حديث الجمعة
17 ربيع الثاني 1436هـ الموافق 6 فبراير
2015م
السيد/ علي رافع
حمداً لله،
وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
الحمد لله، والحمد دائماً لله، والصلاة والسلام
دائماً على رسول الله.
عباد الله: يا من ترجون لقاء الله، ويا
من تجتمعون على ذكر الله، ويا من تُكبِرون الله عن أي صورةٍ وعن أي شكلٍ، يا من آمنتم
حقاً برسالة الإسلام وهي تقول لكم في أنفسكم قولاً بليغا، تُكبِر ما أودع الله فيكم
من سره.
[ما ظهر الله في شيءٍ مثل ظهوره في الإنسان](1)، "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا
الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا"[الأحزاب 72]، "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً"[البقرة 30]، "..كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ..."[الإسراء 70].
رسالة الإسلام، التي هي رسالة الحياة، التي هي
دين الحق، التي جاء بها كل الرسل، ودعا إليها كل الأنبياء والأولياء وعباد الله الصالحين.
رسالة السماء، التي تخاطب الأرض دائماً في صورٍ كثيرة، حتى في هذا الذي نراه اليوم
من عنفٍ وقسوةٍ وإرهابٍ، باسم الإسلام.
تدعو الإنسان الذي يفكر ويتأمل، ليرفض هذا الفهم
الذي يؤدي إلى هذه الصور، حين يرفض بفطرته هذا العنف الناجم عن تفسيرٍ لفظيّ وشكليّ
وحرفيّ، دون وعيٍ ودون فهمٍ ـ مما يؤدي إلى هذا الفعل المرفوض.
إنها دعوةٌ لكل إنسانٍ عاقل، أن يرفض هذا المفهوم
الذي يُوصِل الإنسان إلى هذا الحال، الذي يفقد فيه إنسانيته، ويفقد فيه فطرته، ويفقد
فيه عقله، ويفقد قلبه، ويفقد ضميره ـ يبقى كآلةٍ بُرمِجت بمفهومٍ عنيف، بظن دين وبظن
إيمان.
إنها رسالةٌ من الله، ليعلم الناس جميعاً كيف
يمكن أن يكون حالهم، يوم يفقدون عقولهم وقلوبهم وفطرتهم ـ يصلون إلى هذه الحالة التي نراها
اليوم، والتي يدعو إليها بعض الناس أيضاً، بدرجاتٍ أقل، باستخدام
نفس المنهج الذي يُبطل العقل ويُبطل قدرة الإنسان على التمييز، فيجعله مجرد أداةٍ تقبل
أي أمرٍ باسم الدين وبظن الإيمان.
هذه مشكلة كل زمان، في عدم أمانة الإنسان، بقصدٍ أو بغير قصد، يوم
ينقل حديثاً بمفهومه هو، وينسبه إلى من هو أعلى. وهذا ما أصاب الأمة في تاريخها،
يوم انتشر الذين يكذبون على رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ.
مما دعا البعض، الذين كانوا يعتقدون أنهم يقومون
بعملٍ فيه صلاح الأمة، بأن وضعوا معايير لنقل هذه الأحاديث. وإن كان هذا المنهج الذي
اتبعوه، قد كشف تزوير الكثير من هذه الأحاديث المنقولة، إلا أنه سَمح ببعض النقل من
أناسٍ قد يكون مشهوداً لهم في صدقهم.
ولكن لا يستطيع إنسانٌ، ولا أي منهجٍ بشريّ، أن يحكم على مدى دقة فهم الإنسان لما ينقله. فهو أمينٌ في حياته وفي معاملاته، ولكن عقله وفكره وقدرته على الإدراك قد تكون، بل هي قطعاً، في كل إنسانٍ غير متساوية.
فقد ينقل الحديث بمفهومه، فيعمم أمراً خاصاً،
وهو لا يكذب فيما ينقل، وإنما هذا هو ما فهمه، وقاله بظنٍ، بل بظن صدق، أنه ينقل تمام
النقل. وربما نقل شيئاً، ما كان يجب أن يُنقل، لأنه خاصٌ جداً بإنسانٍ ما، أو بالعصر
الذي قيل فيه، فأصبح لا محل له في عصرٍ آخر. وبالوقوف أمام هذه النصوص موقف العاجز،
بظن إيمانٍ وبظن إكبارٍ لرسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ، اختلطت الأمور.
وحين ننظر في تاريخنا، نجد أن أقرب الناس لرسول
الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لم ينقلوا عن رسول الله الكثير، لأنهم كانوا يخشون
مما نراه اليوم، في أن يَنقل عنهم أناسٌ آخرون هذه المقولات بفهمهم هم، وينسبوها إليهم،
ومن ثم إلى رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ.
لذلك، نجد أن توجيه رسول الله ـ صلوات الله وسلامه
عليه ـ: [بأن لا يكذب عليه أحد](2)، وتحذيره من هذا، بحيث يخاف كل إنسانٍ أن ينقل شيئاً، لأنه
قد يسيئ في نقله. كان هذا التوجيه، حتى لا يحدث ما نحن فيه الآن.
فالدين بشقه الروحيّ المعنويّ الغيبيّ، في علاقة
الإنسان بربه، وسلوكه الروحيّ على هذه الأرض، تم نقله من خلال الفعل، متواتراً على
مر كل هذه السنين.
فالصلاة برموزها، وأشكالها، وسكناتها، وحركاتها
ـ حُفِظت بالفعل وبالتواتر، بحيث تبقى رسالة لمعنى التواصل مع الله دائماً.
وجهاد النفس بالصيام، وبما يحمله من معاني وإشاراتٍ
ورموز ـ حُفِظ كذلك بالتواتر، ولم يُحفَظ بالنقل الحرفيّ الكتابيّ، بل أنه حُفِظ أكثر
بالفعل.
وكذلك التَوجُّه إلى القبلة، وشد الرحال إليها
بالحج، وما فيه من رموز ـ حُفِظ بالفعل والتواتر على مر السنين.
والزكاة وأداؤها أيضاً، هو فعلٌ مُورِسَ، وحُفِظ،
وتواتر الناس في فعله.
وفي الأمور الحياتية، وقد كانت هناك آياتٌ تحمل
المقاصد، وتوضح الاتجاهات التي فيها خير البشرية، ليس بتفصيلٍ، ولكن بمقصدٍ. وأي فعل
يؤدي إلى هذا المقصدُ هو فعلٌ جيدٌ، يتوافق مع قانون الحياة. وهنا، معنى الدين، أن
فعله يؤدي إلى الأحسن والأصلح، بالمعايير التي هي موجودةٌ في الإنسان بفطرته.
ولذلك، كانت جميع الأحكام التي تربط وتضبط العلاقات
بين الناس، محكومةٌ بما فيه خير الأمة وخير المجتمع. لذلك، كان التوجيه ـ كما نقول
دائماً ـ إلى الأمة، أن تقرأ كتاب الله، ثم تخرج من هذه القراءة بما تتفق عليه، بما
يؤدي إلى الخير الذي تعلمه الأمة، "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى
الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ..."[آل عمران 104].
لذلك، فإن أي قراءةٍ ترى الأمة بجميع أطيافها،
وليس بطيفٍ واحد، أنها تؤدي إلى خير الأمة، فهي من الدين كقانون الحياة. فإذا وجدت
أن الذي فهمته وأدركته، يؤدي إلى حالٍ سيئ، رجعت عنه، وجاءت بأمرٍ آخر، وهكذا.
فقضايانا الدنيوية، أساسها أن نجتمع نحن لنضع
حلولاً لها، ولنضع قواعد لها، وقوانين تحكمنا. فإذا وجدنا في تراثنا ما يتناقض مع هذا،
فعلينا ـ على الأقل ـ أن نتركه، فقد لا نكون أهلاً لفهمه، ولكن لا نطبقه ونحن نرى في
تطبيقه ما يتعارض مع عقولنا، ومع ما نرى أنه الخير.
وبذلك، نتجاوز عن هذه الأمور، التي ربما تكون
قد نقلت بطريقٍ، وإن صحت المعايير الموضوعة من ناحية السند ومن نقلوه، إلا أن هذا المنهج
ـ كما أشرنا ـ ربما لم يتعرض إلى إمكانية واحتمالية أن يكون الإنسان الناقل ـ بحسن
ظن ـ قد نقل شيئاً وعممه، مع أنه كان شيئاً خاصاً جداً، لا يمكن ولا يصح نقله لأجيالٍ
وأجيال.
ومع ذلك نقول: فلنتركه، ولننظر كيف نطبق ما فيه
خيرنا، وما فيه صلاحنا، فإذا تبين لنا في لاحقٍ دلالته التي ربما قد تكون غابت في لحظةٍ،
نرجع إليه، وإذا لم نجد هذا، فلا نرجع إليه.
ورسول الله أعطانا هذا الحق، يوم أمرنا أن نتفكر
ونتدبر فيما يُقال لنا، وألا نسير وراء أي قولٍ دون وعيٍ ودون فهم. بل أن القرآن علمنا
ذلك، يوم أمرنا ألا نتبع آباءنا، لمجرد أنهم قاموا بفعلٍ فنقوم به، "...إِنَّا
وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ"[الزخرف 23].
هذا الحال، لا يجب أن يكون فيه الإنسان، ولا
يجب أن يخاف الإنسان من عقله، ومما أعطاه الله من قدرةٍ على التمييز، خاصةً، إذا اجتمع
الجميع، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر. وهذا معنى [لا تُجمِع أمتي على ضلال](3)،
بهذا المفهوم. لا أن تُجمِع أمتي على شكلٍ، وعلى صورةٍ، وعلى نقلٍ، دون أن تُعمِل عقولها،
لأنهم في هذه الحالة، ليسوا في إجماع على شيء.
الإجماع، أنهم يُعمِلون
عقولهم وقدراتهم، فيتفقون على أمرٍ فيه خيرهم، فيه صلاحهم، فيه معروفٌ جربوه، وفيه منكرٌ وجدوا فيه شراً
فنهوا عنه. هذا هو الإجماع الحقيقيّ، وليس أن نُجمِع على نصٍ قد يكون أتى به إنسانٌ
بحسن ظنٍ، وهو لا يحمل المعنى الحقيقيّ، فهذا ليس بإجماع. إنه إجماعٌ على شيءٍ مجهول.
الإجماع المعقول المشهود، هو ما
تُجمِع عليه العقول، وترى فيه الخير للمجتمع، في أمرٍ دنيويّ حياتيّ، وليس في
أمرٍ غيبيّ.
فالأمور الغيبية التي جاء بها الدين، هي متواترة،
وتم الحفاظ عليها بصورةٍ كاملة. أما الأمور الحياتية والدنيوية، فهي ترجع إلى الأمة
في المقام الأول، مع استخدام المقاصد التي هي في فطرة الإنسان الحقيقية والسليمة والنقية.
اللهم وهذا حالنا، وهذا قيامنا، نتجه إليك أن
تجعلنا نرجع إليك، وأن تجعل أمتنا تفيق إلى حقيقة أمرها، وإلى حقيقة دينها الذي جاء
لينير العقول، وليجعل الناس سواسية، ويجعل المجتمع صالحاً، يدعو إلى الخير، يتكافل،
ويتعلم، ويتَطبَّب، ويعيش حياةً كريمة. الكل يساعد الآخر، والكل يقدم ما يستطيع عليه،
ويأخذ ما يحتاج إليه، في تكافلٍ وتناغمٍ وتوافقٍ.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك
يا رسول الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم:
أن الله وهو يخاطبنا، حتى فيما يفعله السفهاء منا، وإنما ذلك ليعلمنا أن نبتعد عن منهجٍ
نفقد فيه عقولنا وقلوبنا وضمائرنا وفطرتنا، ونرى الدين بعيداً عن كل ذلك، نراه نصوصاً
جامدة، وأفعالاً تاريخية نُجرِّدها من إطارها، فنأخذ منها شكلاً، مما يؤدي بنا أن نأتي
بأمورٍ لا تتوافق مع إنسانيتنا ومع فطرتنا.
وإذا كان هذا المنهج الذي يؤدي بالإنسان إلى
هذه الصورة الشكلية، يظهر بوضوحٍ في عمل هؤلاء السفهاء، فإنه له درجاتٌ في مجتمعاتنا،
تُمارِس أيضاً نفس هذا النوع من التفكير، وهذا المنهج الذي يُفقِد الإنسان جزءاً من
إنسانيته ومن عقله، مما يؤدي في بعض الأحيان إلى أن يَفقِد هذه الإنسانية كاملةً، ويَفقِد
هذا العقل كاملاً، ويكون فيمن قيل فيهم، أنهم فرطوا في أمر وجودهم.
ولا تتبع من جعلنا أمره فرطا، "وَاصْبِرْ
نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ
وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا
تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ
فُرُطًا"[الكهف 28].
الذين يصبرون نفسهم بالغداة والعشي يريدون وجهه،
هم الذين يفكرون ويتدبرون، الذين يُعمِلون عقولهم، يدعون ربهم أن يوفقهم وأن يهديهم
وأن يعلمهم، لا يغفلون عن ذلك. ودعاؤهم، هو فكرهم، وهو عملهم، وهو جهادهم.
"الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا
وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..."[آل عمران 191]، يتفكرون في خلق السماوات والأرض، في خلقهم، فيما نتج عن
هذا الخلق من أفعالٍ، وأعمالٍ، وعلمٍ، ومعارف، وممارساتٍ ـ كل شيءٍ في هذا الخلق وما
صدر عنه.
عباد الله: نسأل الله: أن يهدينا سواء
السبيل، وأن يجعلنا في طريقه سالكين، ولوجهه قاصدين، وعلى ذكره مجتمعين.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك
يا رسول الله .
اللهم وهذا حالنا
لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه الناس حولنا.
اللهم ونحن نتجه
إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا
إليك.
اللهم فاكشف الغمة
عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا
شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك
خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحق
حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل
لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلا
قضيتها.
اللهم اجعلنا لك
خالصين.
اللهم ارحمنا،
واغفر لنا، واعف عنا.
"رَّبَّنَا
إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا
رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا
مَعَ الأبْرَارِ"[آل
عمران 193].
_______________________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق