حديث الجمعة
23 جمادى الآخر 1437هـ الموافق 1 أبريل 2016م
السيد/ علي رافع
حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
نستعين بالله ونستنصره، ونعوذ به من
الشيطان الرجيم، نعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، نطمع في رحمته وفي مغفرته
وفي هدايته، نتجه إليه في كل أعمالنا وفي كل معاملاتنا وفي كل أحوالنا، طامعين في
كرمه وفي جوده وفي فضله وفي توفيقه، مدركين أن التوفيق من عند الله، وأن النصر من
عند الله، وأن الهداية من عند الله، "...مَن يَهْدِ اللَّهُ
فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا"[الكهف 17].
إدراكنا لهذه المعاني هو إدراكٌ
تجريديٍّ غيبيّ. هو إيمانٌ بالغيب، إيمانٌ بأننا لا نحيط بكل شيء، بل أننا نحيط
بقليلٍ جداً من علمٍ محدودٍ وقدرةٍ محدودة، "....لاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ
عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ
حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ"[البقرة 255].
إلا أن هذا لا يجعلنا نغفل عما نحن
قائمون عليه، ولو كان قليلاً جداً، بل أن هذا القليل الذي نعرفه والذي نحيط به، هو
ما يمكن أن يغيِّرنا على هذه الأرض، وهو ما يُمَكِّننا أيضاً أن نغيِّر ما حولنا.
لذلك فهذا القليل بما يمكن أن يُحدِثه فينا هو كثيرٌ وكثيرٌ جداً.
إن الإنسان على هذه الأرض يحتاج أن
يتعلّم، وأن يتعرّف على من حوله وعلى ما حوله، أن يتعلّم ما يستطيع به أن يقدّم
خدمةً لإخوانه في البشرية، قدرته على خدمة الآخرين هي ما تُمَكِّنه أن يواصل حياته
عليها.
حين ننظر على هذه الأرض، نجد أن الذي
يتعلّم شيئاً مفيداً ـ به يستطيع أن يساعد الناس في حياتهم، يستطيع أيضاً بذلك أن
يساعد نفسه، ويستطيع بذلك أن يغيِّر أشياءً حوله، وأن يغيِّر أولاً ما فيه. لذلك،
فإننا مطالبون بأن نتعلّم، وأن نكون بتعلُّمنا نَعلَم، "...هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ..."[الزمر 9].
علينا أن نبحث دائماً عما يمكن أن نغيِّر
به حياتنا، "...قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ..."[العنكبوت 20]، دعوةٌ إلى
البحث عن قانون هذه الأرض، وعن أسباب التواجد عليها، وعن أسباب ما يمكن أن نستخدمه
لنُغيِّر حياتنا.
لذلك، فإن الإنسان مطالبٌ بأن يكون في
سعيٍ دائم للتعلُّم وللبحث عن الحقيقة في كل مناحي الحياة، ليس فقط في العلوم الطبيعية،
أو في العلوم الهندسية، أو في العلوم الرياضية، وإنما أيضاً في العلوم الإجتماعية،
والعلوم الإنسانية، والعلوم الإقتصادية ـ في كل مناحي الحياة.
لا مانع أن يحلم الإنسان بأن يخلق
مجتمعاً فاضلاً، وأن يؤمن مع مجموعةٍ تؤمن بما يؤمن به، أن يُكوِّنوا مدينةً فاضلة.
وقد حلم الفلاسفة في قديمٍ بذلك، فتحدثوا عن المدينة الفاضلة، وتصوروا صورةً حاول
البعض أن يحققها بصورٍ مختلفة على مر التاريخ. ربما فشلوا في ذلك، وربما يئسوا
لوقتٍ ما، ولكن ذلك لا يمنع من أن يحاولوا مرةً أخرى بأسلوبٍ آخر.
بل أننا نجد على هذه الأرض في بعض
المجتمعات التي لم تسلك مسلك الأولين، وأقامت مجتمعاتٍ بصورةٍ مختلفة، إلا أنها أقرب
ما يكون إلى أن تكون مدينةً فاضلة. فالقضية هنا إذاً ليست شكلاً نتصوره، ولكن هو
تفاعلٌ مع الواقع الذي يجعلنا نحاول دائماً أن نغيِّر هذا الواقع إلى صورةٍ أفضل
وإلى صورةٍ أحسن.
لذلك، فإن الإسلام يوم تكلّم عن ذلك،
تكلّم عن ألا تعبد صورة، ولا تعبد شكلاً، ولا تعبد فكراً محدداً، ففكرك يمكن أن
يتغيَّر، لا يوجد فكرٌ صحيحٌ مائة بالمائة، وانما هناك دائماً نسبةٌ من الخطأ يمكن
أن تصيب هذا الفكر.
لذلك، فالتفاعل مع الواقع، ومع ناتج
التطبيق، هو الذي يغيِّر من فكر الإنسان إلى فكرٍ آخر، ومن ثم يغير الواقع ـ كواقع
ـ إلى واقعٍ آخر، هذا التحول الدائم هو ما وجِّهنا إليه أن نكون متفاعلين مع
واقعنا، "وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ"[الذاريات 6].
و"وَاقِعٌ" هنا لها
دلالاتٌ مختلفة، قد نفهمها أن الدين قائمٌ بمعنى قانون الله على هذه الأرض، وهو
قائمٌ دائمٌ لا يَنتظر أحداً أن يطبّقه أو أن يقيمه، إنما هو واقعٌ وقائمٌ، أراد
الناس أم لم يريدوا، فهم الناس أو لم يفهموا، "إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا"[مريم 93]، فهذا قانونٌ
دائم.
أما الإنسان فهو متغيِّرٌ، فكره متغيِّر،
ودينه الذي يعتقده هو متغيِّر مع قدرته وإمكاناته، مع بيئته، ومع تفاعله، مع فهمه
لما يقرؤه وتفضيله لصورةٍ على صورة، وقدرته على التمييز بين خيرٍ وشر، بين حقٍ
وباطل، بين نورٍ وظلام.
لذلك، فإن كل إنسانٍ له دينه، ونقصد
بالدين هنا هو مفهوم الإنسان عن الحياة، وتوجُّهه في هذه الحياة، وقدرته في هذه
الحياة، وإرادته في هذه الحياة، وهدفه من هذه الحياة. لا نتكلم عن طقوس، ولا نتكلم
عن مناسك، وإنما نتكلم عن مواقف، عن إيمانٍ داخليّ، ما يؤمن به في داخله وما
يعتقده في داخله.
فالإنسان عليه أن يصحِّح مفاهيمه
دائماً، واتجاهاته دائماً، لا يتوقف عند فهمٍ أو عند اتجاه، وإنما عليه أن يكون مُغيِّراً
مُتغيِّراً. هذا التغيُّر يجعله حياً، ليس جامداً، وإنما مبدعاً بدوام تطورٍ وعلوٍ
وارتقاء، وقد يكون كذلك بتغيُّره متغيِّراً إلى أدنى والى أسفل، هذا واردٌ.
ولكن الاهتمام في التغيُّر الدائم هو أن
يجعل الإنسان يكسب تجربةً ويتعلّم درساً ربما يجعله يفيق بعد غفلة، وقد يجعله يغفل
بعد إفاقة، ولكن هذا التغيُّر يُكسِبه حياةً، ويُكسِبه قدراً يُمَكِّنه من مواصلة
الحياة ومن التعامل مع الحياة.
لا يجب أن يخاف الإنسان أن يخطيء وهو
يعمل، لأنه لو خاف فلن يعمل، وإذا لم يعمل ولم يخطيء فهو أسوأ من أن يعمل ويخطيء
فيتعلم. لذلك، كان الحديث [إن لم تذنبوا وتستغفروا، لأتى بقومٍ آخرين يذنبون
ويستغفرون، فيغفر الله لهم](1)، [كل ابن
آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون](2)، هكذا نتعلّم
سرّ المغفرة، وسرّ الإستغفار، وسرّ التعلُّم من الخطأ.
[من اجتهد فأخطأ فله أجر، ومن اجتهد
فأصاب فله أجران](3). أجره يوم
يخطيء هو أنه قد تعلّم أنه قد أخطأ فتعلّم درساً، فله أجره، له مكسبٌ من هذا التعلُّم.
وإن أصاب فقد استفاد أنه قد عرف الصواب، وبفعله الصواب أفاد غيره فله أجران. وقد
يتعلّم بعد ذلك أن هذا الصواب الذي ظنه هو خطأ، فيكون قد كسب مرةً أخرى، وهكذا في
دوام تعلُّم، والذي أخطأ
فتعلّم من خطئه فأصاب بعد ذلك، كسب أجران أيضاً، وهكذا.
فنحن في تعلُّمٍ دائم، نخطئ ونصيب،
نكسب في كل حال. ولكن إن بقينا لا نجتهد، لا نعمل، لا نخطئ، لا نصيب، لا نفعل شيئا،
فنحن جامدون، واقفون، لا نتحرك، لا نضيف معرفةً إلى معارفنا، ولا علماً إلى علمنا،
ولا تجربةً إلى تجاربنا.
وهذا ما بدأنا به حديثنا، بأن قلنا: أن التعلُّم هو الأساس الذي يجعلنا نخدم من
حولنا، ومن خدمتنا نكسب في حياتنا، و نكسب حياتنا الأخرى. نخرج أحياءً من هذه
الأرض، بالتعلُّم والبحث والخدمة.
وإدراك أن هذا الذي ندركه مع محدوديته
إلا أنه مفيدٌ جداً، فلا يجب أن نقول: وماذا
هذا الذي نعلمه؟ إننا لا نعلم إلا القليل، علينا ألا نعمل شيئاً، وألا نبحث عن شيء،
فمهما عرفنا فهو قليلٌ، وعلينا أن نعبد الله فقط ـ بمفهومٍ سلبيٍّ للعبادة.
وهو ظنٌّ أنك حين تجلس في مكانك، وتردد
بعض كلماتٍ دون أن تعيها، ودون أن تفهمها، ودون أن يكون هدفك منها أن تغيِّرك إلى ما
هو أفضل وأحسن، بظن أنه مجرد عملٍ ماديّ لسانيّ حركيّ، فإن ذلك هي العبادة. فتظن أنك
بذلك تؤدي ما هو أفضل على هذه الأرض. إنك بذلك تخسر أشياءً كثيرة.
وحين تجيء الآية لتقول لك: "...وَلَا
تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا..."[القصص 77]، لا تعني فقط
أنك يجب أن تأخذ حظك فيها من متعةٍ أو ما إلى ذلك، فهذا ليس هو المقصود الأول، وإنما
لا تنسى أنك يمكن أن تكسب في الله من خلال قيامك على هذه الدنيا. فهذا هو التأمل الذي
نتأمله في هذه الآية، ونذكره دائماً.
عباد الله: نسأل الله: أن يجعلنا من الذين يتعلمون ويبحثون، وللناس يخدمون ويساعدون،
ولربهم يذكرون وإليه يرجعون ويستغفرون، يطلبون منه رحمةً وقوةً وفضلاً وكرماً وعطاءً.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً
عليك يا رسول الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن
نقوله اليوم: أننا ونحن نشعر بضآلتنا في هذا الكون، وبضآلة ما نعلم ونعرف، إلا أننا
يجب أن نعمل بما نعلمه، وأن نحاول أن نتعلّم أكثر، فهذا القليل النسبيّ بالنسبة لعلوم
الله ولإحاطة الله، هو كثيرٌ جداً بالنسبة لنا، ونستطيع أن نتعلّم الكثير بالنسبة لنا
من هذا القليل بالنسبة لله.
بل أن في هذا القليل ما يُكسِبنا هذه الحياة،
وما يغيِّرنا إلى ما هو أفضل وما ينطلق بنا إلى ما هو أعلى، وهذا سرّ الحياة فينا،
وهذه هي أمانة الحياة التي حملها الإنسان. والحياة التي حملها الإنسان ليست في أن يجعله
ذلك يتحرك، أويتعلّم، أو أن يفعل أفعالاً بعينها فقط، وإنما هذه الحياة تُكسِبه حياةً
دائمة، حياةً أبدية، "وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ
أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ"[آل عمران 169].
وسبيل الله هو ليس فقط في حربٍ أو صراعٍ
ماديّ، وإنما هو مواصلة المحاولة على هذه الأرض فيما أنت قائمٌ فيه، تريد أن تغيِّره
إلى أفضل وإلى أحسن وإلى أقوم. هذا الذي تحاوله هو تفاعلك مع هذه الأرض، تفاعلك مع
هذا الواقع، فلن تكون عبداً لصورةٍ، أو شكلٍ، أوخرافةٍ، أو ظن علمٍ أو معرفةٍ أو دينٍ،
وإنما تكون عبداً لله.
والعبودية لله تعني أنك تُكبِر الله عن
أي شكلٍ وصورة، وتتعامل مع الله فيما تجلّى به عليك؛ في قوانينه التي أوجدها، وفي أسباب
الحياة التي مَكَّنك من أن تعرفها، أو أن تعرف بعضها، أو تعرف قليلاً منها. وعبودية
الله هي إدراكك بالغيب، وللغيب، وللشهادة.
إدراكك للغيب هو أن كل شيءٍ الله من
ورائه بإحاطته، "إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي
الرَّحْمَنِ عَبْدًا"، إرادةٌ كلية، وإحاطةٌ كلية، ومشيئةٌ كلية. وشِقّ الشهادة
في العبودية هو أن تصدُق فيما تجلّى الله به عليك، في قوانينه الأرضية، وفي أسبابه
الحياتية، "...قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ..."،
"الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ
فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..."[آل عمران 191]،
ويدركون أن "...رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ"[آل عمران 191].
وعذاب النار هو ألا يكونوا أحياءً ، ألا
يستجيبوا لما يحييهم، لا يستجيبون لله ولرسوله وهو يدعوهم لما يحييهم هذا هو عذاب النار
الذي تشير إليه هذه الآية ـ في تأملنا وتدبرنا.
هؤلاء الذين استجابوا لله ولرسوله وهو
يدعوهم لما يحييهم، هم الذين يعملون، هم الذين يغيِّرون، هم الذين يتعلّمون قبل كل
شيء، هم الذين يبحثون عن الحقيقة، هم الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم،
يذكرونه غيباً، ويذكرونه شهادةً في أحوالهم، هم الذين يتحابُّون، يتآلفون، يرجون الخير
لهم ولكل إخوانهم، لا يحقدون ولا يكرهون، قلوبهم صافية وعقولهم منيرة، يبحثون عما هو
أفضل لهم ولغيرهم، يتّجهون ويتعاملون مع الله في كل أحوالهم، لا يرجعون إلا لله، ولا
يطمعون إلا في الله، ولا يسألون إلا الله، ويشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول
الله.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً
عليك يا رسول الله.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما
بنا، وتعلم ما عليه الناس حولنا.
اللهم ونحن نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل
ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا اليك.
اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن
أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار
من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين،
معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه،
وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه الساعة ذنباً
إلا غفرته، ولا همّاً إلا فرجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين
ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا.
________________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق