حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا سيدي يا رسول الله.
الحمد لله، الذي جعل لنا بيننا حديثاً متصلاً، نتواصى فيه بالحق والصبر بيننا، نتدبر فيه أمور ديننا، أمور حياتنا، أمور وجودنا، أمور طريقنا، نقرأ فيه آيات الله لنا، وما كشف لنا من أسراره ومن قوانينه ومن حكمته، فيما أمرنا به، وفيما نهانا عنه.
وشرع لنا من المناسك ما فيه رسالةٌ دائمةٌ لنا، لا يمسها تحريف الكلمات، أو النقل، أو سوء الفهم. مناسكٌ ينقلها إنسانٌ إلى إنسان، تتمثل في أفعالٍ يأتيها، وأمورٍ يقوم بها، فتكون هذه الحركات والمناسك والأفعال، رسالةً دائمةً للإنسان، ليتأمل ويتفكر ويتذكر رسالته على هذه الأرض.
وشرع لنا من المناسك ما فيه رسالةٌ دائمةٌ لنا، لا يمسها تحريف الكلمات، أو النقل، أو سوء الفهم. مناسكٌ ينقلها إنسانٌ إلى إنسان، تتمثل في أفعالٍ يأتيها، وأمورٍ يقوم بها، فتكون هذه الحركات والمناسك والأفعال، رسالةً دائمةً للإنسان، ليتأمل ويتفكر ويتذكر رسالته على هذه الأرض.
ومناسك الحج، فيها الكثير من الرسائل ــ كما نتذاكر دائماً ــ وقد أشرنا في أحاديث سابقة، عن معاني للطواف والسعي، وهناك مناسك أخرى، منها الوقوف بعرفة، ورمي الجمرات، والهدي، والتقصير، كلها تحمل رسائل. وحديث رسول الله ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ "الحج عرفة"(1). والوقوف بعرفة، أساسه التلبية، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
إن الله يوم خلقنا على هذه الأرض وأوجدنا، وضع لنا هدفاً نحققه،
"وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"[الذاريات 56].
فالتلبية، هي تلبيةٌ لهذا الهدف، هل تريد حقاً أن تكون عبداً لله، إذا أردت أن تكون حقاً عبداً لله، فعليك أن تعرف، عليك أن تتعارف.
والمعرفة، تحتاج إلى علمٍ، والعلم يحتاج إلى بذل جهد، ويحتاج إلى صدقٍ في الرؤية، وإلى إعمالٍ لكل ما أعطاك الله من إمكاناتٍ وقدرات، من تمييزٍ بالقلب، ومن تأملٍ بالعقل، ومن عملٍ بالجوارح، وقبل كل ذلك، يحتاج إلى توفيق الله، ويحتاج أن تكون متعاملاً مع الله، وأن تكون متجهاً إلى الله، وأن تكون ملبياً لله.
ومناسك الحج متداخلة، كل منسكٍ يؤدي إلى الآخر، فنجد الطواف يسبق وقوف عرفة، ونجد الطواف يلحق بوقوف عرفة. أنت تحتاج لتلبي حقاً، أن تكون متعاملاً مع الله في كل أمرٍ في حياتك. وهذا، معنى من معاني الطواف، حيث تكون في بعدٍ ثابتٍ من المركز، وهو البيت، في طوافٍ حوله، في كل نقطةٍ في مسارك وفي طوافك، كل نقطةٍ تعبر عن موقفٍ لك في الحياة، وعن حالٍ لك في هذه الدنيا.
فعليك، أن تكون كذلك، حتى تُعِدّ نفسك للتلبية، وأن تمارس السعي بين الصفا والمروى كذلك ــ كما شرحنا في حديثٍ سابق ــ فكلما صفوت ارتويت، وكلما ارتويت صفوت، فتكون بعد ذلك أهلاً لأن تلبي، لبيك اللهم لبيك.
تقف بعرفة، فلا يكون هناك شاغلٌ لك، إلا أن تدعو الله، وأن تذكر الله، وأن تسبح بحمد الله، وأن تذكر نعمة الله عليك، وأن تسلم وجودك لله. إن الحمد والنعمة لك والملك، تحمد الله كثيراً أنك وصلت إلى هذا الحال، الذي تلبي فيه، تلبي فيه حقاً، ليس مجرد أنك صعدت بجسدك أو وقفت بجسدك، إنما أصبح لسان حالك، أنك تدرك أن طريقك هي تلبيتك لنداء الله،
"وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا..."[الحج 27].
بعد هذا الحال، الذي تظل فيه لبعض الوقت، من ناحية المنسك ـ والذي هو قد يكون حالاً لك، من أحوالك في سلوكك في طريق الله، فكل منسكٍ من مناسك الحج، هو حالٌ من الأحوال، قد تجتمع جميع كل هذه الأحوال في الإنسان، فالطواف حال، والسعي حال، والوقوف بعرفة حال ـ فإذا غربت الشمس، لتبدأ يوماً جديداً، في حالٍ من الحجاب، بَدَأْت رحلةً أخرى في هذا الحجاب.
رحلة جهاد، رحلة مجاهدة، رحلة تعاملٍ مع نفسك الأمارة بالسوء، رحلة التعامل مع شيطانك، [كل ابن أنثى مسه الشيطان إلا ابن مريم](2)، [إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم](3). تبدأ رحلةً، في طريقك إلى مقاومة هذا الشيطان، إلى رمي الجمرات، إلى الجمرة الكبرى، إلى العقبة الكبرى.
العقبة الكبرى، هي في إحساسك بذاتيتك، في إحساسك بنفسك. تحاول وأنت في طريقك إلى القيام بهذا المنسك، الذي يعبر عن هذا الحال، أن تتسلح بأدواتك، التي سوف ترجم بها هذا الشيطان فيك.
ففي مكانٍ متوسطٍ، بين عرفة ومنى، حيث توجد الجمرات، تنزل بمزدلفة، فتصلي الصلوات التي تُؤدَّى في جوف الليل، التي تُؤدَّى وأنت في حجاب، فتجمع بين المغرب والعشاء، متجهاً إلى الله، أن يعينك في طريقك إلى مقاومة نفسك، وبعد أن تُؤدِّي الصلاة، تجمع الأدوات، تجمع ما سوف ترجم به شيطانك. إنه رمزٌ.
يُقال أن الوقوف بمزدلفة هو أمرٌ سنه رسول الله ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ لأن جميع مناسك الحج، كانت موجودة منذ إبراهيم ــ عليه السلام ــ ولم يكن فيها الوقوف بمزدلفة، يقول البعض ذلك.
فإن كان الأمر كذلك، فنحن نقول: أننا نفهم منه رمزاً، أنه عليك وأنت في طريقك إلى هذا الحال، وإلى هذا الموقف، الذي تُجابِه فيه شيطانك، أن تجمع في طريقك كل ما يُمَكِّنك من هذه المواجهة، إنها كل الأعمال الصالحات، إنها كل الدعوات، إنها كل الاجتماعات على ذكر الله، إنها كل شيءٍ يقربك إلى الله، إنها كل شيءٍ يساعدك على مُجابَهة شيطانك. فإذا وصلت إلى موقع العقبة الكبرى، رميت شيطانك بكل ما تحمله من أدواتٍ تُمكنك منه. فما تفعله، ما هو إلا رمزٌ لذلك.
وهذا أمرٌ أساسيّ، يساعدك أن تقوم بطواف الإفاضة، وقد رجمت شيطانك، فأصبحت أهلاً لأن تتلقّى فيوضاتٍ من الله، بل أن فيوضات الله، سوف تساعدك مرةً أخرى على رجم شيطانك، بل أنك يمكن في الحج، أن تقوم بطواف الإفاضة قبل أن ترجم العقبة الكبرى أيضاً.
ومن هنا ــ كما نقول ونتأمل ــ أن كل حالٍ يؤدي إلى الحال الآخر، فالترتيب هنا، لا يهم. المهم أن تبدأ أمراً، يؤدي إلى أمرٍ وحالٍ آخر، ثم يتكرر الحال بعد الحال. فإذا قمت بكل ذلك، ونحرت هديك، أمكنك أن تَتَحلَّل تَحَلُّلاً أصغر، لأنك وأنت حُرُم، تمثل السلام الكامل، والتسليم الكامل، فلا تفعل أي فعلٍ يُغيِّر من شيءٍ في وجودك أو في بيئتك.
إنك لا تملك شيئاً، إنك في سلامٍ دائم. إن الحمد والنعمة لك والملك، لا ملك لك، ولا فعل لك، ولا أمر لك، الأمر لله غيباً. وإذا كنت قد عرفت ذلك، وخَرَجَت كل ظلماتك إلى خارجك، وتتخلص منها بقص شعرك، رمزاً على أن كل ذنوبك قد خَرَجَت من داخلك، فتتخلص منها، لتدخل في أيام التشريق، في أيامٍ فيها يُشرق الحق فيك، فتستطيع أن تتعامل في حياتك مع كل المستويات التي تعوقك عن طريقك.
يرمز لذلك، التدرج في وصف الجمرات، فتبدأ برجم الجمرة الصغرى، ثم الوسطى، ثم الكبرى مرةً أخرى. إنك بعد أن أصبحت في هذا الحال، ورجعت إلى حياتك، سوف تقابل عقباتٍ بمستوياتٍ مختلفة، بأشكالٍ مختلفة، فقد تبدو أموراً صغيرةً بالنسبة لك، ولكنها قد تؤدي إلى ما هو أكثر من ذلك. فعليك أن تعرف، كيف أن تتعامل في حياتك، مع كل ما يعطلك عن اتجاهك، وتلبيتك لله، وللسير في طريق الله.
إنها رحلة حياة، إنها ترمز إلى حياة الإنسان على هذه الأرض، وليست مجرد مناسك تظن أنك بتأديتها بجسدك، قد غُفِر لك كل ذنبك. فالمغفرة الحقة، يوم تتغير أنت إلى الأفضل، وتتغير أنت إلى الأحسن، وكم من حاجٍ لم يرجع من حجه إلا بما هو أسوأ، وكم من حاجٍ لم يستفد من حجه إلا المشقة، ولم يرجع بأي شيءٍ، [إن قيل زرتم بما رجعتم * يا أكرم الخلق ما نقول
نسأل الله: أن يجعلنا جميعاً في حجٍ حقي، وأن يجمعنا دائماً على الخير.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا سيدي يا رسول الله.
________________________
الحمد لله، والشكر لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: هو أن الله قد شرع لنا من المناسك، ما يعلمنا حياتنا، وما يعلمنا سلوكنا على أرضنا. فالحج الحقيقيّ، أن نمارس ما تحمله هذه المناسك من معاني، في حياتنا، وفي طريقنا.
إنها ليست مجرد أيام نقضيها في مكان، ونؤدي فيها أفعال، ونقول فيها أقوال، ونمارس فيها شعائر، وإنما هي رسالةٌ دائمةٌ لنا، إن قمنا بها بأجسادنا، فإنا نرجو أن يكون هذا القيام، يجعلنا أكثر قدرةً على قراءتها، وإذا لم نقم بها بأجسادنا، فعلينا أن نقرأها بعقولنا وقلوبنا، وأن نتعلمها فيما يُنقل لنا، وفيما يُخبَر عما بها من معانٍ وما بها من رسائل.
عباد الله: إنا نحاول في كل أحاديثنا، أن نوضح ما تحمله شعائر ديننا من رسائلٍ لنا، وما نقوله ليس إلا تأمل، ممكن أن يتأمل إنسانٌ آخر غير ذلك، ولكنه تأملٌ، يساعدنا في حياتنا، وفي سلوكنا على أرضنا.
فإذا تمثّلنا كل حالٍ من أحوال الحج، وحاولنا أن نقوم فيه، في مرحلةٍ من مراحل حياتنا، فإن ذلك يساعدنا، أن نكون في طريق الصلاح والفلاح، وهذا ما نرجوه، وهذا ما نقصده وندعوه.
نسأل الله: أن يوفقنا لذلك، ويجعلنا أهلاً لذلك.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه الناس حولنا.
اللهم ونحن نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم لا تجعل لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلا قضيتها.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم كن لنا في الصغير والكبير من شأننا.
اللهم كن لنا فيما نعلم، وفيما لا نعلم، وفيما أنت به أعلم.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
"رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ"[آل عمران 193].
______________________________
(1) قال صلى الله عليه وسلم :الحج عرفة (صحيح ) أخرجه الحاكم – مستدرك الحاكم . وقال أصحاب السنن أيضا (أبو داود والنسائي والترمذي ) أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : الحج الحج يوم عرفه .
(2) حديث شريف "كل مولود من بني آدم يمسه الشيطان بأصبعه إلا مريم ابنة عمران وابنها عيسى عليهما السلام " مسند أحمد وأيضاً أخرجه كلاً من البخاري ومسلم بصيغ مشابهة.
(3) جاء الحديث في مسند أحمد بن حنبل بصيغ متعددة منها " ليس منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الشياطين قالوا وأنت يا رسول الله قال نعم ولكن الله أعانني عليه فأسلم " . وأيضاً " ما منكم من أحد إلا ومعه قرينه من الملائكة ومن الجن قالوا وأنت يا رسول الله قال وانا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم ولا يأمرني إلا بخير " وكذلك: " فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم قلنا ومنك يا رسول الله قال ومني ولكن الله أعانني عليه فأسلم " كذلك جاء بصيغ مختلفة عند مسلم والترمذي والنسائي والدرامي .
(4) من أشعار الصوفية. كما وورد في كتاب قلادة الجواهر لأبو الهدى الصيادي، صـ:(104، 109):" من كرامات أحمد الرفاعي: أنه في العام الذي توفي فيه رضي الله تعالى عنه، حج وزار قبره صلى الله عليه وسلم، ولما وقف تجاه القبر الشريف يريد الوداع أنشد: إن قيل زرتم بما رجعتم يا أشرف الرسل ما نقول؟ فخرج صوت من القبر الشريف سمعه كل من حضر في ذلك الروض المعطر، وهو يقول: قولوا رجعنا بكل خير واجتمع الفرع والأصول".h
ان قيل زرتم بما رجعتم يا اكرم الخلق ما نقول
ردحذفقولوا رجعنا بكل خير واجتمع الفرع والاصول