حديث الجمعة
18 ربيع الأول 1436هـ الموافق 9 يناير 2015م
السيد/ علي رافع
حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً
عليك يا رسول الله.
الحمد لله الذي جمعنا على ذكره، وعلى طلبه، وعلى
مقصود وجهه.
الحمد لله الذي جعل لنا بيننا حديثاً متصلاً،
نتواصى فيه بالحق والصبر بيننا، نتدبر أمور ديننا وحياتنا، مدركين أن كل لحظةٍ نقضيها
على هذه الأرض هي لحظةٌ يمكن أن نكسب بها حياتنا، ويمكن أن نخسرها.
وكل هذا، يرجع إلى فهمنا وإلى عملنا، "فَمَن
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا
يَرَهُ"[الزلزلة 8،7]، "وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ..."[التوبة 105]، "وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ
لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ"[العصر 3:1]. لذلك، نجد آيات الله تصف لنا حال الإنسان على هذه الأرض، وتكشف عن القانون
الذي يحكم حياته.
فحين ننظر ونتأمل في هذه الآية الكريمة، سوف
نجد أنها تُجمِل حياة الإنسان على هذه الأرض، والقانون الحاكم لها، "وَالْعَصْرِ"،
رمزٌ إلى الزمن، وهو الزمن بين بلوغ الشمس لأقصى نقطةٍ لها في تعامدها على هذه الأرض، وبين
مغيبها عنها، وهي حياة الإنسان.
فإذا كانت دورة الأرض حول نفسها، ترمز إلى حياة
الإنسان ككل، فبزوع الشمس هو مولده، وغروب الشمس هو مماته، والظهر هو وصول الإنسان
إلى شبابه، وإلى قدرته على العمل، وعلى الذكر، وعلى الفكر.
فحياة الإنسان، وكسب الإنسان على هذه الأرض،
هو في مرحلة العصر. "وَالْعَصْرِ"، إنها حياة الإنسان التي يعطي فيها،
ويعمل فيها، ويكسب فيها، ويخسر فيها.
الإنسان حين لا يكون عنده إيمانٌ بمعنى حياته،
وبمعنى عمله، وبما يقدمه لمجتمعه، ولإنسانيته، الإنسان الذي يخلو قلبه من أي إحساسٍ،
من أي تذوقٍ لمعنى الحياة، الإنسان الذي لا يعرف من هذه الحياة الدنيا إلى مظهرها،
إلا معيشته عليها، إلا أعماله الدنيوية، إلا حاجاته البشرية ـ لا يعرف إلا قيامه الدنيوي،
ولا يفكر إلا في حاجاته الأرضية.
لا يعرف قيماً، ولا يعرف حباً، ولا يعرف رحمةً،
ولا يعرف تعاطفاً وتكافلاً وتعاوناً، لا يعرف كيف يُعطي، كيف يُعلِّم، كيف يُطَبِّب،
كيف يساعد، كيف يُعطي، إنسانٌ لا يرى إلا نفسه، إلا ذاته، "إِنَّ الْإِنسَانَ
لَفِي خُسْرٍ"، لأن كل إنسانٍ بطبيعته البشرية هو كذلك.
ولكن هناك من البشر من يفكرون، ومن يتأملون،
ومن يتدبرون، كما فعل كل الأنبياء والرسل في بداياتهم، لنتعلم منهم. فإبراهيم سأل عن
ربه، وبحث عن ربه. والبحث هنا، هو
بحثٌ عما يجب أن يقوم عليه في حياته الأرضية، بحثٌ عن حكمة خلقه، بحثٌ عن هدف خلقه.
وهذا، ما نعبر عنه دائماً، وتعبر عنه الآيات، ويعبر عنه كل من كتب وقال في هذا المجال،
بأنه البحث عن الله، ومعرفة الله.
فهنا، البحث والمعرفة لا يعني الإحاطة بالله،
أو أن تجد شكلاً أو صورةً وتقول أن هذه الصورة هي الله، أو كائناً أياً كان، وتقول
أنه الله، فتعالى الله عن أي صورةٍ، وعن أي شكل، "...سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
عَمَّا يَصِفُونَ"[الأنعام 100]، لا إله إلا الله المطلق، الغيب، الغير محاط، والمحيط. هو المحيط بكل شيء،
ولا يحوطه شيء، تعالى الله، وسبحان الله.
فبحثك عن الله، هو بحثك عن طريقك على هذه الأرض، وهذا هو الإيمان. "ذَلِكَ
الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ"[البقرة 3،2]، "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا
..."[الشعراء 227]، آمنوا بأن لوجودهم حكمة وهدف، وأنهم مخلوقون لتحقيق هذا الهدف، وأن تحقيق
هذا الهدف، هو من خلال عملهم الصالح على هذه الأرض، "..الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ..."[الشعراء 227]. فهنا، يكون العمل الصالح، هو ما يتبع الإيمان.
فيبحث الإنسان عن عملٍ صالح، فلا يجد أمامه إلا
أن يخدم الناس، وأن يساعد الناس، أن يأخذ بيد الضعيف، وأن يُعلِّم الجاهل، وأن يُطَبِّب
المريض، وأن يُعطي الفقير، وأن يساعد المحتاج، وأن يكون أداة خيرٍ لأرضه، ولمجتمعه،
ولإخوانه، وأن يكون أداة خيرٍ لنفسه، ولوجوده، فلا يؤذي فطرته، ولا يجرح روحه، ولا
يفرط فيما أعطاه الله من نعمةٍ.
لا يفرط في جسده الذي أعطاه الله ليؤدي به رسالته،
[إن لبدنك عليك حق](1). ولا يفرط في قلبه الذي أعطاه الله
إياه ليذكره، إن [القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد، وإن جلاؤها لذكر الله](2). ولا يفرط في عقله الذي أعطاه الله إياه ليميز بين الطيب والخبيث، وليتأمل
به في خلق الله ليتعلم، "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا
وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..."[آل عمران 191]، إنه يريد أن
يتعلم من خلق السماوات والأرض.
"قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا
كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ..."[العنكبوت 20]، هكذا يتحرك الإنسان على هذه الأرض بذاته، بقلبه، بعقله، مُقدراً نعمة الحياة
التي هي وراء كل هذه الأمور. وراء ذاته وقدرته على الحركة، وراء قلبه وقدرته على الذكر،
وراء عقله وقدرته على الفكر والتفكر والتدبر. لا يفرط في نعمة الحياة، من خلال عدم
تفريطه في كل أدواته التي تحركها هذه النعمة.
فلا يخطو خطوةً إلا في طريق الله، ولايقوم بعملٍ
إلا في طريق الله، ولا يذكر إلا الله، ولا يتجه إلا لله، ولا يسأل إلا الله، ولا يدعو
إلا الله، ولا يفكر إلا في خلق الله، فيما هو موجودٌ حوله، فيما يستطيع أن يفكر فيه،
لا تفكروا في ذات الله، وفكروا في آلاء الله(3)، "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ..."[الشعراء 227]. هذا، على مستوى الفرد، فيما يقوم به كفرد.
فماذا يفعل على مستوى الجمع، والمجتمع، والأمة،
والأخُوَّة البشرية، والإنسانية؟ "وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ..."[العصر 3]، التواصي بالحق يُجْمِل كيف يتعامل
الإنسان مع المجتمع. وهذا التواصي بالحق يُفسَّر في آياتٍ أخرى، "وَلْتَكُن
مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"[آل عمران 104]. فهنا التواصي
بالحق، هو كل هذه الأمور.
يتواصون في كيف يعيشون، وكيف يتعاملون بعضهم
مع البعض، كيف يُسَيِّرون حياتهم، كيف يتعاملون مع من يتعدى على حقوق الآخرين، وكيف
يتعاملون مع من يُعطي الآخرين ويساعدهم، كيف يميزون بين هذا وذاك.
ويدركون أن لكل شيءٍ وقت، فلا يتعجلون، وإنما
يضعون اللبنات الصالحة، ويضعون في الأرض البذور الحية، ويعلمون أن لكل شيءٍ وقت. فيتواصون
بالصبر، لا يتعجلون، وإنما يراقبون، ويصبرون حتى يروا نتائج أعمالهم، إن خيراً حمدوا
الله، وأكثروا من هذه الأعمال، وإن شراً بعدوا عن هذه الممارسات، وتعلموا درساً حتى
لا يكرروه.
عليهم أن يتعلموا من أخطائهم، وفي هذا كسبٌ كبير،
وعليهم أن يتعلموا من صوابهم، وهذا أيضاً كسبٌ كبير. وهذا، تفسيرٌ للحديث الذي يقول:
[من اجتهد فأخطأ فله أجر، ومن اجتهد فأصاب فله أجران](4). فأجر الذي أخطأ أنه تعلم فلا يكرر،
وتعلم مجتمعه بما فعل فلا يفعل مثله. والذي أصاب استفاد مجتمعه منه، كما أن عمله أعطى
فائدةً للجميع، فلذلك قال: له أجران.
عباد الله: إننا لو تمثلنا هذه الآية
الكريمة، وطبقناها في حياتنا، لعرفنا كيف نطبق الدين في حياتنا، لا كشيءٍ منفصلٍ عن
الحياة، وإنما كجزءٍ من الحياة، جزءٌ من فكر الإنسان، بأن يتبع الأسلوب السليم، والمنهج
القويم. لذلك، فنحن نقول دائماً: أن الدين منهجٌ، وليس شكلاً، وليس صورةً ـ منهج حياة. واتباع هذا المنهج، هو معنى الحياة،
وهو معنى الدين، فلا انفصال بينهما.
فالمُثل
العليا، والقيم العليا، والأهداف العليا، والمقاصد العليا، والمنهج الأعلى الذي يُظلل
ما يقوم به الإنسان، وما يضعه من سياساتٍ وقوانين تحكم علاقات الأفراد في المجتمع
ـ هذه هي العلاقة بين الدين والسياسة. فالدين، هو مظلةٌ ومنهجٌ، يظلل حياة الإنسان،
وحياة المجتمع. والإنسان منوط به أن يبحث فيما يجب أن يُصلِح به هذه الأرض، من خلال
تواصيه بالحق، وتواصيه بالصبر.
نسأل الله: أن يوفقنا في حياتنا، وأن نكون أهلاً
لرسالة الحياة، وأن نكون أداة خيرٍ وسلامٍ ورحمة لنا، ولبلدنا، ولأرضنا.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك
يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم:
أن في آيات الله ما يرشدنا ويعلمنا المنهج الذي نقوم به على هذه الأرض، دون أن يدخل
بنا في تفاصيل كثيرة.
لأننا لو اتبعنا المنهج، وتواصينا بهذا المنهج،
فإننا سوف نخرج بما ينفعنا على أرضنا، وبما يجعلنا من الصالحين. أما إذا فرطنا في أمر
وجودنا بأي شكلٍ من الأشكال، وبأي رسمٍ يُجسِّد المعاني ويجمدها، نكون بذلك قد خالفنا
المنهج الذي أساسه شهادة أن لا إله إلا الله، فنكون أيضاً من الخاسرين.
إن أساس التواجد والصلاح على هذه الأرض، هو في
إيمان الإنسان بالغيب، وإيمان الإنسان بالغيب هو في إدراكه أنه لا يحيط بكل شيء، فيشعر
بعجزه، ويشعر بضعفه، ويعلم أن هناك قوةً وراء هذا الكون، فيبحث من خلال ما أعطاه الله
من طاقات، عما يقدمه لهذه الأرض.
فيعمل عملاً صالحاً، ويجتمع على إخوانٍ له في
هذا المنهج، ليتواصى بالحق، وليتواصى بالصبر، يدعو إلى الخير، والخير أن يعيش الناس
جميعاً في سلام، وأن يقدم كل فردٍ ما يستطيع أن يقدمه لخدمة مجتمعه.
وأن يكون المجتمع قادراً على أن يحكم بين الناس
بالعدل. فالذي يعتدي يستطيع المجتمع أن يُقوِّمه، هذا هو الخير. فالحق هو الخير، والأمر
بما هو معروفٌ أنه الأفضل والأقوم والأحسن في حياة البشر، وهو النهي عن المنكر فيما
هو معروفٌ أنه يؤدي إلى فسادٍ وإفساد.
فهذا المعروف بما هو يؤدي إلى الخير، له أصولٌ،
وله وقتٌ ليؤتي بثماره. فعلينا أن نتواصى بالصبر، الصبر الجميل القائم على علمٍ، ومعرفةٍ،
وليس عن جهلٍ وتخبطٍ. هكذا، نتعلم منهج ديننا، الذي يكشف لنا عن قانون حياتنا، وقانون
أرضنا، وقانون وجودنا.
عباد الله: نسأل الله: أن نكون من "الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ..."[الزمر 18]، ومن الذين يقرأون كتاب الله قراءةً
عميقةً، مدركين أن الله يريد بنا اليسر، ولا يريد بنا العسر، يريد بنا الحياة، يريد
بنا السلام، يريد بنا النجاة، يريد بنا أن نكون أمةً صالحة، تأمر بالمعروف، وتنهى عن
المنكر، وتؤمن بالله.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا،
وتعلم ما عليه الناس حولنا.
اللهم ونحن نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك،
لا ملجأ ولا منجى إلا إليك.
اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من
حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين،
عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا
الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا
حاجةً فيها رضاك إلا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا،
يا أرحم الراحمين ارحمنا.
_______________________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق