الثلاثاء، 16 يناير 2007

دين الفطرة: حرية العقيدة وأداب الإختلاف

  • خطبة الجمعة 11 محرم 1427هـ الموافق 10 فبراير 2006
 خطبة الجمعة للسيد علي رافع
حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
الحمد لله، والحمد دائماً لله، والشكر دائماً لله، والصلاة والسلام دائماً علي رسول الله.
عباد الله: تدبروا آيات الله، وأقرءوا رسائل الله لكم في تاريخكم، وفي أحداث حياتكم، وفي كل ما يحيط بكم، حتى تدركوا رسالتكم، وتدركوا كيف تسلكون علي أرضكم، وكيف تكسبون كرتكم، كل إنسانٍ مسئول، وكل إنسانٍ مكلف:
" كلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته "
" وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى .. " [الإسراء 15 ]
" كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ " [ المدثر 38]
" لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا .." [ البقرة 286]
" مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا .." [الإسراء 15 ]
" وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا " [ الشمس 7 ، 8]
كل هذه الآيات والأحاديث توضح أن الإنسان له مسئوليته وله عقيدته، وكل إنسانٍ يختلف عن الآخر، وكل فردٍ له ملكاته، وله إمكاناته، وله طاقاته، له رؤيته، وله عقله، وله قلبه، عنده ضميرٌ، عنده حسٌ، قدراتٌ تختلف عن قدرات.

 لذلك فلا يستطيع إنسانٌ - أياً كان - أن يقول إنه يمثل أمة، أو يمثل دينًا، أو يمثل جنسًا، أو يمثل عقيدةً، أو يمثل فكراً. فما يقوله إنسان هو مسئوليته هو، هو يمثل نفسه، هو يمثل فكره، هو يمثل خلاصة تفكيره وتدبيره، هو يمثل ما ارتضاه، وما ارتاح إليه، وما اطمئن إليه، وما اعتمد عليه، وما اتفق أنه الأفضل بالنسبة له. قد تكون هناك أنماطٌ من البشر تتفق في أمورٍ عامة، وفي سماتٍ عامة، ولكن يظل كل إنسان له أصوليته وله فرديته. لذلك فحين لا يتفق إنسانٌ مع إنسان، لا يستطيع أن يقول مثلاً: أنه لا يتفق مع الإسلام، إن كان من لم يتفق معه مسلماً، ولا يستطيع إنسان أن يقول أنه لا يتفق مع المسيحية أو مع اليهودية، إذا كان من لم يتفق معه مسيحياً أو يهودياً. وإنما يقول الإنسان أنا لا أتفق مع فلان، مع هذا الشخص، فيما ذهب إليه، وفيما قاله، وفيما اعتقده، وفيما أراده.
يختلف الإنسان مع إنسان، يختلف الإنسان مع فكرٍ مخالفٍ له من إنسان، و لكن الإنسان علي هذه البشرية من ضمن صفاته التي يمكن أن نقول إنها من صفاته المظلمة، انه يريد أن يعمم، فإذا وجد مسلمٌ مسيحياً يقول شيئاً ما، ولم يعجبه ما يقول، رمى المسيحية بالباطل، وإذا وجد مسيحيٌ مسلماً يفعل أفعالاً لا ترضيه ولا يقبلها رمى الإسلام بالباطل. وهذا أمرٌ يجب أن نكون واعين له، أن هذه من صفات البشر، يجب أن نُقوِّم هذه الصفة فينا، وأن ندعو الناس جميعاً أن يُقوِّموا هذه الصفة فيهم أيضاً، فيكون نقدهم موجهٌ للشخص الذي لا يرتضون فعله، والذي عبر عن ذلك أمامهم، و الذي قال ذلك و سمعوه بأذنيهم، لا يتكلموا عن تاريخٍ ماضٍ لا يعرفوه تماماً، ولا يؤمنون بما حدث فيه، ولا يتكلمون و يرمون الناس بالباطل، دون أن يكونوا قد رأوا بعينيهم هذا الباطل :
" إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ " [ الحجرات 6]
الدقة في التحري، وفي طلب الحقيقة، وفي عدم التعميم، وفي اقتصار الأمر علي حدوده، وعلي الأشخاص الذين قاموا به. ومن الصفات التي دعانا إليها ديننا: 
"وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى " [الإسراء 15 ]
لا يُجَرَّم إنسانٌ بجرم آخر، و لا يُجَرَّم مجتمعٌ بجرم فردٍ فيه، و لا تُجَرَّم أمه بمعتقد فردٍ فيها، أو بعمل فردٍ منها. القضية هي أن نعرف حدودنا، و أن نعرف كيف نتعامل مع الأحداث، ومع الأفكار، ومع كل ما يحدث حولنا.
عباد الله: إن الإنسان يوم يظن أنه ينفعل بالحق، فيكون انفعاله سبباً في إيذاء الآخر، بأي صورةٍ من الصور، الذي ليس له ذنبٌ ولا جُرمٌ مباشر فيما يحدث، يكون بذلك قد خرج عن حدود الاستقامة في التعامل مع كائنات الله، ومع خلق الله، و مع من هم حوله في هذه الحياة.إن الإنسان عليه أن يعبر عما يعتقده  بحجةٍ بالغة، وبعقلٍ و بمنطقٍ مستقيم، لا يخلط الأمور بعضها ببعض، وإنما يعرف ما يريد، ويهدف مباشرةً إلي الفكرة التي يريد أن يعبر عنها وأن يوصلها للآخر. إذا نظرنا حولنا في انفعالاتنا، وفي أفعالنا، وفي أقوالنا، نجد الكثير من اللغط، والاختلاط، و عدم القدرة علي التعبير، وخلط الأمور بعضها ببعض، لذلك علينا أن نتعلم نحن مما نري  كيف نستقيم في فكرنا، وكيف نستقيم في حوارنا، وكيف نستقيم في رسالتنا، بحيث تكون الأمور واضحةً أمامنا، ويكون تعبيرنا تعبيرًا دقيقًا - بقدر ما نستطيع - عما نراه حقاً.
إذا تكلمنا عن حرية التعبير، عن عدم الإساءة إلي المقدسات، تكون هذه الفكرة هي محور حديثنا، وتكون هذه هي القضية التي تناقش ما هو المقدس وما هو غير المقدس، ما معني المقدس، ما معني الإساءة، ما معني الحرية، ما هي حدود الحرية، كيف يعبر الإنسان عن معتقداته، عن فكره، عن رؤيته؟ كيف يحترم حرية الآخر، ورأي الآخر، وفكر الآخر، حتى إذا كان يري أنه باطل؟ ما هي الحدود التي يجب أن نلتزم بها؟ وما طريقة التقويم إذا حدث خروجٌ عنها؟ وكيف لا يكون ذلك سبباً في قهر، وفي ظلم، وفي كبت، و في عدم حرية؟ يمكن أن نناقش هذا بهدوء لنصل إلي ما يجب علينا أن نفعله، وما يجب أن نلتزم به جميعاً، كشعوب وكمجتمعات وكأفراد، وإن لم نلتزم، يكون هناك القانون الذي ينظم العلاقات والحريات والحدود التي يلتزم بها الجميع.
لا يكون جهادنا أو حربنا هي أننا نريد أن نقتل الآخر، أو نلزمه بأن يؤمن بما نؤمن به، فحريته ألا يؤمن:
" فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ " [ الكهف 29]
ولكن الحدود التي يجب أن يلتزم بها، هو ألا يسيء إلي الآخر، فهذه هي النقطة. فإن كان يلتزم بذلك، فما يعتقده بينه وبين نفسه، هذه حريته، وهذه قضيته، وهذا اختياره. كيف ننظم ذلك؟ هذه قضية يجب أن نناقشها كشعوبٍ وكمجتمعاتٍ بيننا وبين بعض، أو في داخل مجتمعٍ، أو في داخل كل مجتمعٍ عليه أن يوجد الآلية التي تنظم ذلك. إذا لم يرضي مجتمعٌ بما اتخذه و ارتضاه المجتمع الآخر، لا يكون ذلك بالترهيب، والقتل، والتدمير، والتخريب، وإنما يكون بالفكر، وبالقول، و بالاجتهاد الفكري، وبالجدال لما هو أحسن، وأفضل، وأقوم. هكذا نكون أمة تأمر بالمعروف، وتنهي عن المنكر، وتؤمن بالله، لا بالتدمير والتخريب والترهيب، وإنما بالفكر والمنطق والأحسن:
"وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ "[العنكبوت 46]
" ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ" [النحل 125].
عباد الله: أين نحن من هذه المعاني الموجودة في ديننا؟ أين نحن من كل هذا، ونحن نقوم بالتخريب والتدمير باسم الدين، و باسم الدفاع عن الدين، وباسم الدفاع عن مقدسات الدين؟ . لا يكون الدفاع بهذا الهرج والمرج، و إنما يكون بالمنطق، والحجة، و الحكمة، والأفضل، والأحسن، و الأقوم.
عباد الله: فلننظر إلي حالنا، ولنسأل الله أن يُقوِّم هذا الحال، وأن يجعلنا أداة خيرٍ وسلامٍ ورحمة لنا ولمجتمعنا، وأن يرفع عنا هذه الغمة، وهذا الجهل، وهذا المرض، وهذا الفقر الفكري.
اللهم فاجعلنا أهلاً لرحمتك، وأهلاً لنعمتك.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله .
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم هو أن علينا أن نلتزم بالآداب التي علَّمنا إياها دين الفطرة، والتي تنبع من واقع الحياة، ومن واقع الإنسان علي هذه الأرض، ومن واقع أن كل إنسانٍ له مسئولياته، وله قدراته، وأن كل إنسانٍ إنما يعبر عن عقيدته، وعما ارتضاه وصدَّقه وآمن به، كأسلوب حياةٍ له. وأن كل إنسانٍ مسئولٌ عن نفسه، و أن ما اعتقده إنسانٌ قد يختلف مع ما اعتقده الآخر، و أن كل إنسانٍ عليه أن يحترم ما اعتقده الآخر، حتى لو كان يري أنه خطأ، وأن حرية التعبير تلتزم بهذا المعيار، فيكون الاختلاف هو اختلاف في المنهج الذي وصل به الإنسان إلي فكرٍ معين يختلف مع الآخر، دون إساءات أو إهانات أو تحقير لمعتقدٍ آخر، وأن المجتمع عليه أن ينظم هذا بقانونٍ، يضع آلية للالتزام بهذه المعايير، وأن هذه المعايير قد تختلف من مجتمعٍ إلي مجتمع، فعلي المجتمعات أيضاً أن تتحاور حتى تصل إلي شيءٍ أفضل بينها وبين بعض، وإن اختلفت سيظل هناك الحوار، وسيظل هناك الفكر الذي يُنَظِّر لما يعتقده الإنسان في مجالٍ ما، وبرؤيةٍ ما، و أن الاتفاق الكلي غير واردٍ علي هذه الأرض: 
"وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا" [ الحجرات13]
" وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً " [ المائدة 48]
فالاختلاف واردٌ وسيظل، لذلك  فإن علينا دائماً أن نتحاور بالأحسن والأفضل و الأقوم، وأن تكون هذه الآلية هي الآلية المستمرة في حوارٍ متصل.
عباد الله: حين ننظر إلي الوضع الراهن، وما صرنا إليه، نجد أن هذه المعاني ضئيلة في وسط يقول أنه يؤمن بها، أو يؤمن بالمنهج الذي يحتويها، ولكنه لا يقرؤها ولا يعرفها، لذلك وجب علي كل إنسان يؤمن بشيء، ويري فيه صلاحاً للمجتمع، أن يدعوا إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، دون تشنجٍ، ودون انفعالٍ، ودون قهرٍ، ودون عنفٍ، ليكون بذلك أداة خيرٍ وسلامٍ ورحمة لمجتمعه، ولمن حوله.
عباد الله: نسأل الله أن نكون من هؤلاء الذين يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، بالحكمة والموعظة الحسنة.
اللهم وهذا حالنا لا يخفي عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه الناس حولنا.
اللهم ونحن نتجه إليك، ونتوكل عليك، و نوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجي منك إلا إليك.
اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم ارحمنا، و اغفر لنا، و اعف عنا.
" رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا " [آل عمران 8]
ربنا فاجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم لا تجعل لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا حاجة فيها رضاك إلا قضيتها.
اللهم ألف بين قلوبنا                   اللهم احيي قلوبنا                       اللهم فطهر أرواحنا  
اللهم أجمعنا علي ذكرك، وطلبك، ومقصود وجهك.
 "رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ " [آل عمران 193]