(2) تأملات من وحي يثرب
علياء رضاه رافع
استكمل
في هذه المقال ما بدأته في المقال السابق، حيث أنني قد أشرت الى أهمية هذا الكتاب
في وقتنا هذا من حيث أنه يعيد قراءة الرسالة الاسلامية مستلهما حياة الرسول وارشاده، ومؤكدا أن الرسول (صلعم) حيا في حياة
كل من صدق البحث وأحيا قلبه وقام الفطرة، ألا وهي قانون الله التي أودعها في قلب
الانسان منذ بدء خليقته، وعبرت عنها آية العهد " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن
بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ
عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا
أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ" ( سورة الأعراف، آية 172) وقد بدأ الفصل
الأول بتساؤل عن السبب في اتخاذ المسلمين
الهجرة بدءا لتأريخ مسيرة الاسلام، موضحا ما لهذا الحدث من أثر هام في استمرارية
الدعوة الاسلامية، ، متخذا من هذا التساؤل مناسبة
كي يناقش والدي السيد رافع محمد رافع مغزى أحداث أخرى لا تقل
أهمية، بل لها دلالاتها التي لا يمكن اغفالها.
ومن هنا يناقش والدي كيف أن تواجد الرسول (صلعم) ذاتا على الأرض حدث عظيم، لقد اشرقت الأرض
بنور ربها عند ميلاده عليه أفضل الصلاة والسلام، وبهذا وقبل بعثته فقد بدأت رسالته.
ويوضح ايضا أن الوحي ونزول الروح الأمين على الرسول (صلعم) هو حدث جليل، فمن خلال
تدعيم السماء كُشفت للرسول رسالته، وبدأت دعوته، فكأنه ميلاد جديد، وأما احتجابه
بصعوده الى الرفيق الأعلى، فلم يكن غيابا لوجوده فقد استمر متابعوه يحملون رسالته
نورا للعالمين، وهو بذلك مبعوثا قائما برسالته الى يوم الدين. وقد جاءت كلماته على
لسان أحد المريدين معبرة في بلاغة عما أراد أن يقوله في الفصل الأول من الكتاب. يقول
المريد حيي بن حنظلة مخاطبا الشيخ: " ... عرّفتم البعث أنه مولد ثان، وأن
الهجرة بعث ثان، وأن اختياره عليه السلام للرفيق الأعلى تكليف وتشريف بإرسال ثان،
فجعلتم من البعث مولدا ومن المولد بعثا، كما جعلتم من الهجرة جديد رسالة، ومن
اللحاق بالرفيق الأعلى قيام كتاب من رسالة ورسول ومرسل" (ص 24 )
وهذه
الكلمات الجامعة في بلاغة توضح قيمة كل
حدث في حياة الرسول من حيث هو تأكيد لبعثته ورسالته، فأياً ما كان الاختيار فإن كل
حدث مما مر به الرسول صالح أن يكون بداية لزمان.
************
من فيض زمزم
يجيء
الفصل الثاني في كتاب من وحي يثرب تحت
عنوان "من فيض زمزم: بكة تتكلم"
ومع كل عنوان لفصول هذا الكتاب نقرأ رسائل مضمنة. فهذا العنوان يوحي بتدفق
المعرفة من بئر اندثر قبل ميلاد الرسول، ثم أُوحي الى جد الرسول (صلعم) بمكانه،
فعاد للتدفق من جديد، فكانت من العلامات والارهاصات التي اشارت الى ميلاد رسالة
عظيمة، تتجدد بها رسالة ابراهيم عليه السلام، الذي تدفق هذا البئر على يد ابنه
اسماعيل.
لا
يشير اختيار عنوان "من فيض زمزم" الى تاريخ هذا البئر فقط، ولكنه يحمل في طياته بشرى، فحواها أن
المعرفة هي بئر يعطي دائما، ومن فيض مياهه المتدفقة تنتعش الحياة، وترتوي أرض
العقول والقلوب الظامئة. أي أن الهدي السماوي سيظل قائما في أناس يستلهمون قلوبهم
وعقولهم وأرواحهم، ويسيرون في الأرض ينشرون الخير والنور والمحبة والسلام، وما
أحوجنا الى فيض زمزم من جديد.
ان
قراءة التاريخ وماحدث فيه، يجعلنا نقرأ الواقع محاولين أن نضع أيدينا على جذور
تزييف الوعي وتغييب الرؤية. فعلى الرغم من أن والدي قد ترك الأرض جسدا في عام
1970، الا أن ما يحدث اليوم من أحداث لا يختلف كثيرا عما كان سائدا في منتصف القرن
المنصرم، وهو مماثل لما حدث قبل البعثة المحمدية التي جاءت في وقت كثرت فيه الحروب
وتصاعدت العصبيات القبلية. لقد أخذ هذا التنابذ اليوم صورا أكثر تعقيدا، اذ حلت
الدول محل القبائل، وُخلقت الصراعات السياسية تحت ستار أيديولوجي، ما لبث أن تحول
اليوم الى سيادة مطلقة لدولة عظمى، تفرض هيمنتها على العالم تحت شعارات براقة. وفي
نفس الوقت نلاحظ تصاعدا لخطابات دينية متشددة وحرفية في بيئة الاسلام وفي العالم أجمع،
مما دعا الكثيرين من المفكرين يدرسون متسائلين كيف يمكن درأ هذا الصدع الذي بات
يهدد الأسرة الانسانية بالدمار، اذا ما استمر الحال على ما هو عليه.
ان
قراءتنا لكيف كانت قريش قبل البعثة المحمدية، قد يبعث فينا الأمل أنه لا يأس من
رحمة الله. لقد أشرق نور محمد (صلعم) فأحال الليل نهارا وكشف الحجب وأزال الغمة.
وان الله قادر اليوم على أن تشرق الشمس مرة أخرى فتخرجنا من الظلمات الى النور. أن
هذا الفصل الذي يتحدث فيه المريد من فيض زمزم، يعرض أمامنا أحداث الماضي منعشا
الذاكرة بالأحداث التي حفلت بها سيرة رسول الله (صلعم)، فندرك أن الرحمة قد احتجبت
تحت طبقات من العذاب الظاهر، ولكن كلما بدت المخاطر كاسحة، كلما أعقبها نصر عظيم،
ظاهري وباطني. كانت الهجرة هي سبيل الخلاص من تهديد بقتل محقق، وفي نفس الوقت
بداية لمرحلة جديدة، انتشر بها ومنها الاسلام. ثم كان العدوان من قريش وحلفائها من
القبائل يهدد استمرار الدعوة والرسالة، ولكنه أدى الى غزوات مهدت لفتح مكة، وتطهير
البيت الحرام من كل دنس، وأصبحت الكعبة قبلة خالصة للمسلمين، وصارت رمزا لوحدة
الهدف والغاية التي تعبر عنها رسالة الاسلام.
ما أشبة الليلة
بالبارحة
نحن
اليوم نواجه مذاهب شتى، ورؤي متعددة كل منها يدعي الحقيقة، وكل منها يدعي التحدث
باسم الاسلام "الصحيح"، بما يتضمنه هذا القول من أن كل مخالف للرأي
والرؤية يتحدث عن اسلام آخر "منحرف". لانشترك مع هؤلاء في هذا التوجه،
ولكن نريد أن نضع أيدينا عما يجعل أي انسان يخرج عن منهجية الوعي الديني الذي يؤكد
على البحث المستمر وعلى الجهاد في تزكية النفس بصورة لا تعرف الكلل أو الملل، الى
هذه النمطية التي تسجن الفكر والروح معا.
لعل
أول ما يواجهنا في هذا الصدد هو تجسيد المعاني في كل الأمور، فيعبد الناس الله على
حرف، ويتمسكون بالأشكال والصور وينسون الجوهر والرسالة، مما يجعل الدين كلمات
جوفاء، خالية من الحياة.
يقول
حنظلة بن حيي في الفصل الثاني متحدثا الى شيخه : " يا سيدي ان قلب العارف من
أمته (يقصد أمة الرسول صلى الله عليه وسلم) يقطر دما.. ويرتضي أن يستبدل بالبصر
العمي .. يصم الآذان عما يسمع من لهو باسم القرآن، ومن زيوع باسم الفرقان، ومن
انحراف باسم الطريق، ومن جلبة باسم الحجيج، ومن مهاترة بإسم النجوى، ومن جهل بإسم
الفتوى، ومن مجون بإسم التقوى، ومن ثرثرة بإسم الصلاة، ومن التواء باسم الزكاة."
(ص 44)
ان الحال الذي نحن عليه في الأرض – ليس فقط
المسلمون ولكن الكثيرون من من أهل الكتاب ومتبعي الرسل - الا القليل- يجسدون
المعاني ويخلقون صورا زائفة هي اصنام العصر، مصنوعة من القوة والتسابق على قهر
الآخر، والاعلاء من قيمة المادة، والاستعلاء على الآخرين باسم المعرفة. لقد بدأت
هذه الفرقة من قديم ولكنها ظهرت في صور متجددة عندما احتقر الغرب الشرق وتناسوا
أنهم لم يقيموا نهضتهم الا من قيم الحضارة الاسلامية العظيمة، وزعم البعض أن
الحداثة بما فيها من قيم العقل والعلم تتعارض مع الدين، وتناسى هؤلاء أن الدين
يدعو الى العلم والمعرفة " قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق".
وها نحن نشهد نظرية صدام الحضارات التي تؤكد أن
العالم الغربي لا يمكن أن يتصالح مع حضارات العالم الأخرى أو مع المجتمعات
التقليدية. واذا كان هذا فيه جانب من الحقيقة، ولكنه يضع ايضا طبقات من الخداع على
هذا الواقع. حقا أن العقل الخرافي الذي يجسد الغيب، ويحصر المطلق في المقيد،
ويدافع عن الجهالة باسم الدين لن يتصالح مع قيم تدعو الى نسبية المعرفة، والاتجاه
الى مصلحة البشر، والدفاع عن حقوق الانسان في التعبير والعقيدة، وعدم تغييب
الواقع، وحل المشكلة من خلال دراستها ومعرفة أسبابها الوضعية. ولكن في نفس الوقت وضع العالم الاسلامي كله في
سلة واحدة، ودمج الرؤية التي تنتسب الى الاسلام في رؤية واحدة فيه اجحاف وتجني
وظلم بيّن. كما أن حضارة الغرب لا تخلو من الروح
أيضا، ووصمها بأنها حضارة مادية بشكل مطلق فيه أيضا مبالغة.
نحن
اليوم في عالم المسلمين بين شقي الرحي، اما متعصبون لا يرون من الدين الا الحروف
والأشكال، ويريدون أن يفرضوا فهمهم وعقيدتهم متوهمين أنهم يحملون راية الحقيقة
والدين ، وإمّا متغربون عن الواقع، ويرون في قيم الغرب الاله الأوحد والمثل
الأعظم، وفي كلا الحالتين يغيب الفكر النقدي، والرؤية الواقعية والبحث عن الأفضل
والأحسن وبذلك نهجر الارشاد النبوي الذي يؤكد لنا أن "الحكمة ضالة المؤمن".
لماذا وصل حال المسلمين
الى ما وصل اليه؟
واليوم
ونحن نواصل مسيرتنا في مناقشة بعض مما جاء في هذا الكتاب من قضايا، نتعرض للأسباب
التي تجعل رسالة الاسلام التي بدأت مع تلقي آدم من ربه كلمات، والتي استمرت الى أن
جاء سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام تُحجب عن القلوب والعقول، ويأخذ الناس دائما
رسالة الله كي يدعوا الى الجهالة باسم العلم والدين. انه أمر تكرر في تاريخ
الانسانية، ومازال قائما.
ان
محاولة استكناه أسباب تدهور حال المسلمين حضاريا وعقائديا موضوع يعّز عن الاحاطة
بكافة جوانبه، ولكننا نجده موضوعا متكررا في صفحات هذا الكتاب. وفي كل فصل ستكون هناك اجابة لتكمل ما جاء في
الفصول الأخرى.
نجد
أن البداية هي وضع حجب تحول بين الانسان وبين قلبه، وبين الانسان وبين ربه. ان هذه
الحجب يخلقها الانسان عندما تصبح الوسيلة غاية، فلقد قال القدماء أنهم ما يعبدون
آلهتم الا لتقربهم الى الله زلفى، ولكنهم لا ينفون عن انفسهم عبادة هذه الآلهة،
فيقعون في تناقض مع انفسهم، " وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ
أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى"
(سورة الزمر39: 3)
ويحاورهم القرآن قائلا: وَلَئِن سَأَلْتَهُم
مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ" " وَلَئِن
سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا
يَعْقِلُونَ " (سورة العنكبوت 29: 61، 63) وَلَئِن
سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ
إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ
كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ
مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ"
(سورة الزمر39: 38)
اذن
الاقرار اللفظي بوحدانية الله ليس كافيا كي يكون الانسان مدركا لمعاني وأغوار هذه
الوحدانية. والادراك هنا، ليس ادراكا عقليا فلسفيا، ولكنه ادراك يستهدف المعرفة
والسلوك معا. وأما المعرفة فهي التخلص من
الأوهام "أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ
ضُرِّه؟" انه الوهم الذي يزّين لنا أن كائنا من كان ينفعنا أو يضرّنا، أو قوة
ما هي التي تفيدنا. فإذا كانت الأصنام في صورتها القديمة واضحة المعالم في أوثان
حجرية، فإن الأصنام الفكرية أشد خطرا وأعمق أثرا في تشكيل علاقاتنا الانسانية
والاجتماعية والسياسية، وهي أوهام نعطي لها صفة الديمومة والقوة والقدرة. تتنوع
أشكالها، وقد يتفق الجميع أن المال والجاه والحكم والسلطة قد تعرقل مسيرة الانسان
اذا ما أصبحت أهدافا في ذاتها، ولم تتخذ وسيلة للعطاء والخدمة، ولكن أن تكون
المفاهيم الدينية هي أيضا أوهام خلقناها لنعبدها، فهذا ما خلق شباكا فكريا
وايمانيا بين الفرق والنحل في تاريخ المسلمين، وهو ما زال مثار جدل بين الحْرفيين
وبين من يسعون الى اختراق الشكل الى المعنى والجوهر. يصرّ من اختصروا الدين في
الأشكال أن منتهى التدين هو اقامة الشعائر، متناسين أن الشعائر هي وسائل يسبقها
استقامة وعي وفهم وايمان. ويختصر هؤلاء الايمان الى اقرار باللسان بوجود اله واحد،
دون ان يكون الله قبلتهم ومقصدهم قولا وفعلا، نية وقصدا. ويجعلون من أنفسهم آلهة
يتحدثون باسم الله، متناسين أنهم خلق الله قد يخطئون وقد يصيبون. وحتي اذا قالوا
أنهم عباد الله بأفواههم فإنهم يقررون باسم الله من يستحق العقاب ومن يستحق
الثواب، ولا يتوارون خجلا أمام الله المطلّع على الأفئدة سبحانه وتعالى. والبعض
ينصب نفسه وكيلا على رسالة الله ودعوته، فيظن أن القوة هي اعتلاء الحكم، وأن
الجهاد رفع السلاح، وينسى أن الدعوة الى الله دائما بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن
المؤمنين يتواصون فيما بينهم بالحق والصبر، ومع غيرهم بالتي هي أحسن.
أن
التاريخ قد بنى حجبا كثيرة بيننا وبين دعوة الحق، فتواري الحق تحت سرابيل من
الزيف، خُدع بها الأولون، وها نحن اليوم
به مفتنون.
و
أما السبب الآخر فهو التمسك بالقشور وتجاهل لُّب الأمور، وهو ما يعبّر أبي عنه في
حديثه عن قريش وانحراف عقيدتها، وكيف عادت بعد اسلامها الى جاهليتها(ص 28(:
"... يسكنون الى البيت يطوفونه،
وآلهتهم فيه يؤلهونها ويعِّبدون أنفسهم
لها زُلفى لرب البيت.. يتمثلونه بيتا لله مقصودهم آلهتهم فيه يقدسونها
فيجعلون منها حجبا بينهم وبين رب البيت، وهم على ذلك كانوا قبل الاسلام لمحمد
(صلعم) ولربه. واليه عادوا بعد غيبة محمد (صلعم) عنهم بذاته التي أسلموا اليها،
ولم يؤمنوا بها أو بمعانيها، كما لم يدركوا المراد من أمره، أو أمر ربه لهم أو
للبشرية عن طريقهم"
يهمني
في هذا السياق أن أقف متأملة ما أراد أبي قوله بأن أهل قريش- وهو في الواقع يعبر
عن حال المسلمين عامة – لم يؤمنوا برسول الله معنىً، وان أسلموا له ذاتا. وأتساءل كيف يكون الايمان برسول الله، أو ما
معنى أن نؤمن برسول الله؟
وللاجابة
على هذا السؤال جزئيا، فلنتأمل كيف آمن أهل قريش بالرسول؟
لقد قاوم القرشيون دعوة الرسول، حتى هاجر الى
المدينة بعد أن فقد عمه أبو طالب، وبذلك فقد الحماية التي كان يوفرها له تبعا
للأعراف القبلية، وأصبحت حياته في خطر محدق. وآمن به أهل قريش بعد أن جاء مكة
فاتحا. فلم يكن ايمانهم الا تسليما بقوته وتعاظم شوكته. وعندما غاب الرسول جسدا،
عادت القبلية سريعا، وتقاسم المهاجرون مع الأنصار ادارة دولة الاسلام، فاتفقوا أن
تكون الخلافة بين المهاجرين، والوزارة بين الأنصار، ولكن ما لبث الأمر أن انقلب
الى صراع صراح، حينما أصر معاوية أن يحتفظ بالخلافة، متجاهلا فضل الامام علي ابن
أبي طالب (كرّم الله وجهه)، ومعيدا الصراع بين أمية وهاشم مرة أخرى الى حلبة
الاسلام، وبذلك تحولت خلافة بني أمية الى ملكٍ، وتوارث آل أمية هذا الملك لمائة
عام. وعاش الاسلام في قلوب الناس، خالقا حضارة عظيمة، ولكن في نقس الوقت ظهر كثير
من الالتباس، وتآزر الفقهاء مع الحكماء، فاختلطت الأمور، وغابت رسالة الاسلام التي
جاءت من أجل تحرير الانسان من الأوهام. فكيف يمكن أن يكون الايمان بالرسول قائما،
بينما تشوهت الرسالة التي جاء بها؟
اذن
لقد غاب الاسلام الا من قلوب العارفين المتقين المتعبدين المقتدين بأخلاق سيد
العالمين في الأولين والآخرين.
وأقف
مشدوهة أمام فقرة من فقرات الكتاب، حيث يلخص أبي ما حدث في صورة بلاغية تشبيهية،
شديدة الدقة فيقول عن أهل قريش، وايضا متوجها الى كل من تبع طريقهم:
لقد قاوموه حاقدين بوصف المكذبين
وتابعهم رعاهم من المخدوعين والمقهورين، فلما تغلب عليهم، طعم كبراؤهم الثمرة
فازدروها، وبينهم تقاسموها، وفي دنياهم طعموها، وعلى ذواتهم قصروها، والبذور
لفظوها، وفي الطرقات ألقوها، فمر الفقراء عليها فاستغربوها، وبلا شعور أخذوها، وفي
ارض قلوبهم الجرداء بلا وعي زرعوها، ثم انتبهوا اليها بإحساسها فيهم فتعهدوها،
فنمتهم فحيوها، فيها وجودهم ومعناهم أظهروها، وبوعي لها وبعلم عنها نشروها.. اذ
افتقدها الناس وقد غيبوها، وبعد طلبها الناس ففي الفقراء وجدوها"
"أما الكبراء فقد تحسسوا أنفسهم لم
يُحيوها.... فتساءولوا عن الجنة يلجوها، فقالت لهم عقولهم : لقد كنتم فيها
فتركتموها.. ..... .... ما فتحتم الآذان لما سمعتم، ولا القلوب لما أُعطيتِم،
فأخذتم العاجلة بعجلتكم، وتركتم الآجلة بغفلتكم.
لقد طعمتم الثمرة، وتركتم بذور الشجرة. فأخذها من رأيتموهم ضعفاءكم أو
سفهاءكم فسعدوها....
تساءلوا بينهم أين الله؟ فسمعوا عليهم من يقول لهم كيف تلاقوه ولم
تحسنوا لقاء رسوله.. كيف تتعارفوه ولم تتواصوه.. كيف تعرفوه ولم تعرفوا عبده.. كيف
يصلكم ولم تصلوه؟ ص 33
ان
هذه العبارات تشير في اقتدار الى افتتان المسلمين بالقوة والملك العضود الذي جاء
ثمرة لجهاد من ايقاظ الوعي، ونشر الخير والمحبة. فلم يكن رسول الله مستهدفا لملك
أو لحكم، وانما كان مُؤَتِمرا بدعوة للخير والمحبة، ترشد البشر الى غاية الحياة،
فلا يُفنوا حياتهم في وهم "الحياة" ويخاطبهم المولّى عز وجل : "لم
لا تستجيبون الى رسول الله وهو يدعوكم لما يحييكم". وكلما حاربوا دعوته انتشرت رسالته وتكاثر
المؤمنون بها الملتفون حولها، فدخل هذا الدين كثيرون، وكلما استمر الدفاع عنه ضد
العادين، كلمت قويت شوكته، وتأسس دولته. ولكن سرعان ما تفرق الجمع، وتفرقت بهم السبل،
وقامت الفتنة الكبرى من أجل الملك والحكم. وفُِتن الكثيرون واعتزل آخرون، وتبين
الطريق قليلون، ممن أدركوا ما وراء القشور، وأقبلوا على الآجلة يزدادون. ان هؤلاء
قد أدركوا جوهر الدعوة في تزكية النفس والقلب، واستقامة النية والعمل، فهم من
أخذوا "البذور"، سر التكاثر والنماء والبقاء، ولكنهم اختفوا عن العيون،
فلم يلق التاريخ بأضوائه عليهم، ولم يبال بهم من اهتم من الدين بمظهره، ولكن هؤلاء
في الخلق ما زالوا متواجدين، لا يدعون لأنفسهم، ولكن الى الحق دائما يتوجهون،
وعليه يجتمعون، وفي سبيل الله يجاهدون،
ولهذا لا نسمع لهم صوتا في العالمين، انما يبحث عنهم طالبو الحق بصدق وبيقين. ولكن
اذا نظرنا حولنا لأدركنااأن ما تبقّى حولنا هو ربط الدين بالحكم وانشاء الدولة،
والتشدق بحلو الكلام دون تفكر في غاية الانسان، أو تدبر في اختراق الفجوة بين
الكلام والأعمال. ومازالت صورة انتصار الاسلام تتراءى للبعض في قوة البنيان وقد
ضعف، ولا يتنبهون الى أن الحضارة والقوة هي ثمرة لتزكية النفس، وحرية العقل،
وتطهير النية ليكون كل انسان متجها الى الرحمن، سائلا الغفران، طالبا الخير بالعلم
والعمل والبيان.
ندرك
اذن أن اسباب ضعف المسلمين هو أنهم قد عادوا الى جاهلية تحت شعار الدين، وقتلوا
قلوبهم وأرواحهم باسم التمسك بأشكال الدين. حقا كثرت مظاهر التدين من لباس واقبال
على الشعائر، ولكن دون روح، ودون قلب، لأن الوسيلة انقلبت الى غاية. وأصبح
الاهتمام بالحرف وليس بالجوهر، بالزي وليس بما يرمز اليه من معنى، بالمنسك في
كيفية الأداء، وليس في ايقاظ الروح بالدعاء. فكيف نقول اننا أمة محمد (صلعم) ونحن
لا نتبع رسالته، ولانرى الا ما وصلته اليه دولة الاسلام من قوة، وننسى أن هذه
القوة هي ثمرة، وأن الثمرة لا تجيء الا من خلال الاهتمام باللب، بالبذور، بالجوهر،
بسر الحياة في القلوب، بنور المعرفة في العقول، بالتطلع الى العون الدائم من خلال
العمل الداؤب الصالح، لأنه يتغيا الخدمة والمنفعة للناس أجمعين، للأسرة الانسانية
الواحدة، وان اختلفت الألوان والأجناس، والبلدان، والتعبير عن العقيدة.
ان
الدين حقا لاينفصل عن الحياة، ولكن ليس بالمعنى الذي يدعو اليه البعض من خلال
التطلع الى الحكم، ولكن لأنه اذا انتشرت ثقافة الايمان، اصبحت الحرية في أمان،
وتطلع الانسان كي يحقق معنى الانسان، وانطلق العقل الى آفاق المعرفة بلا حدود،
وأصبح اتقان العمل قيمة بلا قيود.
ان
هذا البيان فيه اضواء كاشفة، لعلنا منها نستفيد، ولبناء الحضارة مرة أخرى نعيد.
وليس
هذا هو كل ماجاء في فصل من فصول هذا الكتاب، ولكن هذا اجتهاد في ربط هذا الارشاد
بحركة الحياة في الحاضر والمسقتبل، ليكون لنا فيه مدد وامداد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق