تأملات
د. علياء رضاه رافع
كتب
السيد رافع محمد رافع كتاب"من وحي يثرب" في الستينيات من القرن
الماضي، في شكل حوار بين شيخ ومريديه، وما زلنا في حاجة إلى الرسالة
التي يحملها هذا الحوار لأنها متعلقة بالإسلام ورسالته، وبما مر بتاريخ هذا الدين
العظيم من التباسات، وما يكمن في رسالته من هدي إلى البشر أجمعين بصرف النظر عن
مسمي ديانتهم وعقائدهم.
وقبل
أن ندخل في القضايا المختلفة التي تناولها هذا الكتاب وهي قضايا مثارة اليوم على
الساحة الفكرية والسياسية والدينية، لا بد أن نشير إلى ما يحمله العنوان نفسه من
معاني أو دلالات.
"يثرب"
في هذا السياق ليست مجرد اسم لمكان، فبالنسبة للمسلمين "يثرب" هي
المدينة التي ناصر أهلها الرسول (صلعم) في مقتبل الدعوة، واستقبلوه بينهم في الوقت
الذي لفظه فيه قومه وتآمروا على قتله، ولهذا أصبحت يثرب هي المدينة المنورة في عرف
المسلمين، دلالة على نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بها وانتشار دعوته منها.
وفي هذا المكان يرقد جسده الشريف، ويزور المسلمون مسجد الرسول سنويا في محاولة
لانعاش قلوبهم بالتذكرة برسالته، وبجهاده في سبيل الله، طارحا آلامه ومعاناته
جانبا، ومتوجها إلى الدفاع عن كلمة الحق ما أمكنه ذلك. وفي يثرب تقلد الرسول النبي
أمور إدارة البلاد، وقد أعاد المسلمون قراءة هذا الحدث بصور مختلفة منطلقين في
تفسيرات أثارت الكثير من التساؤلات بينهم وبين مخالفيهم في العقيدة عن مغزى وهدف
الرسالة الإسلامية.
إذن
قد يكون العنوان "من وحي يثرب" يشير إلى استعادة تفسير ما حدث في
هذه المدينة من أحداث جسام، وقد يكون المراد به هو أن ما يقدم في هذا الكتاب من
استلهام معنى الرسالة الإسلامية نفسها وأن يثرب تجمع بين تأسيس الرسالة وبين الرمز
لغياب الرسول انتقالا إلى الرفيق الأعلى، وفي هذا اشارة إلى الربط بين حياة الرسول
وبين ما حمله من رسالة، وما نحتاجه جميعا اليوم من قدرة على استلهام تلك الرسالة
من هذه الحياة. في كل الأحوال فإن أبي السيد رافع محمد رافع أراد أن يؤكد
انتسابه وارتباطه برسول الله صلوات الله وسلامه عليه، واستلهام رسالته في هذا الكتاب.
وما
سأحاوله في هذا المقال والمقالات القادمة بإذن الله هو أن أستخلص بعض القضايا
الهامة التي أثيرت في هذا الكتاب وأحاول أن أعبر عما تحمله لنا اليوم من أهمية.
ولا أزعم في هذا أنني أكون قد أجملت ما يحويه هذا الكتاب من قضايا، أو عبرت عما
يعنيه والدي من غاية، ولكن اجتهدت في الاستماع إلى حديثه، وفتحت قلبي وعقلي
لاستقباله.
و
لا تتوقف قيمة هذا الكتاب على ما يحويه من رؤية للإسلام وتحليل لقضاياه وتاريخه،
ولكن قيمته تتعدى ذلك إلى ما يثيره في قارئه من طاقة روحية. اذ أن اللغة التي كتبت
بها الأفكار لغة خاصة، والتعبيرات التي استخدمها والدي تعبيرات دقيقة للغاية،
والتكوينات اللغوية التي اختارها ذات تأثير نافذ إلى قلب القاريء. وتلك الكلمات في حاجة إلى قراءة متأنية، يحاول
فيها القاريء أن يتذوق المعاني وأن يربط بين الجمل والفقرات بعضها والبعض من خلال
نسيج داخلي من الفهم العميق. وقد لا أكون متجاوزة قدري اذا ما قلت أنه كتاب معطاء
لا يتوقف عطاؤه عند قراءته أكثر من مرة. في كل مرة سيكون هناك تذوق جديد، ومتعة من
نوع خاص.
هذا
التنويه له ضرورته لأنني أتجرأ في هذه المقالات على هذا الكتاب بما أستخلصه منه، وغايتي
ليس أن يكون الحديث عنه بديلا عن قراءته، بل محفزا لكي يقترب منه المتعطشون لتذوق
الطاقة الروحية التي تحملها الكلمات، والذين يريدون أن تطول صحبتهم لهذا الكتاب
بقراءة متأنية فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.
*********
(1)
لقد
بدأ الكتاب بشرح حال المسلمين في القرن السادس الهجري، واختار تاريخ 567 هجريا.
والواقع أن رقم 67 بالنسبة للقرن العشرين الميلادي له دلالة، إذ حدثت فيه
الانتكاسة التي قلبت الأمور بالنسبة للعالم العربي رأسا على عقب، وانهار فيه الحلم
القومي، وكان بداية لمحاولات احيائية للإسلام وهو ما شكل المناخ السياسي والاجتماعي
والديني في العقود الأربع التي تلت هذا الحدث. أقول قولي هذا ونحن قد تجاوزنا
منتصف العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. وقد حدث في الحقبة الماضية أحداث
جسام، يصعب في مقالة أن أستكمل كل دلالاتها.
وإذا
تناولنا على الأقل ما حدث في بدايات هذا القرن لأدركنا عمق التغير الذي يحدث على
المستوى العالمي وكيف أن هذه المنطقة الشرق أوسطية تتفاعل مع المتغيرات العالمية
بشكل خاص جدا. لقد بدأ هذا القرن بحادث الهجوم على المركز التجاري الدولي بنيويورك
وتحطيمه، ومحاولة للهجوم على البيت الأبيض في واشنطن، وتحقيق خسائر محدودة بوزارة
الدفاع الأمريكية في العاصمة الأمريكية. وقد جاهر أسامة بن لادن قائد تنظيم
القاعدة الذي اتخذ مركزه في افغانستان مباركته لهذا العمل، مما أدى إلى تأكيد
العلاقة بين هذا الحدث وبين تلك التنظيمات. لقد قلب هذا الحدث العالم رأسا على
عقب. اذ اتخذته الولايات المتحدة الأمريكية ذريعة للتدخل في شئون غيرها من الدول
بحجة محاربة الارهاب، إلى أن قامت بالاعتداء على الأراضي العراقية تحت ادعاء تخليصها
من أسلحة الدمار الشامل، وهي الذريعة التي برز أنها كاذبة فيما بعد.
وفي
الربع الأخير من القرن العشرين أيضا حدث حادث له أهميته الخاصة، ألا وهو قيام
الثورة الإيرانية، وانشاء الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وقد كان شعب ايران هو
البطل في هذه الثورة، وقد استبد به اليأس من أي اصلاح حقيقي يمكن أن يتحقق على يد
الشاه. وكانت هذه الثورة ملهما لحركات احيائية في أنحاء متفرقة من العالم الإسلامي،
وحافزا للإسلام السياسي أن يسير خطوات للأمام نحو تحقيق طموحاته. وللأسف فإن
الثورة الإيرانية قد خيبت آمال الشعب الإيراني، بل والمسلمين، فلقد خلقت عداء
متصاعدا مع غير المسلمين، وخنقت الحريات، مما دفع الكثيرين إلى الهجرة من إيران.
وهذه التجربة أثارت وتثير العديد من التساؤلات بالنسبة للإسلام والحكم، والإسلام
والعالم. ويقع أغلب الملاحظون لما يحدث في خطأ مشترك، وهو تصور أن كل من يدعي أنه نظام اسلامي، فهو يعبر عن الإسلام. ويقع المسلمون في نفس الخطأ عندما يتصورون أنهم
عندما يدافعون عن النظام الإسلامي فإنهم يدافعون عن الإسلام.
والمسلمون
متخبطون ما بين مشاكل داخلية في بلادهم، وما بين وضع يرفعون فيه شعارات العداء
للغرب وحضارته، ويغفلون عن استبيان ما بين أيديهم من قوة الرسالة الإسلامية وقدراتها.
وتأخذ حركات العنف شعارات إسلامية. ولا يختلف اليمين المسيحي كثيرا عن التطرف
الديني في بلاد المسلمين. فإذا أضفنا إلى هذا التطرف اليهودي الظاهر في الاعتداء
على حقوق شعب فلسطين، وفي التطرف الهندوسي في الاعتداء على مسلمي الهند، وإلى
التطرف في كل العقائد، لأدركنا الحاجة إلى رؤية لمعنى الدين عامة ولمعنى الإسلام
ورسالته خاصة تنبثق من قلوب تتطهر دائما لاستقبال المزيد من الفهم والوعي ودون
ادعاء للحظة واحدة أنها قد أحاطت بالحقيقة.
أردت
بهذه العجالة في عرض ما استجد على الساحة السياسية منذ كتابة هذا الكتاب وإلى
اليوم الذي أخط فيه هذه الكلمات أن أشير إلى أهمية ما يقدمه هذا الكتاب من رؤية
تعيد للإسلام عافيته وقوته المعنوية والروحية التي هي أساس لأي انطلاق بعد ذلك.
**********
(2)
في
الفصول الأولى من الكتاب نجد هذه الجماعة الصوفية تناقش سؤالا عن التأريخ الإسلامي،
ولماذا بدأ المسلمون تأريخهم بهجرة الرسول (صلعم)، ولم يبدأوه بميلاده على غرار ما
فعل المتبعون لعيسى عليه السلام، أو ببعثه رسولا للعالمين بنزول الروح الأمين عليه
مبعوثا من رب العالمين، أو بانتقاله إلى الرفيق الأعلى.
ومن
خلال مناقشة هذا الأمر يشير السيد رافع على لسان الشيخ ومريديه قيمة ميلاد الرسول
وبعثه بالرسالة. إذ أن ميلاد الرسول على الأرض حدث جليل، ذلك أن الأرض أضاءت
بمولده نورا، ألم تر السيدة آمنة في بداية حملها نورا يخرج من جوفها ليملأ الأرض.
وأما بعثته بالرسالة فلقد كانت إيذانا أن تنتشر رسالته في مشارق الأرض ومغاربها. وأما
الهجرة فلقد كانت لها بداية جديدة وبدءا لانتشار الإسلام وإنشاء مجتمع.
"فالهجرة بين هذه الأمور من حيث تقديرها،
ومغزاها ومن حيث موضعها ومعناها، أو من حيث أثرها وإشارتها، أو جوهرها وحقيقتها
أقلها خطرا، وان كانت من حيث ما تبعها وما صدر عنها هي به وبفعله، وبأمته وبقومه
ألصق، وفي حياته وحياتهم أفعل. مما جعلها في تاريخ الإسلام أكبر في الذكر وفي
المظهر."
( ص 12)
واذا
كان الحديث قد بدأ بتساؤل عن "تأريخ" المسلمين، فإن الهدف – كما يبدو
لي- هو شرح اهتمامات المسلمين بعد انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى. لقد تم هذا
التأريخ في عصر الخليفة الثاني عمر بن الخطاب. ويبدو أنه قدر أهمية انتقال الدعوة الإسلامية
من مرحلة إلى أخرى، وتحول المسلمين من قوم مستضعفين إلى أمة ومجتمع. إثارة التاريخ
الإسلامي بدءا من الهجرة كشف عن زاوية من النظر في أهمية الهجرة في سلسلة الأحداث
الهامة التي أحاطت ببعث الرسالة الإسلامية.
وأما
في تقدير أبي فإن ميلاد الرسول (صلعم) على الأرض حدث له جلاله، وقيمته المعنوية
التي تفوق قيمة الهجرة. وكذلك فإن بعثته بالرسالة قد حملت بشرى للأرض في الاهتداء
بقدوته. وأما انتقاله للرفيق الأعلى فهو أيضا حدث له رهبته ومغزاه، فإذا كان
الرسول (صلعم) قد غاب جسدا لفرد، فإن رسالته انتشرت في قلوب من تابعه، وتستمر في
انتشارها بهم رحمة للعالمين، فوجودهم امتداد لوجوده، وقلوبهم تطوف بالمحبة حوله،
وأرواحهم تتواصل معه (صلعم).
ويعبر
والدى عن رسول الله بحب ووجد وتقدير، وقد اتسم تعبيره عن هذه المشاعر بأدب جم، فهو لا يتخذ أسلوبا متجرئا بكلمات جوفاء من
الاطراء والثناء. وإنما هذا التقدير قد ظهر في التقدير والأهمية لكل حلقة في سلسلة
السيرة النبوية، ثم لفت نظر إلى ارتباط
الرسالة التي حملها سيدنا محمد (صلعم) برسالة السماء بدءا من آدم، ويشير والدي إلى
أهمية إدراك معنى "الحقيقة المحمدية"، أي هذا الوجود الغيبي في علم الله
الذي سبق مولد محمد بن عبد الله (صلعم)، فالرسول يقول في
هذا الصدد "كنت نبيا وآدم بين الماء والطين" [1].
وقد جاء في القرآن الكريم في سورة آل عمران أيضا هذا العهد الذي جاء ليؤكد بعدا
آخر وهو تواجد الرسول والأنبياء في الحضرة الربانية قبل مجيء الرسول إلى الأرض
وبعثته بالرسالة "واذ أخذ الله ميثاق
النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما بين أيديكم لتؤمنن به
ولتنصرنه قال أقررتم وأخذتم على ذلكم اصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأن معكم من
الشاهدين" (آية 80).
والمنهجية
التي تتناولها الفصول الأولى بالتحديد، ويتناولها الكتاب عامة هو إدراك أن الرسالة
الإسلامية – وهي الرسالة الحنيفية والرسالة الفطرية التي تجلت مع كل الانبياء- قد
اكتملت أركانها مع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ليس فقط تبليغا، ولكن أيضا في
سلوك الرسول (صلعم)، وقد كان خلقه القرآن، وقد أدبه ربه فأحسن تأديبه، وقد وصفه
المولى "وإنك لعلى خلق عظيم".
وعن المسلمين يتساءل والدي:
"هل عرفوه فتعارفوه روحا تجسد
بينهم، من روح الله مرسلا. أرواحهم تتغذى مازالت من نفثات ذاته نورا منزلا
(ص15)
"مولده هو مولد للأزل ... لمن كان
الرسول (صلعم) كل الحياة، وكل حياتهم. من كان الرسول (صلعم) هواهم وفؤادهم، من كان
الرسول (صلعم) عندهم سعادتهم في الدنيا، وسعادتهم في الآخرة، وحظهم في الله. من
ارتضوه بلسم ابتلائهم، وجزاء اجتهادهم، ونعيم حياتهم، وخلاص آخرتهم" (ص 13)
والسؤال
الدائم الذي يسير معنا في مناقشة هذا الكتاب وما تعرض له من قضايا هو ما الذي يمكن
أن نكتسبه من هذه الرؤية في حياتنا؟
ليس
الأمر متعلقا بتعظيم الرسول(صلعم) إقرارا باصطفائه وعظيم قدره، ولكن الأهم هو أن
ندرك أن إيماننا بالرسول الكريم (صلعم) يتعدى الإقرار بوجود ذات وصفات، إلى وجود
رسالة بها يمكن أن يحيا الإنسان حقا، فتصبح الحياة ذات معنى ومغزى، وهكذا يوجهنا
القرآن عندما يقول:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ
إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ
الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (سورة الأنفال: آية 24)
صدق الله العظيم..
وللحديث بقية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق