض القيم المعنوية ويختلف معه في بعض العقائد الغيبية، ومنهم من يتقبل الآخر. بل أن في داخل كل دين ينقسم الناس إلى شيع .. في اليهودية، هناك شيعٌ ومدارس كثيرة .. في المسيحية هناك مذاهبٌ وكنائسٌ كثيرة.. في الإسلام هناك اختلافات بين جماعاتٍ وجماعات.
لو نظرنا إلى كل هذا التباين وهذا الاختلاف وهذا التعدد، ماذا يمكن أن نقرأ من كل هذا؟ سوف نجد أن كل إنسانٍ على هذه الأرض عنده قدرات ذاتية، كما أن هذه القدرات تتأثر بالمحيط الذي يعيش فيه، وبالمكان الذي ولد فيه، وبالأبوين الذي جاء من خلالهما:
"كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو يمجاسنه أو ينصرانه أو يسلمانه "هناك تأثير الأبوين وهناك تأثير المجتمع وهناك تأثير الصحبة:
" المرء على دين خليله فلينظر ايكم من يخالل "وهناك استعداده الفطري قبل كل شيء .. لذلك فإن الإنسان حين ينظر وحين يتفكر ويتأمل ويتدبر، عليه أن يحاول أن يراجع كل ما يعتقد فيه، أن يراجع فكره، وأن يراجع ما يرى أنها مسلمات، وأن يراجع أفعاله وأفعال الآخرين، وأن يبدأ بنفسه، يبدأ بطاقاته، يبدأ بفطرته، ينفض كل الغبار الذي يحيط به، ويبدأ من فطرة الله التي فطره عليها، وهذا هو الإسلام الحقيقي، هذا هو الإسلام دين الفطرة، الإسلام الذي يُقدر الإنسان ويُقدر عطاء الله للإنسان.
إن الإسلام - المسلم الحقيقي - هو الذي يبدأ بداية كل الأنبياء والرسل، يوم تفكروا وتدبروا وذكروا ودعوا الله أن يهديهم الصراط المستقيم. إبراهيم عليه السلام يفعل ذلك، ومحمدٌ عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك، كل الأنبياء والرسل رفضوا مجتمعاتهم، رفضوا ما كانت عليه مجتمعاتهم، واتجهوا إلى فطرتهم، اتجهوا إلى ربهم يسألونه ويدعونه ويطلبونه ويقصدونه .. وعلى كل إنسانٍ أن يسلك طريق الإيمان، طريق الإسلام، كل إنسانٍ عليه أن يسير في نفس الدرب حتى يتعلم، وكلنا يوم تواجدنا على هذه الأرض في هذه الذات، بدأنا التعلم في خطوات منتظمة، لا يكفي أن يكون الآباء متعلمين ليصبح الأبناء كذلك، وإنما كل إنسانٍ يبدأ بالتدرج في تعليمه، في معرفته، في تَعرُّفه على الأشياء، كل إنسانٍ لابد أن يحصل على قدرٍ من العلم، حتى يستطيع أن يُسَيِّر أموره وأن يتعامل مع الآخرين. وكذلك دين الإنسان، ومنهج الإنسان لا يمكن أن يُكسَب إلا بسلوك الإنسان، وبأن يتعلم الإنسان، وأن يجتهد الإنسان.
عباد الله : ابدءوا وتعلموا، وارجعوا الأمور إلى قلوبكم وإلى عقولكم، مع تنمية قلوبكم بالذكر، وعقولكم بالفكر، واسألوا
" .. فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون " [النحل 43]وارجعوا ما تُجابون به إلى قلوبكم وعقولكم، ولا تأخذوا إلا ما تروا فيه أنه الخير لكم، وأنه الحق لكم، وأنه الهداية لكم. تفاعلوا مع كل أمرٍ تؤمرون به ومع كل نهيٍ تنهون عنه، تفاعلوا واسألوا وتدبروا، حتى لا يبقى في داخلكم إلا ما أنتم له أهل، وهذا أفضل شيءٍ بالنسبة لكم، لأن ما أنتم له أهل سوف يساعدكم وسوف يحييكم، أما أي علمٍ آخر تحتفظون به دون أن تتفاعلوا معه، فلا قيمة له بالنسبة لكم.
هو " .. الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا" [الفرقان 59]
عباد الله : اتجهوا إلى الله بالدعاء أن يساعدكم أن ترجعوا إلى فطرتكم، وأن تنفضوا الغبار عنكم، وأن ترجعوا إلى الحق الذي أوجد الله فيكم، حتى تكونوا عباداً له صالحين، وتكونوا حقاً مسلمين مؤمنين محسنين.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد الله : ما أردنا أن نقوله اليوم: أن على كل إنسانٍ أن يعكس البصر إلى داخله، ويتعلم كيف يُعمل عقله، وكيف يُعمل قلبه، وأن ينمي عقله بالفكر، وقلبه بالذكر، وأن يراجع كل ما يؤمن به بعرضه على عقله وقلبه، أن يستعين بعلم الآخرين، لا أن يستعين بتقليدهم، أو بحفظ ما يقولون، أو بتقليد آخرين دون وعيٍ ودون فهم، وإنما عليه أن يمارس حقه في التفاعل مع كل أمرٍ، لأن حقه هذا هو الذي سوف يجعله حياً، هو الذي سوف يحييه. الحياة في التفاعل، الحياة في أن تقبل وترفض، في أن تفكر في كل ما تؤمن به، وأن تتغير إلى الأفضل، وأن ترجع إلى الحق أو ما ترى أنه الحق، فالرجوع إلى الحق فضيلة .. لا تكن جامداً ولا متصلباً، وإنما كن متجدداً، متفكراً، متدبراً، متغيراً إلى ما ترى أنه الأفضل والأحسن والأقوم .. بهذا تكون مسلم حق، فالمسلم الحق هو الذي يتفكر ويتدبر، هكذا بدأ الإسلام، وهكذا بدأت كل رسائل الإسلام.
لا تقل:
" .. وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ " [الزخرف 22]وإنما تدبر في خلق السموات والأرض، وتدبر في خلق نفسك، وتدبر في خلق الناس أجمعين. سوف ترى كل إنسانٍ له فكره وله عقيدته التي تأثرت بمجتمعه وبأبويه وباستعداده وفطرته، وكل إنسانٍ يمارس حقه في الحياة في إنسانيته، في ما أعطاه الله من نعمة العقل والقلب والضمير والحس والتقدير، هو إنسانٌ صالحٌ أياً كان ما يصل إليه، لأنه مارس حقه في الحياة، أما الإنسان الذي يقلد دون وعي ودون فهم، ويتعصب دون إدراك، ويتكبر دون وعي، فهو إنسانٌ لم يعرف طريقه إلى قلبه وإلى عقله، لم يعرف نعمة الله به، فرط في نعمة الله له
" وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا " [الكهف 28]إن الذين يذكرون الله بالغداة والعشي يريدون وجهه - الذين يذكرون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه – هم الذين يتأملون، ويتفكرون، ويتدبرون، ويبحثون، ويتعمقون .. إنهم يمارسون معنى الحياة.
لا يجب أن نأخذ هذه الآيات التي تتحدث عن ذكر الله.. أنهم العاكفون فقط، الذين يرددون الذكر سواء بألسنتهم أو بقلوبهم أو بأجسادهم، فهذا جانبٌ من الذكر، ولكن الذكر له صورٌ وأشكالٌ كثيرة، الذكر في كل تعاملٍ، في كل تفكرٍ، في كل عملٍ يؤديه الإنسان، كما نتعلم جميعاً
" إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه "فإتقانه ذكر، وكل تعاملٍ لخير الإنسان هو ذكر، وكل علمٍ نافعٍ هو ذكر، لذلك نجد آيةً أخرى
" الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ " [آل عمران 191]فصل هنا وأوضح بصورةٍ جلية:
"وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ"ونحن نفسر أو نتأمل في هذه الآية دائماً أن التفكر هنا لا يعني مجرد النظر، وإنما يعني العلم والبحث لخير الناس، ولخير المجتمع، ولخير الأرض.
عباد الله : تدبروا آيات الله، ولا تفرطوا في أمر الله لكم، لا تفرطوا في قدرتكم على الذكر وفي قدرتكم على الفكر، اذكروا، وتفكروا، واعملوا، وتعاملوا بالخير الذي ترون، وبالحق الذي تعلمون، ومارسوا حقكم في الحياة، وفي معرفة الأفضل والأحسن والأقوم.
اللهم وهذا حالنا وهذا قيامنا، نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه، و أرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
" رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ " [آل عمران 8]