حديث الجمعة
25 ذو الحجة 1436هـ الموافق 9 أكتوبر 2015م
السيد/ علي رافع
الحمد لله الذي جعل لنا بيننا حديثاً متصلاً
نتواصى فيه بالحق والصبر بيننا، نتدبر أمور حياتنا، سواء كانت حياتنا الأرضية أو حياتنا
الروحية. نؤمن بأن وجودنا على هذه الأرض هو حلقةٌ من حلقات تواجدنا ومرحلةٌ من مراحل
حياتنا الممتدة. وهذا الإيمان ناتجٌ عن ذكرنا وتأملنا في كل ما يحيط بنا، وناتجٌ عن
أهليتنا لذلك.
فكثيرون يرون آيات الله حولهم ويصلون بها إلى
نتائج مختلفة، "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ
جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ
هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"[آل عمران 191].
وهناك من لا يرون
ذلك، "وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ
اللَّهُ..."[لقمان 25]، فإذا سألتهم عن حياتهم وما ستئول إليه يقولون: [أرحام تدفع وأرض تبلع وما
يهلكنا إلا الدهر](1)، "يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ، أَئِذَا كُنَّا
عِظَامًا نَّخِرَةً"[النازعات
11،10].
فهم يؤمنون بالله كخالقٍ للسماوات والأرض، ولكن
لم تؤد رؤيتهم لخلق السماوات والأرض أن يروا خلقهم، أو أن يؤمنوا بامتداد حياتهم، فعاشوا
على أرضهم لا يرون إلا ماديّ وجودهم، ولا يطلبون إلا الحياة الدنيا.
لذلك، نجد آياتٍ كثيرة تحدثنا عن الإيمان بالله
واليوم الآخر.
وهناك من قد يؤمن باليوم الآخر ولكن لا يربط
بينه وبين حياته الدنيوية، وهذا ما نراه في حياتنا الأرضية اليوم، من الذي يَقصِر علاقته
بالآخرة على المناسك والعبادات الظاهرية، أما معاملاته الإنسانية فهو لا ينظر لها بعين
الاعتبار، ويتصور أنه بقيامه بالمناسك الظاهرية فإن ذلك يكفي لتكفير كل أعماله الدنيوية،
وما ينتج عنها من أثرٍ سيئ.
لذلك، نجد أن الآيات التي تتحدث عن الإيمان بالله
واليوم الآخر يليها أن يعمل الإنسان عملاً صالحاً، "...مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً..."[البقرة 62]. فالقضية هنا هي قضيةٌ متكاملة
هدفها الإنسان. فإيمان الإنسان بالله، وإيمانه بامتداد حياته، وإيمانه بربط هذه الحياة
الدنيا بالحياة الآخرة، كل هذا يؤدي بالإنسان أن يكسب كَرَّته، وأن يخرج من هذه الأرض
وقد أضاف إلى وجوده قوةً روحيةً تساعده في حياته المستقبلية، في حياته الأخروية.
"آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ
مِن رَّبِّهِ..."[البقرة 285]، وما أنزل إليه من ربه هو الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، إيمانٌ
كُلِّيّ، إيمانٌ فطريّ، إيمانٌ داخليّ، إيمانٌ وجوديّ، إيمانٌ يسري في كل ذرةٍ من ذرات
وجود عبد الله الصالح بما أُنزِل إليه من ربه.
إجمالٌ يخفي في داخله كلَّ تفصيلةٍ، وكلَّ تجزئةٍ،
وكلَّ سلوكٍ، وكلَّ معاملةٍ، وكلَّ عبادةٍ، وهذا معنى أن رسول الله ـ صلوات الله وسلامه
عليه ـ كان خُلقُه القرآن، إنه القرآن، إنه الكتاب، إنه الإيمان، إنه البيت، إنه عبد
الله، إنه نور الله، إنه الحق من الله، إنه روح الله، إنه كلمة الله.
أما المؤمنون الذين يسيرون ويرجون طريق الحياة
وطريق النجاة، فإن عليهم أن يُعبِّروا عن ذلك في أفعالهم، وفي أقوالهم، وفي سلوكهم،
وفي معاملاتهم، وفي عباداتهم ـ أن يكسبوا هذا المعنى بمتابعتهم لرسول الله، وهم عليهم
أن يتأملوا في حقائق هذه الحياة، ويُفَعِّلونها في وجودهم.
"...وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ
وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ
وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ"[البقرة 285]. إن الإيمان هنا يظهر ويتجلى في
هذه المعاني التي يجب على الإنسان المتابع أن يفهمها وأن يتأملها، فإذا أصبحت جزءاً
من كيانه، فيكون في معنى: [ما أعطيته فلأمتي](2)، يدخل في عباد الله الصالحين.
الإيمان بالله ـ كما نَذكُر دائماً ـ هو إدراك
الإنسان لافتقاره إلى الله، ولأن يعرف أن لا طريق إلا بأن يتبع قانون الله، فلا يستطيع
أن يخلق ذبابةً، ولا يستطيع أن يغير قانوناً حياتياً، وإنما يستطيع أن يفهم هذا القانون
وأن يتعامل معه وأن يُفعِّله، لتكون حياته أفضل.
إن الإنسان المتابع عنده جزءٌ من هذا الإيمان
في فطرته، ولكنه يحتاج لتذكير نفسه دائماً، وأن يستمع لتذكير عباد الله الصالحين، "فَذَكِّرْ
إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى"[الأعلى 9]، يذكر الله قياماً وقعوداً وعلى جنبه ـ بهذا المعنى ـ ويتفكر في خلق السماوات
والأرض.
إنه في حاجةٍ إلى هذا دائماً حتى يرسخ معنى الإيمان
في قلبه، ويدرك معنى الغيب، وما وراء هذه الأرض، وقوانين ما بعد هذه الأرض، وهذا معنى
إيمانه بالملائكة، "...بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ..."، والملائكة تشير
إلى غير المنظور، إلى قوانين ما وراء الطبيعة، وما وراء وجوده. فهنا يكمن الإيمان باليوم
الآخر.
ويؤمن بقانون الله الذي أوجد في كتبه التي تشمل
حياته الظاهرية وحياته الباطنية، حياته المادية وحياته الأخروية، "...وَكُتُبِهِ...".
ويؤمن برسله الذين جاءوا ليكشفوا له هذه المعاني الموجودة في كتاب الله الدائم الأزليّ
الأبديّ، ولا يفرق بين رسله؛ لأن القانون هو قانونٌ واحد. الإيمان بالله، واليوم الآخر،
والعمل الصالح.
هكذا، نرى أن علينا أن نُفَعِّل هذه المعاني
فينا، وفي النهاية كلٌّ سوف يأخذ بقدره، "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ
وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ..."[البقرة 286]، وهي الآية التي تأتي بعد "...لاَ
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ
رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا
مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ..."؛ لأنك لن تأخذ من هذه المعاني
إلا ما أنت له أهل.
ونحن نتحدث كثيراً في هذا، فكلما اتسعت مقدرتك،
كلما أخذت أكثر، لذلك فأنت في حاجةٍ إلى التفكر، وإلى الذكر قبل ذلك، لتتسع مداركك،
فتأخذ من فيوضات الله، ومن رحمات الله، ومن نور الله، ما يجعلك أكثر إدراكاً لمعنى
حياتك ووجودك.
أما الذين تضيق مداركهم ويَقِلُّ ذكرهم، وينعدم
تفكرهم، فلن يستطيعوا أن يتفاعلوا مع هذه الفيوضات الإلهية، ومع هذه المعاني الكلية،
وسيكون ردُّ فعلهم ردّاً مختلفاً عكس ما تتصور كإنسانٍ يذكر الله ويتفكر في خلق السماوات
والأرض، ردُّهم سيكون مختلفاً تماماً، فالذي سوف يجعلك تؤمن بأن "...رَبَّنَا
مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً..."، سيكون ردُّ فعلهم هم: ربنا لقد خلقت هذا
باطلاً. فهم قد يؤمنون بقوةٍ وراء هذا الكون، ولكن يرون ما يحدث على هذا الكون أمراً
عبثياً.
وبين هؤلاء وهؤلاء تتراوح المفاهيم وتختلف وتتنوع.
لذلك فالقضية في النهاية هي قضية الإنسان، فكل إنسانٍ مطالبٌ بأن يُوسع مداركه، ليست
مداركه العقلية فحسب، ولكن مداركه الروحية كذلك والمعنوية، بالذكر وبالتفكر.
عباد الله: نسأل الله: أن نكون من "الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي
خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ".
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك
يارسول الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أن كل إنسانٍ يتفاعل مع آيات الله بما هو له أهل،
وأن هذا التفاعل هو تفاعلٌ نسبيّ وليس مطلقاً، فليس هناك حَدٌّ يجب أن يصل الناس كلهم
إليه، وليس هناك حدٌّ أدنى لا يجب أن تتجاوزه، كلٌ بما هو له أهل.
وما يشغلك هو أن تُوسع مداركك العقلية والقلبية
لتكون أكثر قدرةً على التفاعل مع آيات الله لك، "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي
الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ..."[فصلت 53]، فالله يُرِي الجميع آياته، ولكن
ليس الجميع الذين يستطيعون أن يتبينوا الحق، وإذا تبينوا فإنهم يتبينون ما هم له أهل،
والحق درجاتٌ ومستويات، لذلك فكلٌّ سوف يتبين له الحق بقدره.
فشاغل الإنسان يجب أن يكون في توسيع مداركه،
وليس في أن يصل إلى ظن فهمٍ يعتقد أنه الحق المطلق، وهذا ما نشير إليه في كثيرٍ من
الأحيان بأن الإسلام علمنا المنهج، المنهج الذي نتبعه، وليس الشكل الذي نصل إليه.
فالشكل الذي نصل إليه هو شكلٌ نسبيّ، تصوُّرٌ
نسبيّ للحقيقة التي نستطيع بإمكاناتنا أن نعقلها، وليس الشكل المطلق؛ لأن الشكل المطلق
لا وجود له بالنسبة لنا، فنحن مقيدون لن نعرف أبداً المطلق، في حياتنا وبعد حياتنا.
لذلك، نجد الكثيرين الذين تحدثوا فيما بعد هذه
الحياة، وأن من غادروا هذه الأرض لازالوا يبحثون عن الله كما تبحثون أنتم عنه. هو بحثٌ
دائم، سنظل في معنى البحث عن الله، بمعنى أن نبحث عن مراد الله بنا، لا أن نبحث عن
أن نحيط بالله، ولكننا سنظل دائماً نبحث عما أراد الله بنا، ما نعتقد أننا علينا أن
نقوم فيه. سيظل هذا حالنا في أرضنا وما بعد
أرضنا؛ لأن الطريق في الله لا نهاية له.
فالطريق في الله أن تكون باحثاً عن مراد الله
بك، والطريق إلى الله أن تصل إلى أن تبحث عن مراد الله بك. فهناك من الناس من لا يشغلهم
ذلك اطلاقاً، إنما يشغلهم ما يريدون من هذه الدنيا وما فيها، أما مراد الله بهم فهذا
أمرٌ لا يأتي على أذهانهم، ولا يمر مرور الكرام بهم، فهم مشغولون لآذانهم في ماديّ
وجودهم وفي عاجل أمرهم.
لا نريد أن يُخرِجنا عجزنا عن معرفة مراد الله
بنا ـ أن نخرج عن السير في طريق الله، ونرجع إلى من لا يهمهم هذا الأمر تماماً. وهذا
واردٌ لو وضعنا تصوراتٍ من أذهاننا، لأنْ يجب أن نكون في حالٍ ونحن في طريق الله، ولا
نجد هذا الذي نضعه في أذهاننا، فربما نرتد إلى أسفل سافلين، "...وَيُحَذِّرُكُمُ
اللّهُ نَفْسَهُ..."[آل عمران 28].
حين يعلمنا ذلك رسول الله يقول لنا: [ها أنا
رسول الله بينكم، ولا أدري ما يُفعَل بي غدا](3)، لنتعلم خشية الله، لنتعلم أن نكون في افتقارٍ دائمٍ إلى الله، لنتعلم ألا
نصنع أصناماً ولا صوراً ولا أشكالاً، وأن نظل ندعو الله ونسأل الله ونطلب الله.
نسأل الله: أن يوفقنا لذلك، وأن يجعلنا أهلاً
لذلك، وأن نكون أهلاً لرحماته ونفحاته، وأن نكون من الذين يذكرونه قياماً وقعوداً وعلى
جنوبنا، وأن نكون من الذين "...يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..."
داعينه دائماً: "...رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ".
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا،
وتعلم ما عليه الناس حولنا.
اللهم ونحن نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك،
لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من
حولنا.
اللهم لا تجعل لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا
حاجةً لنا فيها رضاك إلا قضيتها.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين،
عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا
الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا،
يا أرحم الراحمين ارحمنا.
___________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق