حديث الجمعة
8 جمادى الأول 1436هـ الموافق 27 فبراير 2015م
السيد/ علي رافع
حمداً لله،
وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
الحمد لله، والحمد دائماً لله، والشكر دائماً
لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد الله: يا من ترجون لقاء الله، ويا
من تجتمعون على ذكر الله، حديث الحق مُوَجَّهٌ لكم؛ لأنكم تريدونه وتطلبونه؛ لأنكم
تسألون الله، وتدعون الله، وتؤمنون حقاً بالله. إيمانكم بالله، ينعكس في كل ما تقومون
به على هذه الأرض، في ذكركم، وفي تأملكم وفكركم.
علاقتكم بالله، قائمةٌ على معنى العبودية له،
وعلى تنزيهه عن أي صورةٍ وأي شكل. أما الذين يكفرون بالله، فهم الذين لا يتعاملون بما
هو أحسن، والذين لا يذكرون بقلوبهم ولا يتدبرون بعقولهم. والكفر له صورٌ متعددة، وعُبِّر
عنه في الآيات بأشكالٍ كثيرة.
فحين نقرأ الآيات "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ،
وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ، وَلَا
أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ"[الكافرون 6:1]، فالكفر هنا، هو كفرٌ بما يعتقد إنسان في قيامه، وفي وجوده،
وفي أهليته، وفي قدراته ـ وبين آخرٍ لا يعتقد كما يعتقد إنسانٌ ما. لذلك، فإن الخطاب
الحقيّ هنا، "لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ". وهذا، ينطبق على كل
إنسانٍ لا يؤمن بعقيدة الآخر.
وهناك كفرٌ ناتجٌ عن عدم إعمال الإنسان لما أعطاه
الله من قدرات. فالذين يضعون لله صورةً ـ أياً كانت هذه الصورة ـ فهذا يدخل تحت عدم
إعمال ما أعطاهم الله من نعمة العقل والتدبر والتفكر؛ لأننا بوجودنا المقيد إذا أعملنا
عقولنا فسوف نصل ـ بالقطع ـ إلى أن هناك أموراً كثيرة لا ندركها، وأننا لا يمكن بأي
صورةٍ من الصور، أن ننسب إلى الله قولاً، أو فعلاً، أو إرادةً، أو شكلاً، أو صورةً.
وإنما سوف نقول دائماً: الله أكبر. فإذاً، الذي لا يُعمِل عقله، ويضع صورةً لله، فهو
بذلك يكون كافراً في تعبيرات القرآن والآيات.
الذين يُجسِّدون الله في صورةٍ، مثل الذين يقولون:
أن الله تجسد في صورة عيسى ـ عليه السلام ـ دون أن يكون لهم مصدرٌ حقيّ يرتكزون عليه،
أو تبليغٌ إلهيّ يرتكزون إليه، إنما هو ناتجٌ عن تصورٍ وتأويلٍ لأحداثٍ أو كلماتٍ.
إنما لا يستطيع أحدٌ أن يضع الله في أي صورةٍ أياً كانت. لذلك، نجد الآية التي تقول
"لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ..."[المائدة 73]. وهذا، لا يعني بالإطلاق كل من آمن بعيسى ـ عليه السلام ـ أو اتبعه.
فهناك من يدركون أنهم حتى وإن كانوا يقولون أن
عيسى إبن الله، إلا أنهم مدركون أن هذا الوصف هو وصفٌ تقريبيّ، وإنما لا يعني أن يضعوا
صورةً محددةً لله، وإنما هو إكبارٌ فقط لعيسى. وهذا من هو على استقامةٍ منهم. وقد تحدثت
الآيات عن ذلك أيضاً، بأن أهل الكتاب ليسوا سواء، فمن أهل الكتاب من يؤمنون بالله حقاً،
ويقومون الليل، ويدركون معنى عبوديتهم لله*.
كذلك، نجد الآية التي تتحدث عن هذا النوع من
الكفر، بأن يضع الإنسان لله أنداداً، فبهذا يُصَوِّره. فلذلك، يكون هو في بيئةٍ فكريةٍ
وعقليةٍ، لا تسمح لأي نورٍ أن يدخل إليه. أن تقول الآية: "إِنَّ اللّهَ لاَ
يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء..."[النساء 48]، لماذا؟ لأن الإنسان لم يُعمِل عقله وقلبه، ويدرك أن هناك وراء هذا الكون قوةً
كبرى ليس لها شريك.
"الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ..."[البقرة 3]، فكيف تجعل لهذا الغيب الذي لا تعرف له شكلاً ولا صورة، تجعل له شريك، تجعل
له مكافئ، تجعل له ند؟ إنك بذلك تكون قد أغلقت أبوابك التي يمكن أن يدخل إليك منها
نور الله. إن الله في هذه الحالة، لا يغفر أن يُشرك به؛ لأن المغفرة هي نور، نورٌ يدخل
إلى قلبك، فيجعلك تتغير من حالٍ إلى حال.
وهناك كفرٌ بالحياة، وبتكاملك مع الناس، وبتعاملك
معهم بالحسنى، فأنت لا ترى إلا نفسك، وهذا ينعكس في أعمالك، لذلك نجد بعض الآيات تتحدث عن ذلك الحال، "الْقَارِعَةُ،
مَا الْقَارِعَةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ، يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ
الْمَبْثُوثِ، وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ، فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ
مَوَازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ،
فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ، نَارٌ حَامِيَةٌ"[القارعة
11:1]، "فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"[الزلزلة 8،7].
"إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ،
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ، يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ، وَمَا هُمْ عَنْهَا
بِغَائِبِينَ"[الإنفطار
16:13]. والفُجر هنا، هو
كل أمرٍ وعملٍ يسيئ للناس وللمجتمع، بدءاً من الطاغوت الذي يملك أمر الدنيا، إلى أقل
إنسانٍ هو طاغوت نفسه، فلا يرى إلا نفسه، ولا يهمه أي إنسانٍ آخر. وهذا، كفرٌ في عمله
وفي معاملاته مع الآخرين، كَفَرَ بالله متجلياً في خلقه وفي كائناته كلها.
وهناك كفرٌ بمعنى امتداد الإنسان، وأن ينعكس
ذلك على أن الإنسان لا يذكر، لا يتجه إلى الله بالدعاء، لا يقيم صلاةً، ولا يستقبل
قبلةً، ولا يطوف ببيتٍ، ولا يشهد أن لا إله إلا الله، ولا يشهد أن محمداً رسول الله.
وهكذا، علينا أن نتعلم الفرق بين الكفر الذي
هو اختلافٌ في العقيدة، وبين الكفر الذي هو سوء استخدامٍ لعطاء الله للإنسان.
فالذي عنده عقيدة في أن هناك غيباً لا يدركه،
وأنه يتعامل مع الناس بالحسنى، وأنه يذكر الله ليُنَمِّي الجانب الروحي فيه، لإيمانه
باليوم الآخر، يكون بذلك في معسكر الإيمان. "..مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ..."[البقرة 62]، بالغيب. "...وَالْيَوْمِ الآخِرِ..."[البقرة 62]، بامتداد حياته. وأن يعلم أن ما ينفعه على هذه الأرض، هو أن يكون متعاملاً
مع الله، "...وَعَمِلَ صَالِحاً ..."[البقرة 62]، أنه يقدم كل ما يستطيع إلى مجتمعه وإخوانه في البشرية، وإلى كل كائنٍ على
هذه الأرض.
لذلك، نجد في كثيرٍ من الآيات "...مَنْ
آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً..."[البقرة 62]، "وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ
الصَّالِحَاتِ..."[البقرة
82]، وآمنوا هنا، تجب ـ في هذه الثنائية
ـ الإيمان بالله واليوم الآخر؛ ولأن هذا الإيمان ـ كما أشرنا ـ ينعكس على أسلوب الإنسان
في الحياة، وفي فهمه لها، وفي إدراكه لرسالته عليها. كل هذا، من صفات العبودية لله،
من صفات الإنسان الذي هو عبدٌ لله.
والعبودية لله، هي تعبيرٌ آخر لكل ما أشرنا إليه.
فعبد الله، يطلب دائماً علماً ولا يقف عند علمٍ محددٍ وصل إليه. عبد الله، يذكر الله
دائماً ولا يتوقف عن الذكر؛ لأنه يؤمن بأن الذكر هو الوسيلة التي تُنَمِّي روحه، وتجعل
طريقه بعد هذه الحياة، طريق حياة. "وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ
فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ"[آل عمران 169]. فأساس أن يكون حياً عند ربه يُرزق، أن يكون دائماً من الذين
يذكرون.
ومن ناحية العمل، العبودية لله ـ أيضاً ـ أن
الإنسان على هذه الأرض، لا يتوقف عن العمل الصالح، وإنما يستمر دائماً في هذا الاتجاه،
ويظن دائماً أن عليه أن يكون أفضل، ويظن دائماً أن ما عمله ليس كافياً. هذا هو التأدب
مع الله، وهذا هو معنى العبودية لله.
ونجد الآية التي تشير إلى ذلك "الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ..."[آل عمران 191]،
مما يفيد استمرارية الذكر، بلا
توقف. وهذا ما دعاً الصوفيّ أن يقول: [لو غاب عني رسول الله طرفة عين، ما عددت نفسي
من المسلمين](1).
"الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا
وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..."[آل عمران 191]، هذا البعد الذي أشرنا إليه بالإيمان بالغيب. وأن يتعاملوا
مع الغيب من خلال الشهادة، يتفكرون في خلق السماوات والأرض، فلا تتوقف عقولهم عن العلم
والمعرفة في كل خلق السماوات والأرض، "...رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً
سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"[آل عمران 191].
سوف نجد في آياتٍ كثيرة، هذه المعاني التي تشير
إلى مجاهدة الإنسان الدائمة، سواء على مستوى عقله، أو قلبه، أو جسده. و[الله لا
ينظر إلى صوركم وأشكالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم](2)، وهذا ـ أيضاً ـ معنى من معاني أن "...يَكُونَ الرَّسُولُ
عَلَيْكُمْ شَهِيدًا..."[البقرة
143]، أن يراكم في هذا
الحال الذي فيه تخشون الله حق خشيته، وأن تتابعوا رسوله كما علمكم، [لا يدخل الجنة
أحدكم بعمله، حتى
أنت يا رسول الله، حتى أنا ما لم يتغمدني الله برحمته](3). خشية
الله وتقوى الله، "...إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء..."[فاطر 28]، "...اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم
مُّسْلِمُونَ"[آل
عمران 102].
هكذا نتعلم ديننا، وهكذا نُذكِّر أنفسنا جميعاً،
وأن نكون في خشيةً لله دائمة، "...إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ
فَخُورٍ"[لقمان 18]. لا تعتقد أنك قد وصلت لكل شيء، فأمامك الطريق طويل.
عباد الله: نُذكِّر أنفسنا بذلك، حتى
لا نتوقف عن الكسب، وعن الرُقِيّ، وعن المعراج في الله وفي طريق الله الدائم.
نسأل الله: أن يوفقنا لذلك، وأن يجعلنا أهلاً
لذلك.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك
يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم:
أن للكفر معانٍ كثيرة. وما يجعل الإنسان غير قابل لتلقي نفحات الله ورحماته ومغفرته،
هو الكفر الذي أُشِيرَ إليه بأنه الذي يؤدي بالإنسان إلى الجحيم، وإلى "...أَسْفَلَ
سَافِلِينَ"[التين 5]. أما الكفر الذي هو اختلافٌ في الرؤى وفي العقيدة، فهو أمرٌ
واردٌ على هذه الأرض.
وما يهم، هو أن يكون الإنسان مدركاً بأي صورةٍ
لمحدوديته وافتقاره، وأن يكون عاملاً لمستقبل حياته الأخروية بالذكر وبالدعاء، وأن
يكون مدركاً لمسئوليته الاجتماعية والمجتمعية، وأن يكون أداة خيرٍ لكل خلق الله. وأول
خلق الله هو هو، هو نفسه، هو وجوده.
الذي يكون كذلك، يكون مُهَيَّأً لتَلقِّي نفحات
الله ورحماته. وهذا هو أمل الإنسان، مصداقاً لقول رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه
ـ: [لا يدخل الجنة أحدكم بعمله]، و[أنا أقربكم من الله وأخوفكم منه](4)، و"...إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء...". كل هذه المعاني، إذا تمسك بها إنسانٌ، فهو أهلٌ
لرحمة الله، ولمغفرة الله، ولنور الله.
نسأل الله: أن نكون من "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ
الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ..."[الزمر 18]، ومن الذين يفتقرون إلى الله، ومن الذين يسألون الله، ومن "الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ..." ومن الذين
"..يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..."، ومن
الذين يدعون ربهم أن يغفر لهم ذنوبهم، وأن يُكَفِّر عنهم سيئاتهم، وأن يتوفاهم مع الأبرار.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا،
وتعلم ما عليه الناس حولنا.
اللهم ونحن نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم
وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من
حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين،
عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا
الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً
إلا فرجته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا،
يا أرحم الراحمين ارحمنا.
_______________________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق