خطبة الجمعة 29 صفر 1434هـ الموافق 11 يناير
2013م
الحمد لله، الذي أكرمنا وأنعم علينا بأن نتفكر ونتدبر، وأن نذكر ونتعبد،
وأن نحاول ونجتهد، لنعرف طريق الحق، ولا نُقَلِّد دون وعيٍ ودون فهم، وأن نقرأ
آيات الله بعمقٍ، باحثين عما يُحيِي قلوبنا فيها، وعما ينير عقولنا منها، لنكون
حقاً فيما أُمِرنا به في ديننا من تدبرٍ ومن إدراكٍ لمعنى الحياة، ولمعنى وجودنا
على هذه الأرض، وكيف نكون في علاقةٍ مع خالقنا، وكيف نغير ما في أنفسنا وما على
أرضنا، إلى ما نرى أنه الأفضل والأحسن والأقوم.
هذه رؤيتنا، وهذا طريقنا، وهذا سلوكنا، وهذه تعاليمنا، أن نقرأ أكثر، وأن
نتدبر أكثر، وأن ندعو الله أكثر، وأن نذكر الله أكثر، وأن نعمل عملاً صالحاً بكل
ما أُوتينا من قوة، بأن نتقن أعمالنا، وأن نبحث عن كيف نجعلها أكثر قدرةً على
تغيير ما هو أقل إلى ما هو أعلى، أن نجعلها أكثر كفاءةً بالنسبة لنا وبالنسبة
للمتلقين إياها
[إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه](1).
عباد الله: إن أساس التواجد
في مجتمعٍ ما أن يتوافق أفراده على كيفية المعيشة معاً، كيف يقدم كل فردٍ فيهم ما
هو أفضل وأحسن، ما هو قادرٌ عليه، ما يُحسِن صنعه، وما يُتقِن فعله. كيف يعيشون
عيشةً كريمة، كيف يُعلِّمون الجاهل ويطببون المريض ويُعِينون المحتاج، كيف يكونون
كأمة، مثلاً صالحاً، كيف يكونون رسالة خيرٍ لكل الأمم، كيف يُخرِجون أحسن ما فيهم،
كيف يتحابون، وكيف يجتمعون على كلمةٍ سواء، لا يسخر بعضٌ من بعضٍ، لا يتنابزون
بالألقاب(2).
وقد ضرب رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ مثلاً، حين هاجر إلى المدينة،
فوجد فيها أقواماً، وجد فيها قوماً لا يؤمنون، وقوماً يدينون بأديانٍ مختلفة،
وقوماً هم أهل المدينة، وقوماً هاجروا إلى المدينة، فسَنَّ لنا سُنَّةً، في أن
يجتمع مع كلٍّ منهم، ليضع دستوراً، وثيقةً، عهداً، صحيفةً ـ يتفقون فيها، على كيف
يتعايشون، ما هي حقوقهم، وما هي واجباتهم، في هذا المجتمع الذي يضمهم جميعاً.
قد يقول قائلٌ: أن هذا تم قبل الفتح، وقبل التمكين. ولكنه المثل الذي نعيشه
اليوم في مجتمعنا، بل وفي المجتمع الكونيّ، الذي تختلف فيه الأمم، في الثقافات،
والحضارات، والمستوى المعرفيّ، والمستوى التقنيّ، وأشياءَ كثيرةٍ أخرى.
إنا نقول دائماً: أن الاقتداء برسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قبل
البعثة، هو أكثر مناسبةً لنا، لأنه كان مثالاً لرجلٍ عاديّ، لا يُوحَى إليه، كيف
كان يفكر، كيف كان يتعامل مع قومه، كيف كان يتأمل. هل قبل الوضع القائم كما هو؟ أم
أنه رفضه، واتجه إلى الله بالدعاء؟ إنه قدوةٌ لنا في هذا الحال، أكثر من بعد أن تَلقَّى
الوحي، وأصبح نبياً يُوحَى إليه.
وأصبح اقتداؤنا به أيضاً، مطلوباً بعد ذلك، يوم يتدانى إلينا وإلى مستوانا،
فيشاور أصحابه، ويغير رأيه، ويقبل رأي الآخرين، ويعيش بذاته، ويتعامل مع الناس، يتعامل
مع كل الناس، يتعامل مع اليهوديّ والمسيحيّ والمشرك والمؤمن، يتعامل مع الكل.
وحين يرفض أحد المشركين أن يكتب في صلح الحديبية، محمداً رسول الله، ويقول
له: لو أننا آمنا بك رسول الله، ما كان هذا الخلاف، وما كان هذا الصلح، وما كان
هذا العهد، فيقبل دون أي تردد.
إنه لا يفرض نفسه على أحد، ولا يتعالى على أحد، ويقبل من يخالفه، ومن لا
يعترف به، لا يهين أحداً، ولا يسب أحداً. وإنما نجد آيات الكتاب تُعَلِّمنا:
"قُلْ
يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ
مَا أَعْبُدُ، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا
أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ" [الكافرون1-6].
كل إنسانٍ، وكل جماعةٍ، وكل قومٍ، لهم دينهم، لهم عقيدتهم. وهذا، هو الوضع
الذي يجب أن نقيس عليه اليوم، ولا نقيس على مجتمعٍ أصبح كله متجانساً، بعقيدةٍ
واحدة، لأن اليوم، نحن ليس بيننا، وليس معنا، هذا المعنى الذي يُوحَى إليه، الذي
يسمع الناس حديثه. إننا اليوم أقوامٌ وأقوام، حتى إذا كنا جميعاً نقول: أننا ننتسب
إلى الإسلام، ومرجعنا القرآن والسنة ـ فإن الآراء كثيرة، والرؤى كثيرة، والتفسيرات
كثيرة.
إننا لو كنا ـ حتى كلنا ـ لنا مرجعيةٌ واحدة، فإن قراءتنا مختلفة ومتعددة.
فالمثل الذي يجب أن نقيس عليه، هو ما كان عليه الحال في بداية مجتمع المدينة، حين
بدأت الدولة الإسلامية. ونقول أفضل: الدولة التي أساسها أفراد المجتمع، وتَوافُق
هؤلاء، الذي قد نطلق عليه اليوم، الدولة المدنية. فليس كلها له نفس المعتقد، ولا
يستطيع أن يَدَّعي أحدٌ منها أنه هو الذي يملك الحقيقة.
ولذلك، فإن ما يجب أن نتوافق عليه، هو ما يجمعنا جميعاً. وحتى نتوافق،
علينا ألا ندخل في تفاصيلَ كثيرة، وإنما نتفق على مقاصد عامة، كلنا يؤمن بها،
وكلنا يعتقد فيها، لا ندخل في تفاصيل،
وإنما نتفق على المعنى العام، ثم ننظم هذه التفاصيل بالتوافق بيننا، فيما يُصلِح
حالنا، ويُقَوِّم أمرنا، ويُرضِي الجميع بيننا.
يكون ذلك، بالتواصي بالحق والصبر بيننا، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
بيننا، بما هو معروفٌ وبما هو منكرُ لذاته، وليس ترديداً لقولٍ سابق، ولا لحكمٍ
سابق. فواقع الأمر، أن أي حكمٍ في منتهاه، فيما يختص بوجودنا على هذه الأرض، فيه
مصلحة الجمع. وهناك عِللٌ عقلية، وأسبابٌ منطقية لهذا الحكم، وليس أمراً فوقياً،
لا عِلَّة له في الشكل وفي الموضوع.
وهذا هو الفارق بين الأمر الخاص بالإنسان وعلاقته الروحية بربه، فهو أمرٌ
خاصٌ بالإنسان، وقائمٌ على أساس الإيمان بالغيب. فإذا أُمِر بالصلاة، فلأنه يؤمن
بالغيب، الذي يريد أن يقيم صلةً به:
"ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى
لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ..."
[البقرة 2 ،3]. فهذا،
قائمٌ على إيمانٍ غيبيّ.
أما إذا نظرنا إلى الشهادة، إلى الواقع الأرضي، فإنه قائمٌ على:
[أنتم
أدرى بأمور دنياكم](3)،
وقائمٌ على كشف القوانين الكلية، التي يستقيم بها أمر
الناس:
"إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"
[النحل 90].
فهذا
الأمر الإلهيّ، هو أمرٌ كاشف لما هو في فطرتك كإنسان، ولما تتقبله كإنسان. ونحن، نجد ذلك جميعاٌ، في أي إنسانٍ، حين يرى ميزان العدل، فإنه يقبل، لو
شعر بأن هذا الأمر قائمٌ على الناس جميعاً، ومُطَبقٌ على الناس جميعاً دون تفريق،
فإنه يقبله أياً كان. فهذه الصفة، الموجودة في الطبيعة البشرية، من قبول العدل،
وأمر الله للناس أن يقيموا العدل ليستقيم حالهم، إنما هو كشفٌ عن فطرةٍ قائمةٍ
فيهم. لذلك، كانت أوامر الله، كاشفة لقوانين الحياة، ولفطرة الإنسان التي أنشأ
الله الناس عليها.
لذلك، فإن الميزان الذي تزن به الأمور، هو أن تسمع الآية، فتجد صداها في
قلبك، في فطرتك. أما إذا سمعت تفسيراً للآية، لا يجد صدىً في قلبك، ولا يستسيغه
عقلك، فلا تستطيع أن تقوم فيه بصدق. ومن ثَمَّ، لا يجب أن تقوم فيه، لأنك لن تكون
صادقاً وأنت قائمٌ فيه.
قد تسأل، قد تدعو الله أن يكشف لك إن كنت حائراً، إن كنت شاكاً في أنك ربما
تكون مظلماً، عليك أن تدعو الله أن يكشف لك الحقيقة. وإلى أن يكشف الله لك الحقيقة،
فإنك لا تستطيع أن تكون مُقَلِّداً، أو أن تكون مطبقاً لشيءٍ لا تفهمه ولا تعقله
ولا تستحسنه. وهذا، هو حكم الله في واقع الأمر.
حكم الله يأمرك ألا تفعل إلا ما تعقل. بل أننا نؤدي ذلك تلقائياً في أحوالنا.
حتى الذين يتكلمون بأن هذا هو حكم الله، فإنهم حين يقولونه، يحاولون أن يقنعوا به
الناس، بأنه الأفضل والأحسن والأقوم، يحاولون أن يعللوا الحكم، وكيف أنه يؤدي إلى
صلاح الناس.
إذاً فهذه قضيةٌ تلقائية في الإنسان، لا يستطيع إنسانٌ بطبيعته أن يقول:
أن هذا هو حكم الله، وأنا لا أراه منطقياً بعقلي، ولا قيمة له، ولكني أنفذه لأنه
حكم الله. بل أنه يحاول جاهداً، حتى إذا كانت محاولاته فاشلة، أن يبحث، وأن يقول،
وأن يعلل من وجهة نظره، وبافتراضه ما سيكون في المستقبل، وما سينتج عن تطبيق هذا
الفعل، برؤيته أن هذا الحكم هو الأفضل والأحسن والأقوم. إذاً، فالعقل يدخل في هذه
العملية، شئنا أم أبينا. ولذلك، نجد اختلافاتٍ كثيرة.
لذلك فنحن في حاجةٍ، إلى أن نقبل هذا الاختلاف. والطريق الوحيد لنتعايش معه،
هو أن يُقدِّر كل منا الآخر، ونبحث عن المشترك بيننا، حتى يعيش الكل في أمنٍ وسلام،
ونبحث عما يُصلِح مجتمعنا. وهذا هو أمر الله، وهذا هو حكم الله. وكما قال أحدهم: [إخبرني
عن مصلحة الناس فستجد شرع الله فيما فيه خير الناس](4).
فإذا أردت شرع الله حقاً، فابحث أولاً عما فيه خير الناس، فسوف تجده مطابقاً
لما أمر به الله، لأن الله كشف في أوامره عن هذا الخير، ولكن لا تحاول أن تبدأ
بفكرةٍ لا تعرفها، ولا تعرف أثرها، ولا تعرف نتيجتها، ثم تصمم أنها هي شرع الله. فوجب
عليك أن تجد الخير على أرضك، والمصلحة على أرضك، فسوف تجد في هذا الذي هو خير، شرع
الله الذي تبحث عنه، فتتضح لك الآية واضحةً جلية، وهذا هو قانون الحياة.
وقد ضرب الله المثل لنا في ذلك، في آياتٍ كثيرة، تكلمت عن أشياءَ لا يعرفها
السابقون، من ظواهر كونية، أو ظواهر إنسانية، أو قضايا علمية. قرأ الناس الآيات
بصورةٍ أخرى، وفهموها بصورةٍ أخرى، لا بأن بحثوا في الآيات فعرفوا، وإنما بحثوا في
الأرض فعرفوا، وحين قرأوا الآيات، وجدوا ما عرفوا، فاطمأنت قلوبهم.
عباد الله: نسأل الله: أن
يوفقنا لما فيه خيرنا، ولما فيه صلاحنا.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن
نقوله اليوم: أن علينا، أن نبحث عما يجمعنا، وعما يوحدنا، وعما يجعلنا أكثر عملاً،
وأكثر تكافلاً، وأكثر إتقاناً، وأكثر تكاتفاً ـ حتى نكون أمةً صالحةً.
فإذا كنا نقرأ رسالة الحياة، في سنة رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ
فسوف نجد الكثير الذي يناسب عصرنا، يوم ندرك المقصد الكليّ، لا أن ننظر إلى الأمور
الجزئية، حتى لو كنا مجتمعاً، كله له مرجعيةٌ واحدة.
إلا أن الاختلاف وارد، وهذا ما نراه اليوم، ومن ثَمَّ فعلينا أن نعالج هذا
الاختلاف، بألا يتطرف فريقٌ فيما يعتقد، ويريد أن يفرضه على الآخرين، وإنما في أن
نجتمع كلنا على مقاصد كلية، فيما يخص حياتنا ومعاملاتنا وأحوالنا، وأن نبحث بعد
ذلك، عن كيف نُطَبِّق هذه المقاصد في مجتمعنا، بما فيه صلاح المجتمع، فيما يجعله
أحسن وأقوم وأصلح، وأن نَعْلَم أن ذلك هو شرع الله.
سوف نجد شرع الله، فيما يُصلِحنا، وفيما يُجَمِّعنا، وفيما يجعلنا قوةً في
الخير وفي الصلاح وفي الفلاح، فيما يجعلنا مثلاً صالحاً لأممٍ غيرنا، فيما يجعلنا
متكاتفين، فيما يجعلنا يُعلِّم بعضنا بعضا، ويساعد بعضنا بعضا، فيما يجعلنا أمةً
تبحث عن الحق والخير في كل أحوالها، لا يسخر قومٌ فيها من قوم، ولا يهين قومٌ فيها
قوماَ، ولا يستعلى قومٌ فيها على قوم، إنما يبحث الكل عن الحقيقة.
عباد الله: نسأل الله: أن
يحقق لنا ذلك، وأن يجعلنا أداة خيرٍ وسلامٍ ورحمة، لنا ولمجتمعنا، وأن يجعلنا نفيق
إلى الحقيقة، ونرجع إلى أصولنا، ونعرف أن الحق لا يكون حقاً، إلا يوم نراه في
داخلنا، وفي فطرتنا. يوم نعكس البصر إلى داخلنا فنراه، يوم نبصر ما في أنفسنا،
فسوف نجد الحق حقاً، والباطل باطلاً.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه الناس حولنا.
اللهم ونحن نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك،
لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا
حاجةً لنا فيها رضاك إلا قضيتها.
اللهم وَلِّ أمورنا خيارنا، ولا تُوَلِّ أمورنا شرارنا.
اللهم اصلح أحوالنا، حكاماً ومحكومين، رواداً ومرودين، قواداً ومقودين.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
_________________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق