أكدنا في المدونات السابقة أن الإسلام منهج للحياة، وأحد أسس هذا المنهج إدراك أن هناك قوة عليا، وهذا الإدراك قلبي، وإذا لم يقم في القلب لن يكون في مقدور أي كائن من كان أن يقنع أحداً به. ونعيد ما قلناه سابقاً من زاوية أخرى، مؤكدين أن معرفة الله ليست معرفة تلقينية ولا تعليمية ولكنها معرفة منسوجة في صميم الوجود الإنساني نفسه، ولكنه يحجب عنها لأسباب كثيرة.
تمنع الحجب الكثيفة الإنسان أن يتذكر عهده مع الله ومعرفته به. وقد تُبنى هذه الحجب عن طريق التنشئة أو عن طريق سيادة قيم اجتماعية تضعف من قيمة الروح وتعلي من القيم المادية. وأياً ما كان السبب فإن الحديث عن الدين دون هذا النوع من اليقين الإيماني القلبي يصبح حديثاً باللسان لا يسمن ولا يغني من جوع. "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" الحج:46)
عندما ندرك أنه لا يوجد إنسان على هذه الأرض في أي مكان وفي أي زمان محروم من هذه النعمة الربانية، يتأكد لدينا أن هناك ديناً واحداً، يتم التعبير عنه بتنوع لا حدود له، ويعجز التعبير عن الوصف، فتصبح اللغة دائماً قاصرة، ويساء فهمها. ولكن عندما يستقبل الإنسان الدلالة عن طريق البصيرة، فإنه يحل شفرة المعنى المحملة على اللفظ.
كانت رحلة سيدنا إبراهيم تأكيداً لهذا الاتجاه. عندما تأملنا رحلته أدركنا أنه أسوة لكل إنسان؛ لأن رحلته تضيء لكل باحث عن الحقيقة طريقه، وترشده إلى المنهجية التي توصل الإنسان إلى اليقين.
أرشدنا القرآن أن لنا في إبراهيم أسوة، وجاءت الآيات ناصحة لرسول الله أن نتبع ملة إبراهيم "قل اتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين"، لهذا نريد أن نلقي مزيداً من الأضواء على تلك الرحلة التي هي رحلتنا نحن في هذه الحياة.
مما قرأنا وتبعاً لما ناقشناه، سندرك أولاً أن هداية الله قد جاءت لإبراهيم عندما طلبها، وقد أعياه البحث وأدرك أنه بدون عون قد يضل الطريق. من هنا نتعلم أن طلب الإنسان للمعرفة يسبق أي معرفة، وأن إدراك الإنسان لحدوده يتيح له استقبال إرشاد القوى العليا.
ونلاحظ ثانياً أن إبراهيم قد جاءته المعرفة إلهاماً، ولهذا كان أسوة للإنسان في كل مكان.
ويدهشنا ثالثاً أن تلك المعرفة انبثقت بشكل حدسي يقيني ليس فيه شك "إني وجهت وجهي للذي فطر السماء والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين"، أي أن هذه المعرفة قد خرجت من وعي استخرجه إبراهيم (عليه السلام) من قلبه، بفضل من الله ورحمته. هذا التعبير القرآني يوحي لنا أنه شعر بالحضور الإلهي. إنها الرؤية البصيرية التي لا يدركها إلا من يعيشها.
تشير التجربة التي عاشها إبراهيم (عليه السلام) إلى هذا الانتباه الذي نغفل نحن في كثير من الأحيان عن إدراكه، على الرغم من وضوحه. أخذ هو يتفكر في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، وقد ملأته الحيرة، بعد أن رفض ما اجتمع عليه قومه من عبادة ما لا ينفع ولا يضر، فهو يسأل أباه: "أَتَتَّخِذُ
أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ" (الأنعام: 74). هذه هي البداية.
إنه التعجب الذي يجعلنا نحن اليوم نتساءل نفس السؤال: ألا يدرك الناس أنهم قد حولوا الدين إلى أصنام يعبدونها؟
إن هذا القصص الرمزي يشير إلى قصتنا الدائمة التي تجعلنا نرى في الأشياء المحدودة قيمة غير محدودة، ونسبغ على المقيد قيم المطلق؟ وهو ما يجعلنا نعيش في وهم يحجب عنا الرؤية.
إننا نتأمل سيرته كما عبر عنها القرآن لنكتشف طريقنا. أين نحن؟
هل تساءلنا كما تساءل؟ أم أننا استسلمنا إلى ما يقال لنا، فأخذنا نردد الكلمات، ونلوك بألسنتنا الآيات، ولكن قلوبنا غلف، فلا نشعر بما يقال، ولا نعيش ما نقرأ؟
إن طريق سيدنا إبراهيم (عليه السلام) طريق للتواصل مع الفطرة الإنسانية، أو إلى ما أودعه الله فينا من معرفه عنه سبحانه، منذ بداية الخلق الأول، وهو ما نقرأه في الآيات التالية:.
"وإذ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ ﴿سورة الأعراف:172)
نتبين أن الإيمان بالله فطرة، نطمسها بغفلتنا، ولكن تراثنا الإنساني يذخر بالكشف الفطري عن المعاني التي تعيش فينا. إن ما بين أيدينا اليوم من الحصيلة الإنسانية من الفكر والفلسفة والفنون، ومن الطقوس والعبادات ما هو إلا تعبير عن هذا النزوع الفطري نحو أصل الوجود، وتنوع التعبير الإنساني عن كيفية إقامة وُصْلَة وَصِلَة معه.
وبالعودة إلى آيات العهد مرة أخرى واستقبال ما توحيه إلينا، فلنتأمل: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ" ولنتوقف أمام تعبيره تعالى "بني آدم". إن هذا التعبير القرآني يشير بالتحديد إلى البشر الذين يعيشون على الأرض من بني آدم، وأنهم بتواجدهم فإن ذريتهم تتواجد بالفعل في "عالم الغيب". وبناء عليه ندرك كذلك أننا كنا من قبل موجودين عندما أخذ الله منا العهد، وقد سبقنا أباؤنا في الوجود. وأننا قد ولدنا ونحن نحمل هذا العهد. نؤمن إذن أن كل من تواجد.. وكل من سيتواجد.. أنشأه الله نشأة أولى في "لوحه المحفوظ" قبل أن يتمثل بشراً سوياً في هذه الأرض. وقد يمكننا تبعاً لهذه الرؤية أن نعيد قراءة ما جاء في سورة الواقعة (62): "ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون". إنها تذكرة بهذا العهد.
نحن إذن أمام رؤية تجعلنا نوقن أن نسيج وجودنا منذ النشأة الأولى يشهد أنه لا إله إلا الله. ويزيدنا يقيناً تشابه التجربة الإنسانية قديماً وحديثاً.. شرقاً وغرباً في هذه الخبرة الوجودية الوجدانية.
عندما نقول "النشأة الأولى" فهو تعبير مجازي عن أمر غيبي لا يصح أن نزعم أننا قد أحطنا به علماً، ولكن نزداد يقيناً أن ما نعرفه عن الخالق هو علم من لدنه. وعندما يصل إدراكنا إلى أن الإنسان مفطور على معرفة ربه وخالقه، فإنه يعجب أن يضل البعض عن هذه المعرفة. ويرشدنا القرآن عن بعض دلالات هذا الجهل وأسبابه، ولنأخذ مثلاً في قراءة الحوار الذي دار بين رجلين في صورة الكهف
"وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَدًا، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا . قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا، لَّـٰكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا" (الكهف: 35 -38)
نريد أن نتأمل هذه الآيات لنتعرف على نوع من "الشرك"، نقوم فيه بوعي أو بدون وعي مثل هذا الرجل الذي ظن أن "جنته" لن تبيد أبداً. لقد أعطى للموقوت صفة الدوام، وكل شيء في هذه الحياة إذا تأملنا "موقوت"، ونحن أنفسنا قد كتب الله علينا "الموت". "نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين، على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون". (الواقعة: 60 -61) "خلق لكم الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً" ( الملك :2)
إن الرجل الذي وصفه القرآن أنه ظالم لنفسه لا ينكر في هذه الآيات وجود رب له، ولكنه وقع في إعطاء صفة الدوام لما يملك. وكلنا هذا الرجل، فعلينا أن ننتبه إلى هذه الخدعة التي تتسلل إلى نفوسنا، وتقبع في اللاشعور فتوجه أفعالنا وتوجهنا في الحياة. لهذا يذكره صاحبه بالخالق الأعظم "أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ"، فمن تكون أيها الإنسان؟ وأي قدرة تتوهم أنها بيدك؟ "لَكِنَّا
هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا، وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ
لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا، فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ
خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ
فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا". الكهف:38-40
وترتبط قضية الخلق بقضية البعث ارتباطاً وثيقاً، سنجد أن القرآن دائماً يذكر المستنكرين للبعث أن الله خلقهم "وَضَرَبَ
لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ
يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ". (يس:78 -79) أو يقولون "وَكَانُوا
يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ" (الواقعة:47-48).
هؤلاء الذين كفروا بالبعث، نظروا من زاوية مادية بحتة، فتصوروا أن البعث يتعلق بالجثامين التي تحولت تراباً، ولا يدرون أن سر الخلق هو نفسه سر البعث. وحتي بعد أن وضع دارون نظرية التطور، مازال هناك عجز عن تفسير تفرد الإنسان بهذه القدرات الإبداعية، كما أن هناك عجزاً في سر الحياة نفسها بكل تنوعاتها على هذه الأرض. "أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ" (سورة الأنبياء: 30)
"إنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (سورة الأنعام:95)
عندما يستيقظ الإنسان من غفلته ويدرك حضور الواحد الأحد، فإن هذا الإدراك سيكون له أثره عليه بعد أن يترك جسده ويعود من حيث أتي "إنا لله وإنا إليه راجعون". "سبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون". ومن هنا كان الارتباط بين الإيمان بالله والإيمان بالبعث لا ينفصمان.
أي أن اليقين أن الله الذي خلقني من اللازمان، والذي أودع في كياني الإنساني المعرفة به، قادر أن يعيد خلقي بسر لا أستطيع أن أحيط به علماً. إن ما أودعه الله في الإنسان من سره يستحق من ذوي الألباب أن يتفكروا "وفي أنفسكم أفلا تبصرون".
لأن الله سبحانه قد وضع في الإنسان تلك القدرة على التعرف عليه، فإنه وضع فيه كذلك القدرة على "الإبداع"، "والتفكر في خلق السموات والأرض"، وهو ما نشأ عنه كل العلوم التي نرى فضائلها اليوم علينا. إن هذه القدرة إذا تفكرنا فيها وهي التي ميزت الإنسان عن المخلوقات الأخرى، فهي كافية أن تجعلنا نشهد قدرة الله ونسجد لعظمته. ونوقن أنه لم يخلقنا عبثاً، وأن لنا حياة لا تنتهي بموت الجسد.
اختصاراً: إن معرفة الإنسان بخالقه مضمنة في نسيج وجوده عندما نفخ فيه من روحه، وعندما أخذ عليه العهد، وأن الأمر الإلهي "كن" الذي هو سر الخلق حمل للإنسان قدرة على معرفة خالقه، ومن عرف عظمة الخالق وجلاله أيقن بوجوب البعث وحتميته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق