الدين الواحد، ليس مسمى لقوم أو لثقافة ولكنه معنى ودلالة سلوكية ومعنوية وروحية تعيش في قلوب أي إنسان اتبع الصراط المستقيم، وأصبحت الصفة الدالة على هذا الطريق أنه حق.
هل لدينا من الحجة ومن الآيات القرآنية ما يجعلنا أقوياء في أن نضع رؤيتنا بوضوح، ليس مهم أن يقتنع بها الآخرون ولن نطالب أحدا أو نرغمه أن يرى ما نرى، وإلا نكون قد وقعنا في تناقض مع أنفسنا. ولكن كل ما نريده فقط هو أن نكون صادقين في رؤيتنا وقادرين أمام أنفسنا وأمام من يقارعنا الحجة بالحجة أن نعرض حجتنا بقوة ووضوح.
نقول "الدين الواحد" يشيرإلى الحق ويتنزل بالحق. ولن يختلف الناس على الحق إذا إتبعوا صراطا مستقيما ولكن من أجل الوصول إلى الغاية المشتركة قد تكون هناك بدايات من نقاط مختلفة، كلها "صراط مستقيم". إذن الحق هو الهدف، هو الغاية التي نتخذ إليها كل السبل الممكنة، ولكن تلك السبل يجب أن تكون "مستقيمة" أي يتوفر فيها خلوص النية والصدق.
يفقد الإنسان الطريق إلى الحق إذا لم يسر على الصراط المستقيم، أي فقد الرؤية، وضل السبيل، وأصبح البغي والغلبة والاستعلاء وتزكية النفس غايته وهدفه، ويصبح المختلفون في شقاق بعيد.
ولنتأمل في آيات القرآن:
"ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ" (البقرة: 176)
"وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَاكُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ" (سورة المائدة:48)
"هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ۚ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ َما كَانُوا يَفْتَرُونَ" (سورة الأعراف 53)
سيلفت نظرنا أن الحديث في الآيات السابقة يتحدث عن "الكتاب"، وليس "الكتب" "وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لم بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه" ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ... ". "وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ"
وهنا يمكننا القول أن الكتاب يشير إلى الرسالة التي جاء بها الأنبياء، وليس إلى مجرد "النصوص" التي عبرت عن هذه الرسالة، وهو ما تؤكده هذه الآية"" قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقّ".
من عرف الحق عرف الباطل في نفس الوقت وتجنبه، أو نجا منه "اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه". تحتاج معرفة الحق إلى البصيرة، لأن الباطل يتزين ويتمسح بثوب الحق، ولكن هناك علامات وإشارات تساعد الإنسان أن يميز ويعرف.
ولأن منهجنا أن نبحث عن هذه القضايا من خلال التدبر في القرآن، سنجد أن الآية التالية آية كاشفة: " وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بينهم". ندرك ها هنا "البغي" يشير إلى الخروج عن اتباع الحق. والبغي هو أن يتعدى الإنسان حدوده فيظلم أو يقهر أو يأتي بأي عمل سيء. ليست الإشارة هنا إلى اختلاف الرأي أو الرؤية، فهذه طبيعة الأشياء. وإنما البغي يرتبط بالتميز والتعالي والغطرسة والسيطرة والكبر والتمادي في الخطأ.
وأما من آمنوا فإنهم يختلفون فيما بينهم، ولكنهم لا يختلفون انطلاقا من البغي والرغبة في الحيدة عن طلب الحق، ولهذا يتواصلون ويتواصون، فيكونوا قادرين على التوافق: " فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"
في هذا السياق إذن علينا أن نفرق بين من يختلف "بغيا"، ومن يختلف لأنه لا يرى كل جوانب الحقيقة. وهذا يقودنا إلى سؤال هام:
كيف لي أن أعرف أنني أتبع الحق ولا أتبع الباطل؟
سنجد أن المفتاح السابق يساعدني كثيرا ألا وهو "البغي". على الإنسان أن يسأل نفسه، هل ما يرى أنه الحق يثير فيه مشاعر الخيلاء والتعالي ؟ هل تتملك الإنسان الرغبة في السيطرة على الآخرين والتقليل من شأنهم بغيا وعدوانا؟ إذا راقب الإنسان مشاعره وأفكاره التي تتحرك في اتجاه البغي، وتشجعه على تعدي حدوده، وإعلان أنه يملك الحقيقة التي يريد أفرضها على الآخرين، فعليه افي هذه الحالة أن يراجع نفسه، ويصحح مساره.
وإذا ساءلنا أنفسنا هذه الأسئلة، سنجد أن هدفنا ليس فرض رؤية ، ولكن الهدف هو هدم الزيف الذي يفرقنا، والوصول إلى ما يجمعنا إنسانيا، والقناعة التامة أن كل الرسالات قد دعت إلى السلام والمحبة. ومن هنا فنحن نتساءل ولماذا لا يفهم غيرنا ما نفهمه؟ وكيف نوصل هذه الطاقة الجامعة التي نشعر بها إلى كل بقعة في الأرض.
ما هي العلامات الأخرى للبغي؟
عندما يتجه الإنسان إلى تقييد المطلق في المقيد، والذي نرى ملامحه في الخلط بين المعرفة والإيمان، وبين الوسيلة والغاية .. إلخ.
علينا أن ندرك أن الإيمان بالدين الواحد لا يعطينا الحق في أن نفرض ما نعتقد أنه حق على غيرنا، لأن رؤيتنا لما هو حق مرتبطة بقدراتنا المعرفية المحدودة التي علينا أن نراجعها ونصححها بإستمرار.
أن تؤمن بأن الرسل جمعيا قد جاءوا بالدين الحق لا يعطيك الإحساس أنك تتكلم بإسم الحق الذي جاء به الرسل. عندما نتكلم عن "الإرشاد" الذي جاء في الرسالات، فنحن نتحدث عن رؤيتنا لهذا الإرشاد، ولذا فالإختلاف أمر طبيعي، بل وظاهرة حسنة تثرى الروح للذين يومنون ويتواصون بالحق ويتواصون بالصبر.
وعندما تلجأ إلى وسائل التطهير التي أرشدك إليها التنزيل، متوجها إلى الله، فليس عليك أن تحصر التوجه إلى الله وتطهير القلوب بالوسائل التي تتبعها وحدها، أو يصبح شغلك وشاغلك أن ترى الناس جميعا يؤدون الصلاة أمامك وبأسلوبك، وتنكر على أصحاب الديانات الأخرى صلاتهم وتنسكهم وعباداتهم. أو أن يشغلك القيام بالعبادات عن تحقيق أهدافها، فتصبح الصلاة عادة والصوم جلادة، وتفقد حلاوة التواصل مع الله والتدريب المستمر على الخروج من العاجلة إلى الآجلة في لحظات معدودات.
لن أدع نفسي تحكم عليك لأنك تطالبني أن أصلي، بل أشكرك.. ولكن أرجوك لا تحكم علي بأنني خارجة عن ديني لأنني لا أصل أمامك، ولأنني لا أستعرض تديني أو تعاملي مع الله. بل فليكن هذا شأنك.. واحكم كما شئت. ولكن لا تستخدم العنف والقوة ضدي بأي صورة لأنني مختلف عنك. هذا مايرى فيه المؤمن طغيانا عليه أن يقاومه.
تعالوا معا لنتفق على ..
الإيمان ليس فكرة أقنعك أو تقنعني بها.. الإيمان تجربة ويقين وشعور بالحضور القدسي في كل لحظة شاهدا عليك، قائما بين جوانحك في صميم ضميرك الذي يراقبك في كل وقت وحين، في كل ثانية وما هو أقل منها. إذا حولنا الإيمان لقضية ذهنية منطقية سنعيش على أكثر من مستوى، ونظل في إدعاء الإيمان، فعقلي يقول أن الله موجود، ولكن عملي لا يتناغم ولا يتناسب مع قولي. أظلم وأبغي وأعتدي وقد أبرر كل هذا لنفسي بدين من صنعي ووضعي وافترى على الله الكذب. الإيمان مركزه القلب والوجدان ويقره العمل والسلوك.
الأدب مع الله أن أعترف أن لك الحق في أن تعيش تجربتك، فلا أفرض عليك تجربتي، أو أملي عليك رؤيتي، ولكن محبتي في الله ولله، قد تدفعني أن أتواصى معك، وأشرح لك كيف أتذوق الإيمان أو أعيشه. وهناك فرق بين التواصي والوصاية. في أسلوب الوصاية يرهب بعضنا بعضا، ويهدد أحدنا الآخر أنه لو لم يسمع ما أقول فإن عقابه سيكون شديد. وأما التواصي فهو إعطاء مساحة لكل أن يعبر عن تجربته، دون أن يفرضها. التواصي يفرض على الإنسان مراجعة النفس في كل وقت وحين، حتي لا تشعر بالكبر والخيلاء. فرب خطيئة أورثت ذلا وانكسارا خير من طاقة أورثت استكبارا. الوصايا هو أنك بإسم الحق تريد أن يتبعك الناس، والتواصي أنك بالمحبة تدعو الناس إلى أن ينشدو معك الحق.
نفهم فهما جديدا في الصراط المستقيم، إذ أنه الطريق الذي يمتليء بالمراجعة والقلب السليم، واختيار الطريق المستقيم إلى الحق أكثر مشقة اليوم عنه بالأمس، ذلك أننا نعلم أن ما قبل الإسلام كان من الواضح أن القوم عبدوا الأصنام ليقربوهم إلى الله زلفي، وأصبحت الأصنام اليوم هي تلك المعتقدات التي نزعم أنهم تعبر عن الحقيقة، وأصبح الكثيرون يدعون "الألوهية"، لأنهم يتحدثون وكأنهم على علم بكل شيء.
لقد تنزلت الرسالات بالحق، كي تعلمنا أن الله هو الحق، وأن منشودنا دائما واتجاها ينبغي أن يكون إليه، ولذا فإن الطريق إلى الحق لا يستقيم إلا بالاستغفار لأنه الوسيلة التي تطهر النية، وتوجه الإنسان، وليس بإدعاء امتلاك الحق والحقيقة المطلقة.
هل الدين الواحد الذي ندعو إليه يوجد أو يمكن أن يوجد على أرض الواقع؟
يشهد الواقع أن الناس قد انقلبوا شيعا وأحزابا وتفرقوا وتصارعوا ومازالوا يتصارعون بإسم الدين، وكل يدعي أنه على حق وغيره على باطل. نحن أمام معتقدات كثيرة. هناك من يقول بتجسد الله في الإنسان، وهناك من يعبد الأشكال ويظن الدين شكلا، وهناك من يعتقد أن دينه سيسود العالم كله، ويستخدم القوة كي يفرض عقيدته على الآخرين، وهناك .. وهناك. لا بد أننا سنختلف مع هؤلاء وهؤلاء، وسيختلفون معنا.
هنا إيماني بالدين الواحد لا يعني أنني سأحاول أن أفرض علي أي منهم رؤيتي، وإلا وقعت فيما آخذه عليهم. ولكن إيماني بالدين الواحد إيمان ينبع من إنه في قلب البشر جميعا ما يمكن أن يرشدهم إلى الحق الواحد. وأن القاعدة التي أبني عليها تعاملي معهم هو أن قاعدتنا الإنسانية أوسع من كثيرا من اختلافاتنا العقائدية. ومن خلال هذه القناعة يمكن أن نبني جسورا من لغة الروح أي لغة إنسانيتنا، وليس لغة الثقافة التي انتمي إليها. كلنا إنسان يريد أن يحقق إنسانيته بكل الوسائل، وعبادة الأصنام الحديثة تقف حائلا في هذا السبيل، لأنها تبعدنا عن الحق. أن نتجه إلى الحق أي نتجه لكي يحقق الإنسان إنسانيته.. كلنا هذا الإنسان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق