الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل
الدين الواحد يعتمد على استيقاظ القلب والبصيرة إلى حقيقة الوجود ويجعل هذه اليقظة القلبية الإيمانية نبع لرؤية ما يحدث في الحياة الدنيا التي نعيشها والتفاعل معها
أدركنا أن الله كتب على نفسه الرحمة، فهو يهدي إلى صراط مستقيم لكل من يدعوه ويتوجه إليه. ولذا فإن العلاقة بين الأرض والسماء، بين الإنسان والله لا يحدها زمان أو مكان. إنه دائما الهادي لكل طالب "ادعوني أستجب لكم". الله لا يضلل بالمعنى الذي يذهب إليه ذهننا البشري، ولكن نؤمن أن لا شيء يخرج عن إرادته، أو قانونه سبحانه وتعالى. ولذا نفهم أن من يضلل الله تشير إلى ذلك الإنسان الذي يفسق، ويتبع الهوى والأهواء فيضع بيديه حجبا على قلبه تمنعه من الإستماع إلى الصوت الداخلي الذي أودعه الله فيه، وتعيقه عن اتباع تعاليم معلمي البشرية ورسلها. الإنسان. وإذا تأملنا قليلا لوجدنا أن "ضلال" الإنسان معجزة من معجزات الخالق، لأن الله أعطي إرادة حرة لهذا المخلوق الإنساني، وقدرة على أن يسير في طريق هلاكه، بينما كل ما في الكون يسير في قانون لا ينحرف عنه، لا الشمس ينبغي لها أن تلحق القمر، ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون.
وإذا ربطنا هذا كله بالقضية الرئيسية التي يعني بها هذا الجزء، ألا وهي تأكيد أن هناك دينا واحدا، فإننا في هذا السياق نريد أن نؤكد أن الإيمان طاقة ملهمة، تساعد الإنسان على اتخاذ قرارته ليواجه بها أحواله في هذه الحياة الدنيا. وأن إيماننا بالدين الواحد لا يشير إلى قوالب متجمدة من السلوك، أو الخبرة المتكررة بصرف النظر عن الزمان أو المكان، سنجد أن خبرة الأنبياء متنوعة، والعلم الذي حملوه متعدد، وكل خبرة ترسل لنا رسالة اليوم تساعدنا على التفاعل مع واقعنا. هذه الخبرات والتجارب والعلوم تنطلق من تجربة إيمانية.
نوح والسفينة:
إذا تأملنا في قصة نوح (عليه السلام) نجد أن سفينة نوح كانت بداية جديدة لحياة البشر على الأرض، بعد أن أهلك الله قومه، ونجاه ومن معه، وأمره أن يأخذ من كل شيء زوجين، لتستمر الحياة.
ونُوحًا إِذْ نَادَىٰ مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (الأنبياء:76)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (الأعراف:57)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (هود:27)
قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (الشعراء:116)
وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ (هود: 29)
وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (الفرقان:37)
شرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (شورى:3)
في كثير من الأحيان لا يكون هناك مناص من أن يخرج الإنسان مهاجرا إلى الله، ومتجها إلى وسيلة ينجو بها من الظالمين، وهكذا كانت سفينة نوح "وسيلة" للخلاص، حملته إلي حيث شاء الله. اتخذ الوسيلة وسلّم أمره لله.
تدعونا تجربة نوح إلى التفاعل مع الواقع، والبحث عن طريق للخلاص، مع الإيمان المطلق أن الأمر بيد الله وحده
عندما قال رسول الله في حديث صحيح "مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك"، فإنه كان يشير أيضا إلى طوق النجاة الروحي. أهل البيت مفهوم واسع ويتسع دائما لكل من تابع الرسول بمحبة، واتبع نوره فيمن تجلى فيهم نوره. وأهل بيته الذين أشار إليهم هم النواة التي يتجمع عليها المسلمون جميعا ليكونوا منها وبها. أراد الرسول أن يكون أهل بيته رمزا لرسالته. الأمر إذن ليس عصبية، ولكنه إشارة إلى ضرورة التماسك بين المؤمنين الذين ينبغي أن تجمعهم المحبة وأن يلتقوا على نواة ومركز منهم بينهم.
علينا أن نفكر اليوم أين هي السفينة التي نركبها، أين هي رسالة الرسول التي ينبغي أن نتجمع حولها، أين هم أهل بيته الذين نتوجه إليهم لنكن منهم وبهم أسرة واحدة؟ إذا إتجهنا إلى الله مخلصين له الدين، متحررين من الأوهام، ستملأ قلوبنا المحبة، سيجد بعضنا البعض، سنكون في معنى "آل البيت". أما إذا انشغلنا بالانتقام والكراهية ونبذ الآخر، سيختلط الأمر علينا، ونتوه في الظلمات.
الإسلام لله قدرة ترشدنا إلى طريق الخلاص والنجاة
موسى والآية الكبرى
وَقَالَ مُوسَىٰ يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (الأعراف:104)
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَـٰهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (الشعراء:29)
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ (طه:7)
"وقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ" (يونس:84)
"إنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ" (طه:73)
وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ۖ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (الأعراف:141)
في قصة موسى عليه السلام هناك الكثير والكثير مما يمكن أن نتدبره، ونتفهمه. ها نحن نرى رسولا يواجه الطغيان مواجهة مباشرة بأمر من لله سبحانه وتعالى، ويقاوم الظلم وينجو وبني إسرائيل من عذاب فرعون. ندرك أن تلك الجرأة على الطغيان لا تجيء إلا من قلب "مسلم"، قد كسر الخوف عندما رأي آيات الله.
ومن ذلك الحوار الذي يسوقه لنا القرآن بين موسى وربه، يتبين لنا الضعف الإنساني الطبيعي الذي ملأ قلب موسى وهارون "قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَىٰ" (طه:45) ، لقد تحول الخوف إلى ثقة في الله وتأييده، أعطتهما الشجاعة أن يدخلا بلاط فرعون ويطالبانه ثم أن يتوقف عن تعذيب بني اسرائيل، ويفك أسرهم، وقد أتياه بآية عله يهتدي. إذ يرمي موسى عصاه فتلقف ما صنع السحرة. ويظل قلب فرعون متحجرا. بينما يخر السحرة سجدا لله.
إن عصى موسى رمز لتأييد الله الذي يسبغه على عباده، وكل منا إذا كسر حاجز الخوف، فإنه سيأخذ قوة من الله، تحقق ما لا يمكن أن يتصوره عقل. لقد استطاع سحرة فرعون أن يستشعرا تلك القوة الإيمانية التي هي أكبر من كل الحيل والألاعيب. وهم يضربون لنا مثلا هاما في أن من آمن لا يرى حياة بحق إلا الحياة الآخرة، فهم يجاهرون بإيمانهم فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ (طه:70) يرد عليهم فرعون قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ (طه:71). فيردون عليه بثبات فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَـٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (طه:72)
نقرأ في قصة موسى أن التسليم لله قوة تكسر حاجز الخوف وتعطي الإنسان قدرة إعجازية لمواجهة الطغيان والظلم يصحبها إيمان راسخ بالحياة الآخرة
رسالة عيسى عليه السلام
وَلَمَّا جَاءَ عِيسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (الزخرف:63)
وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ (البقرة:253)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (آل عمران:52)
رسالة سيدنا عيسى جاءت لتصلح لبني إسرائيل ما أخطأوا في فهمه من رسالة سيدنا موسى (عليه السلام)، وكان يبحث عمن يحمل رسالته، وكانت قلة قليلة، وهم حواريوه، وشهدوا أنهم أسلموا لله رب العالمين فكان طريقهم الإسلام. لقد اهتم بنواسرائيل بأشكال العبادة، أكثر من اهتمامهم بروح الإيمان التي أرشدهم إليها موسى، ولهذا كانت رسالة المسيح أن يعيدهم إلى رؤية جوهر الدين. إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (الزخرف:64)
رسالة شعيب : العدل في الميزان:
وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًاۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْۖ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (الأعراف:84)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (الأعراف:88)
إذا كان موسى قد قاوم الطغيان، فإن شعيبا قد قاوم الفساد ، والكل يبدأ بالتذكرة بالله الحق، الذي على الناس أن يتوجهوا إليه. ويتعاملوا معه، ولكن الناس شأنهم في الماضي، وشأنهم في الحاضر يضعون في آذانهم وقرا، ويصرون على طريقتهم.
التسليم لله يطهر النفس من طغيانها، فيكون الإنسان على نفسه حسيبا رقيبا فلا يظلم لايبخس الناس أشياءهم.
ليس المقصود في هذه المدونة أن نقدم رسالة كل نبي أو رسول لنشرح بها معنى "المسلم" أو "الإسلام"، ولكن تلك الأمثلة القليلة تؤكد أن "الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل" ندرك أن الإسلام ينعكس في كل ما نقوم به في الحياة. لن يكون الكاذب والمنافق والظالم والطاغية متبعا لطريق الإسلام، مهما كان مداوما على عبادة، أو حافظا لآيات. الخلق لا ينفصل ولا يتجزأ عن الإيمان. من شهد لا إله إلا الله حقا، أصبح مسلما حياة وسلوكا وفعلا وخلقا.
رسالة الإسلام مع سيدنا محمد رسالة جامعة بمعنى أنها قد قدمت الإسلام بجوانبه المتعددة التي جاءت بها الرسالات السابقة. وكل من اتبع رسوله أصبح مسلما.
سنجد هناك سمة عامة تجمع رسالات الأنبياء جميعا، وعلينا أن نتدبرها في قصص كل منهم:
1. أنهم لا يسألون الناس أجرا، ويتوجهون إليهم من منطلق التواصي والرحمة والمحبة.
2. إنهم يدعون الناس إلى رؤية الحقيقة والتخلص من الوهم، بدعوتهم إلى الله وعدم الشرك به
3. إن دعوتهم إلى التوحيد ترتبط ولا تنفصم أو تنفصل عن "العمل الصالح" أي كل الأعمال التي تتوجه إلى الخير وتنشره.
4. إنهم يدعون بالتي هي أحسن، لا يقهرون ولا يخلقوا أعداء.
5. هناك دائما طريق للخلاص يخرجهم من اضطهاد الضالين.
إنطلاقا من الرسالة الواحدة التي ترتكز على الاتجاه إلى الله وحده لاشريك له. فإن هذه الدعوة تحمل مع كل نبي دلالة سلوكية خاصة. ويرفض الناس هذه الدعوة، لأنها تجيء بما لا تشتهي أنفسهم، ذلك أن الإنسان يعبد ما يجعله متميزا قويا يأمر فيطاع، ويسعي إلى كل ما يحقق له هذه السطوة والسلطة، يعيش ويموت من أجل وهم القوة. ولقد تعاقبت الأقوام التي تدعي أنها تؤمن بإله واحد، قديما وحديثا، ولكنها تشرك بطرق مختلفة، كما نتعلم من القصص القرآني.
الدين الواحد يعتمد على استيقاظ القلب والبصيرة إلى حقيقة الوجود ويجعل هذه اليقظة القلبية الإيمانية نبع لرؤية ما يحدث في الحياة الدنيا التي نعيشها والتفاعل معها
أدركنا أن الله كتب على نفسه الرحمة، فهو يهدي إلى صراط مستقيم لكل من يدعوه ويتوجه إليه. ولذا فإن العلاقة بين الأرض والسماء، بين الإنسان والله لا يحدها زمان أو مكان. إنه دائما الهادي لكل طالب "ادعوني أستجب لكم". الله لا يضلل بالمعنى الذي يذهب إليه ذهننا البشري، ولكن نؤمن أن لا شيء يخرج عن إرادته، أو قانونه سبحانه وتعالى. ولذا نفهم أن من يضلل الله تشير إلى ذلك الإنسان الذي يفسق، ويتبع الهوى والأهواء فيضع بيديه حجبا على قلبه تمنعه من الإستماع إلى الصوت الداخلي الذي أودعه الله فيه، وتعيقه عن اتباع تعاليم معلمي البشرية ورسلها. الإنسان. وإذا تأملنا قليلا لوجدنا أن "ضلال" الإنسان معجزة من معجزات الخالق، لأن الله أعطي إرادة حرة لهذا المخلوق الإنساني، وقدرة على أن يسير في طريق هلاكه، بينما كل ما في الكون يسير في قانون لا ينحرف عنه، لا الشمس ينبغي لها أن تلحق القمر، ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون.
وإذا ربطنا هذا كله بالقضية الرئيسية التي يعني بها هذا الجزء، ألا وهي تأكيد أن هناك دينا واحدا، فإننا في هذا السياق نريد أن نؤكد أن الإيمان طاقة ملهمة، تساعد الإنسان على اتخاذ قرارته ليواجه بها أحواله في هذه الحياة الدنيا. وأن إيماننا بالدين الواحد لا يشير إلى قوالب متجمدة من السلوك، أو الخبرة المتكررة بصرف النظر عن الزمان أو المكان، سنجد أن خبرة الأنبياء متنوعة، والعلم الذي حملوه متعدد، وكل خبرة ترسل لنا رسالة اليوم تساعدنا على التفاعل مع واقعنا. هذه الخبرات والتجارب والعلوم تنطلق من تجربة إيمانية.
نوح والسفينة:
إذا تأملنا في قصة نوح (عليه السلام) نجد أن سفينة نوح كانت بداية جديدة لحياة البشر على الأرض، بعد أن أهلك الله قومه، ونجاه ومن معه، وأمره أن يأخذ من كل شيء زوجين، لتستمر الحياة.
ونُوحًا إِذْ نَادَىٰ مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (الأنبياء:76)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (الأعراف:57)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (هود:27)
قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (الشعراء:116)
وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ (هود: 29)
وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (الفرقان:37)
شرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (شورى:3)
في كثير من الأحيان لا يكون هناك مناص من أن يخرج الإنسان مهاجرا إلى الله، ومتجها إلى وسيلة ينجو بها من الظالمين، وهكذا كانت سفينة نوح "وسيلة" للخلاص، حملته إلي حيث شاء الله. اتخذ الوسيلة وسلّم أمره لله.
تدعونا تجربة نوح إلى التفاعل مع الواقع، والبحث عن طريق للخلاص، مع الإيمان المطلق أن الأمر بيد الله وحده
عندما قال رسول الله في حديث صحيح "مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك"، فإنه كان يشير أيضا إلى طوق النجاة الروحي. أهل البيت مفهوم واسع ويتسع دائما لكل من تابع الرسول بمحبة، واتبع نوره فيمن تجلى فيهم نوره. وأهل بيته الذين أشار إليهم هم النواة التي يتجمع عليها المسلمون جميعا ليكونوا منها وبها. أراد الرسول أن يكون أهل بيته رمزا لرسالته. الأمر إذن ليس عصبية، ولكنه إشارة إلى ضرورة التماسك بين المؤمنين الذين ينبغي أن تجمعهم المحبة وأن يلتقوا على نواة ومركز منهم بينهم.
علينا أن نفكر اليوم أين هي السفينة التي نركبها، أين هي رسالة الرسول التي ينبغي أن نتجمع حولها، أين هم أهل بيته الذين نتوجه إليهم لنكن منهم وبهم أسرة واحدة؟ إذا إتجهنا إلى الله مخلصين له الدين، متحررين من الأوهام، ستملأ قلوبنا المحبة، سيجد بعضنا البعض، سنكون في معنى "آل البيت". أما إذا انشغلنا بالانتقام والكراهية ونبذ الآخر، سيختلط الأمر علينا، ونتوه في الظلمات.
الإسلام لله قدرة ترشدنا إلى طريق الخلاص والنجاة
موسى والآية الكبرى
وَقَالَ مُوسَىٰ يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (الأعراف:104)
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَـٰهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (الشعراء:29)
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ (طه:7)
"وقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ" (يونس:84)
"إنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ" (طه:73)
وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ۖ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (الأعراف:141)
في قصة موسى عليه السلام هناك الكثير والكثير مما يمكن أن نتدبره، ونتفهمه. ها نحن نرى رسولا يواجه الطغيان مواجهة مباشرة بأمر من لله سبحانه وتعالى، ويقاوم الظلم وينجو وبني إسرائيل من عذاب فرعون. ندرك أن تلك الجرأة على الطغيان لا تجيء إلا من قلب "مسلم"، قد كسر الخوف عندما رأي آيات الله.
ومن ذلك الحوار الذي يسوقه لنا القرآن بين موسى وربه، يتبين لنا الضعف الإنساني الطبيعي الذي ملأ قلب موسى وهارون "قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَىٰ" (طه:45) ، لقد تحول الخوف إلى ثقة في الله وتأييده، أعطتهما الشجاعة أن يدخلا بلاط فرعون ويطالبانه ثم أن يتوقف عن تعذيب بني اسرائيل، ويفك أسرهم، وقد أتياه بآية عله يهتدي. إذ يرمي موسى عصاه فتلقف ما صنع السحرة. ويظل قلب فرعون متحجرا. بينما يخر السحرة سجدا لله.
إن عصى موسى رمز لتأييد الله الذي يسبغه على عباده، وكل منا إذا كسر حاجز الخوف، فإنه سيأخذ قوة من الله، تحقق ما لا يمكن أن يتصوره عقل. لقد استطاع سحرة فرعون أن يستشعرا تلك القوة الإيمانية التي هي أكبر من كل الحيل والألاعيب. وهم يضربون لنا مثلا هاما في أن من آمن لا يرى حياة بحق إلا الحياة الآخرة، فهم يجاهرون بإيمانهم فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ (طه:70) يرد عليهم فرعون قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ (طه:71). فيردون عليه بثبات فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَـٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (طه:72)
نقرأ في قصة موسى أن التسليم لله قوة تكسر حاجز الخوف وتعطي الإنسان قدرة إعجازية لمواجهة الطغيان والظلم يصحبها إيمان راسخ بالحياة الآخرة
رسالة عيسى عليه السلام
وَلَمَّا جَاءَ عِيسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (الزخرف:63)
وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ (البقرة:253)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (آل عمران:52)
رسالة سيدنا عيسى جاءت لتصلح لبني إسرائيل ما أخطأوا في فهمه من رسالة سيدنا موسى (عليه السلام)، وكان يبحث عمن يحمل رسالته، وكانت قلة قليلة، وهم حواريوه، وشهدوا أنهم أسلموا لله رب العالمين فكان طريقهم الإسلام. لقد اهتم بنواسرائيل بأشكال العبادة، أكثر من اهتمامهم بروح الإيمان التي أرشدهم إليها موسى، ولهذا كانت رسالة المسيح أن يعيدهم إلى رؤية جوهر الدين. إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (الزخرف:64)
رسالة شعيب : العدل في الميزان:
وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًاۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْۖ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (الأعراف:84)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (الأعراف:88)
إذا كان موسى قد قاوم الطغيان، فإن شعيبا قد قاوم الفساد ، والكل يبدأ بالتذكرة بالله الحق، الذي على الناس أن يتوجهوا إليه. ويتعاملوا معه، ولكن الناس شأنهم في الماضي، وشأنهم في الحاضر يضعون في آذانهم وقرا، ويصرون على طريقتهم.
التسليم لله يطهر النفس من طغيانها، فيكون الإنسان على نفسه حسيبا رقيبا فلا يظلم لايبخس الناس أشياءهم.
ليس المقصود في هذه المدونة أن نقدم رسالة كل نبي أو رسول لنشرح بها معنى "المسلم" أو "الإسلام"، ولكن تلك الأمثلة القليلة تؤكد أن "الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل" ندرك أن الإسلام ينعكس في كل ما نقوم به في الحياة. لن يكون الكاذب والمنافق والظالم والطاغية متبعا لطريق الإسلام، مهما كان مداوما على عبادة، أو حافظا لآيات. الخلق لا ينفصل ولا يتجزأ عن الإيمان. من شهد لا إله إلا الله حقا، أصبح مسلما حياة وسلوكا وفعلا وخلقا.
رسالة الإسلام مع سيدنا محمد رسالة جامعة بمعنى أنها قد قدمت الإسلام بجوانبه المتعددة التي جاءت بها الرسالات السابقة. وكل من اتبع رسوله أصبح مسلما.
سنجد هناك سمة عامة تجمع رسالات الأنبياء جميعا، وعلينا أن نتدبرها في قصص كل منهم:
1. أنهم لا يسألون الناس أجرا، ويتوجهون إليهم من منطلق التواصي والرحمة والمحبة.
2. إنهم يدعون الناس إلى رؤية الحقيقة والتخلص من الوهم، بدعوتهم إلى الله وعدم الشرك به
3. إن دعوتهم إلى التوحيد ترتبط ولا تنفصم أو تنفصل عن "العمل الصالح" أي كل الأعمال التي تتوجه إلى الخير وتنشره.
4. إنهم يدعون بالتي هي أحسن، لا يقهرون ولا يخلقوا أعداء.
5. هناك دائما طريق للخلاص يخرجهم من اضطهاد الضالين.
إنطلاقا من الرسالة الواحدة التي ترتكز على الاتجاه إلى الله وحده لاشريك له. فإن هذه الدعوة تحمل مع كل نبي دلالة سلوكية خاصة. ويرفض الناس هذه الدعوة، لأنها تجيء بما لا تشتهي أنفسهم، ذلك أن الإنسان يعبد ما يجعله متميزا قويا يأمر فيطاع، ويسعي إلى كل ما يحقق له هذه السطوة والسلطة، يعيش ويموت من أجل وهم القوة. ولقد تعاقبت الأقوام التي تدعي أنها تؤمن بإله واحد، قديما وحديثا، ولكنها تشرك بطرق مختلفة، كما نتعلم من القصص القرآني.
هذا الكلام يغير العالم إلى أرض مليئة بالسلام والمحبة وخالية من التعصب
ردحذفأزال المؤلف هذا التعليق.
ردحذف