الأربعاء، 17 يونيو 2015

البدء من الإنسان والدين في الإنسان



حديث الجمعة
 11 شعبان 1436هـ الموافق 29 مايو 2015م
السيد/ علي رافع

      حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
      "إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ"[فصلت 30]، هكذا تعلمنا هذه الآية كيف يسلك الإنسان على هذه الأرض.
      كل إنسانٍ على هذه الأرض عنده قدرةٌ إلهية وفطرةٌ حقية. الآية تحدثنا عن كيف يتعرض الإنسان لرحمة السماء، تحدثنا عن الإنسان الذي انفعل بمعنى الربوبية عليه، وأدرك أنه لم يُخلَق سُدى، وإنما خُلِق لحكمةٍ ولرسالةٍ، تكلمنا عن الإنسان الذي آمن بالغيب وقال: "...رَبِّيَ اللَّهُ..."[غافر 28].
      فيوم أدرك معنى الربوبية لله شعر بإرادته وبحريته، واختار أن يستقيم في هذه الحياة، "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ..."[هود 112]، فكانت الاستقامة نابعةً من وجدانه، نابعةً من قلبه، نابعةً من عقله؛ لأنه أحيا ما فيه من نور الله ومن فطرة الله، فاتزن ميزانه واستقام اختياره، فأصبح لا يختار إلا ما يحييه، فكان بذلك أهلاً لأن تتنزل عليه الملائكة، تُثَبِّته وتُرضيه وتساعده على أن يعيش في سلامٍ وفي أمان، "...تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا...".
      لقد استقمتم فأصبحتم في طريق الحياة، فأبشروا بالحياة، أبشروا بما وعدكم الله في فطرتكم، فيما أوجد فيكم من نوره، بما أوجد فيكم من قدرةٍ على الإيمان بالغيب، ومن تذوقٍ لمعنى الحياة. تفكرتم فأدركتم "...رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً..."[آل عمران 191]، أدركتم أنكم لو فرطتم لخسرتم حياتكم، ولأصبحتم بعد حياتكم أمواتاً لا تصلحون لشيءٍ، إلا أن تكونوا وقوداً لنارٍ لا يعلمها إلا الله، وأنكم إن صدقتكم في استقامتكم فلكم حياةٌ هي جنةٌ لا يعلمها إلا الله، "...أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ".
        البدء من الإنسان، والدين في الإنسان، والذين يُذكِّرون بذلك يُذكِّرون الإنسان، يُذكِّرون الإنسان أن يتفكر وأن يتدبر وأن يتأمل، لا يفرضون على الإنسان رأياً أو شكلاً أو صورةً أو رسماً، إنهم يُذكِّرون الإنسان بما فيه من حياة، وبأن يحاول أن يكون صادقاً فيما يختار، مُفَعِّلاً ما فيه من رحمة، وما فيه من قدرةٍ على التفكر والتأمل، وما فيه من قدرةٍ على الذكر والتذكُّر، ومن قدرةٍ على أن يزن الأمور بميزان الحق.
      لذلك، فنحن نذاكر دائماً بأن الدين هو منهج حياة، وأن التذكير بالدين هو تذكيرٌ بهذا المنهج، لا بأن نفرض على الناس أموراً بعينها، إننا لسنا في حاجةٍ لأن نقول للناس أن الظلم حَرَّمه الدين، لأن الإنسان بفطرته لا يرضى بالظلم للظلم.
      لأننا لو سرنا في هذا الطريق الذي نحاول بالدين أن نفرض ما نراه من قيمٍ، فإن معنى ذلك أن هذه القيم لا تقوم بذاتها، إنما تقوم بأن نُقهَر بالدين، وقد يسبب ذلك أخطاراً كثيرة. وهناك أمورٌ قد يراها البعض أنها الخير كل الخير، فيريد أن يستخدم الدين لفرضها، وقد لا يراها آخرون كذلك، فيرفضون الدين كُليَّةً.
      الدين هو دعوةٌ إلى منهج أن يكون الإنسان حياً، أن يكون الإنسان متفكراً، أن يكون الإنسان ذاكراً، أن يكون الإنسان داعياً، أن يكون الإنسان مدركاً لمحدوديته، وأنه في حاجةٍ دائمة أن يتجه إلى الله بالدعاء، وأن يتواصى بالحق والصبر مع إخوانه ليصلوا إلى ما فيه أفضل لهم في دينهم ودنياهم، في حياتهم وما بعد حياتهم. يأتي ذلك بتفكر الإنسان وبتواصيه مع إخوانه على هذه الأرض فيما ينفعهم جميعاً.
      إن استخدام الدين بأي صورةٍ من مجموعةٍ لفرض آرائها، حتى لو كانت هذه الآراء هي آراءٌ صالحة، إلا أن هذا لا يمنع أن يستخدم آخرون الدين لفرض آراءٍ طالحة، ومن ثم فالدين لا يُفرَض بالقوة، ولا بسيطرة مجموعةٍ حتى لو قالت نحن نعلم الدين.
      الدين دعوةٌ إلى منهجٍ يخاطب الإنسان، يخاطب عقل الإنسان ويُكبِره ولا يقلل من شأنه، يخاطب قلب الإنسان ويكبره لا يقلل من شأنه، يخاطب ضمير الإنسان ويكبره لا يقلل من شأنه، يخاطب قدرة الإنسان على العمل والتغيير على هذه الأرض ولا يقلل من شأن هذه القوة.
      لذلك، نحن نجد في آيات القرآن الكريم ما يُوَجِّهنا دائماً لذلك. إنه يكلمنا عن "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ..."[آل عمران 191]، يكلمنا عن "..الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا..."، يكلمنا أن تكون منا أمة ، "...يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ..."[آل عمران 104]، يكلمنا عن الذين يتواصون بالحق ويتواصون بالصبر*، عن الذين "...تَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ"[البلد 17].
      فإذا حدثنا عن التذكير يقول لنا: "فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى، سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى، وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى"[الأعلى 11:9]، يعلمنا ألا نفرض رأياً أو صورةً أو شكلاً، وإنما "فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ"[الغاشية 22،21]، "...فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ..."[الكهف 29]،  فأين نحن من هذا التوجيه الذي وُجِّهنا إليه في كتاب الله لنا.
      وكل مجموعةٍ الآن تعتقد أنها من تتكلم باسم الله وباسم الدين، وأنها هي التي تعرف الدين. قد يعرف هؤلاء أكثر عن شكل المناسك وكيفية القيام بها، وهم بذلك أدواتٌ لحفظ هذا الشكل الذي يحمل رسالةً، إنهم مثل الكتب المسطور فيها هذه الكلمات، وجودهم لازم لأنهم يحملون ما في هذه الكتب من أشكالٍ وصور.
      لكنهم كورق الكتب، فلا يعني أن العلم المكتوب على وريقات يعطي لهذه الوريقات قدسية، أو يجعلها تتكلم بذاتها، أو أنها تستطيع أن تفهم ما هو مكتوبٌ عليها. وكذلك هؤلاء، إنهم ينقلون وينقلون وينقلون.
      ولكن النقل شيءٌ والفهم والقيام شيءٌ آخر، إنك تستطيع أن تنقل كلاماً، ولكن لا يعني هذا أنك تستطيع أن تفهمه. لذلك، فالذين ينقلون ويحملون هذه الكلمات لا يعطيهم هذا الحق في أن يشرحوا ما ينقلونه، أو أنهم هم الذين يستطيعون أن يفسروا ما ينقلون.
      إنما الذي يستطيع ذلك هو الإنسان، الإنسان الذي يسأل الله، ويتفكر بعمق، ويتأمل ويتدبر، والإنسان الذي قال ربي الله ثم استقام، إنه الإنسان الذي يذكر الله قياماً وقعوداً، إنه الإنسان الباحث عن الحقيقة، إنه الإنسان الذي يريد بحقٍ أن يقوم فيما يقرؤه، إنه الإنسان الذي يميز بين الخبيث والطيب، بين الحق والباطل.
      "وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ..."[الإسراء 13]، "...كلكم راعٍ، وكلكم مسئولٌ عن رعيته"(1)، وكل إنسانٍ له ما ينفعه وما يحييه. لذلك، فليست هناك صورةٌ واحدة نتمسك جميعاً بها، وإنما كل إنسانٍ عليه أن يكون له فهمه، وهو مسئولٌ عنه.
      عباد الله: هذا ما نقرؤه في كتاب الله، نذكر به، نذكر به أنفسنا، ونسأل الله دائماً أن يجعلنا نرجع إلى الحق أنَّى وجدناه، وأن نستغفره دائماً أن تكون قراءتنا قد مسها بعضٌ من نفوسنا، فنسأله أن يساعدنا، أن يطهر رؤيتنا من كل شائبة، وأن يجعلنا دائماً نتجه إليه، ونتوكل عليه، ونوكل ظهورنا إليه، نسأله توفيقاً، ونسأله علماً، ونسأله عطاءاً بلا حدود.
      فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
     
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
      عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أن الإنسان هو محور هذه الحياة، وأن على الإنسان أن يبدأ بنفسه، وأن من حق كل إنسانٍ أن يتدبر في كل ما يُقال له، وأن عليه أن يبدأ في السعي إلى الله، إلى الحقيقة، إلى الحياة، [من تقرب إلي ذراعاً، تقربت إليه باعاً، ومن جاءني مشياً، جئته هرولةً](2)، "...ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ..."[غافر 60].
      الدين يقوم في الإنسان، وهو قائمٌ من قبل في فطرته. قد ينسى الإنسان ما فطره الله عليه، ولذلك كانت الرسالات السماوية، وكان التذكير، فالتذكير يكون للإنسان بما فيه، أن اتجه إلى الله، أن ارجع البصر إلى داخلك، تأمل وتفكر وتدبر ما هو الأفضل بالنسبة لك، ليكن ذلك هو أسلوبك الدائم لتكون من "...الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ..."، ولتكون من "...الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ..."، ولتكون من الذين يقصدون وجه الله، لتكون في معنى العبودية لله في افتقارك إليه وفي إكبارك له عن أي صورةٍ وعن أي شكل.  
      هكذا يكون الإنسان طالباً لله دائماً. فإذا خاطبْنا الذين يظنون أنهم يملكون الدين، ويريدون أن يفرضوا فهماً وشكلاً معيناً على الناس جميعاً، لظنهم أنهم الذين يعرفون الدين حق المعرفة، فإنا نقول لهم: أن الدين أكبر من أن تحدوه في صورةٍ تعرفونها، وأن استخدامكم للدين لفرض صورةٍ معينة له أثرٌ سيئ، لأنه يجعل الدين هو الذي يُحسِّن الأشياء أو يُقبِّحها، دون أن تكون الأشياء حسنة أو قبيحة لذاتها.
      فإذا تَعوَّد الإنسان على هذا المنهج، فإذا جاءت جماعةٌ وفرضت صورةً لا يقبلها عقل، لا يقبلها إنسانٌ صالحٌ مفكرٌ متأملٌ متدبرٌ، فإنه يُتَّهم بالكفر وبالخروج عن الدين، بمقولة أن هذا هو الدين، والدين فوق العقل، فوق التذوق. لذلك، فاستخدام الدين بأي شكلٍ وبأي صورة لا يؤتي صلاحاً.
      أما الدعوة بالحق، الدعوة بأن يُعمِل الإنسان عقله، ويُعمِل قلبه، ويتدرب على أن يميز بين ما فيه خيره وما فيه شره، ما فيه خير الناس وما فيه شر الناس، والتواصي بما هو حق والتواصي بالصبر حتى يؤتي الحق ثماره، وأن نجتمع جميعاً لنجد طريقاً نسلكه وقانوناً يحكمنا وسلوكاً نتوافق عليه، وأن نعمل عملاً صالحاً، وأن يكون هذا بتوافقنا وبتواصيناٍ وبتراحمنا.
      لا يفرض فردٌ منا رأيه بالقوة، أو مستخدماً أن هذا هو الدين ويجب أن ننصاع إليه؛ لأن الدين فيما يخص أمور حياتنا الأرضية هو ما نتوافق أن فيه خيرنا وأن فيه صلاحنا، "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ..."[آل عمران 104]، هم الذين يحددون الخير، "...وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ..."[آل عمران 104]، هم الذين يحددون المعروف، و"...َيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ..."[آل عمران 104]، هم الذين يحددون المنكر. وهذا هو معنى الحديث، [لا تجتمع أمتي على ضلال](3)، بأن يوم يجتمع الناس وهدفهم الإصلاح والصلاح سوف يصلون إلى الحق المناسب لهم.
      عباد الله: نسأل الله: أن يوفقنا لذلك، وأن يجعلنا أهلاً لذلك، وأن يجمعنا على الخير، ويوفقنا للخير، نسأله دائماً أن يجعلنا في طريقه سالكين، ولوجهه قاصدين، ومعه متعاملين، وعنده محتسبين، وله مستغفرين.
      اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه الناس حولنا.
اللهم ونحن نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
      اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
      اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا. 
      اللهم ارحمنا.
      اللهم فكن لنا في الصغير والكبير من شأننا. 
      اللهم كن لنا فيما نعلم، وفيما لا نعلم، وفيما أنت به أعلم.
اللهم لا تجعل لنا في هذا الساعة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلا قضيتها.
      اللهم ارحمنا، واغفر لنا، وتب علينا.
      يا أرحم الراحمين ارحمنا،  يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الرحمين ارحمنا.







­___________________________

* "...وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر"[العصر 3].

(1)  جاء بسنن الترمذي: ‏عن النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم أنه‏ ‏قال ‏" ‏ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، فالأمير الذي على الناس راع ومسئول عن رعيته ، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم ، والمرأة راعية على بيت بعلها وهي مسئولة عنه ، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه ، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"‏.

(2)  حديث قدسي أخرجه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي وابن ماجة :" أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعاً وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ".

(3) حديث شريف: "لا تجتمعُ أمتي على ضلالةٍ". المحدث: ابن حزم، المصدر: أصول الأحكام، خلاصة حكم المحدث: هذا وإن لم يصح لفظه ولا سنده فمعناه صحيح.

 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق