حديث الجمعة
29 رجب 1437هـ الموافق 6 مايو 2016م
السيد/ علي رافع
حمداً
لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
نستعين
بالله ونستنصره، ونعوذ به من الشيطان الرجيم، نعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا،
طالبين أن نكون أهلاً لهدايته، فـ "...مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ
وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا"[الكهف 17].
فالله
يتجلّى علينا بقانونه وبما أودع فينا من سرّه، "...أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى"[طه 50]،
"وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ"[البلد 10]، "خَلَقَ فَسَوَّى"[الأعلى 2]، "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا"[الشمس 7]، وخلق كل الكائنات وسوّاها، وخلق القانون وأحكمه، فأوجد هذا التفاعل بين الإنسان
وبيئته، وبين الإنسان وطبيعته، وأرسل رسالته، وأظهر آياته، "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا
فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ..."[فصلت 53].
ومن
آياته أنه "..أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى
الْمَسْجِدِ الأَقْصَى..."[الإسراء 1]. وهذه الآية نتدبّرها بما فيها من معانٍ، وليس لمجرّد
أن نَقُصّها، أو نتحدّث عن وقتها أو عن كيفيّتها، إنما نحن نرى آيةً من آيات الله ورسالةً
من رسائل الله، نرى فيها رحلة الإنسان على هذه الأرض وهو يجاهد ليحيا، يذكر ليحيا،
يتأمّل ويتفكّر ويتدبّر ليحيا.
وكان
رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قدوةً ومثلاً لمن يطلب الحياة، والذي يطلب الحياة
يقدّر الحياة في كل الكائنات، يعيش في حُرمة الحياة، لا يعتدي على حياة، يعيش في عالم
الحياة يحيا فيه كلّ كائنٍ بما أودع الله فيه من سرّه. والمسجد الحرام هو عالم الحياة،
فيه حُرمة الحياة، فيه تقدير الحياة، ومن قام في المسجد الحرام هو الإنسان الذي يطلب
معنى الحياة الحقّة. إن هدفنا في هذه الحياة أن نحقق ذلك.
"..لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ..."[الأحزاب 21]، واقتداؤنا برسول الله لا يعني أن نكون رسول الله، فرسول الله أكبر وأكبر،
وإنما أن نكون ما أراد الله لنا بخَلْقنا. فكلّ إنسانٍ له قدراته وإمكاناته، وله سقفٌ
لا يتعدّاه إلا بخَلْقٍ جديد وبرحمةٍ من الله، "يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ
إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا
لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ"[الرحمن 33].
وهذا
نستطيع أن نقرأه في حياتنا، في واقعنا. كلّ إنسانٍ على هذه الأرض له قدراته وإمكاناته،
قدرته على استيعاب العلم والمعرفة، وقدرته على الذكر والتأمّل والتدبّر، وقدرته على
العمل والإبداع والإنتاج، "...هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ
لَا يَعْلَمُونَ..."[الزمر
9]، "...وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ
فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ..."[الأنعام 165].
هذا
واقعٌ لا نستطيع أن ننكره، والحياة لا تستقيم يوم يكون الناس جميعاً في صورةٍ واحدة،
وإنما تستقيم باختلاف الناس وتنوّعهم واختلاف قدراتهم واختلاف إمكاناتهم وطاقاتهم،
بما فيهم من خيرٍ وبما فيهم شرٍّ أيضاً.
فاتّباع
منهج رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يكون في أن يحاول الإنسان أن يُخرِج أفضل
ما عنده، وأن يقدّم أفضل ما عنده، وأن يخدم الناس بكامل وبكل طريقةٍ ممكنة، بكل طاقاته
وإمكاناته، إنه بذلك سوف يحقّق رسالته، وبذلك سوف يكون مخاطَباً بأنه قائمٌ في المسجد
الحرام.
إنّنا
حين نتكلّم عن المسجد الحرام في حديثنا هذا، لا نتكلّم عن مكان، وإنما نتكلّم عن حالٍ
وقيام، لذلك فإن نظرتنا لآية الإسراء ليست نظرة انتقالٍ من مكانٍ إلى مكان، ولكن نظرة
انتقالٍ من حالٍ إلى حال، إنها رحلة حياة، رحلة حياة الإنسان منذ مولده إلى انتقاله
من هذه الأرض.
حياته
كلّها أن يقوم في طلبٍ للحياة، وفي لحظةٍ يرى ما حقّقه في حياته، يُشْهِده الله ما
وصل إليه في لمحةٍ، في لفتةٍ. وما كان الإسراء إلا لإشهاد رسول الله ـ صلوات الله وسلامه
عليه ـ حاله وقيامه، بأن أشهده ما وصل إليه، وبأهليته لأن يعرج في سماء العُلا، وبأنه
أصبح مع رسل الله وأنبيائه وحدةً واحدة تكونت لخير هذه البشرية، واكتملت لتواصل على
هذه الأرض رسالةٌ دائمة باقيةً ما دامت الأرض والسماء قائمة.
وما
كان المسجد الأقصى إلا تعبيراً عن هذا المعنى، اكتمال وارتفاع وعُلوّ، فالكمال نسبيّ
والأقصى نسبيّ بالنسبة لهذه الأرض، فالأقصى أيضاً ليس مكاناً، حين نتحدث عنه في نظرتنا
وفي تأملنا، وإنما هو حالٌ ومقام، حالٌ بالنسبة للإنسان، وبالنسبة أيضاً لتكوينٍ قائمٍ
على هذه الأرض يحمل رسالة السماء.
إنه
اكتمال هذا البنيان الذي تكلّم عنه رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ [مثلي
ومثل الأنبياء من قبلي كبناءٍ تنقصه لبنة، كل
من ينظر إلى هذا البناء يقول ما أجمله، لولا أنه تنقصه هذه اللبنة، أنا هذه اللبنة](1)، هكذا قال ـ ما معناه ـ رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه
ـ .
فاكتمال
هذا البناء هو سرّ بقاء الرسالة وتجدّدها في كل من جاء بعد ذلك من علماءٍ ومن أولياءٍ
ومن عبادٍ لله صالحين. بهذا السرّ الذي تواجد على هذه الأرض باكتمال هذا البنيان، وهذه
الطاقة الباقية السارية، هذا النور الهادي، "...وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي
بِهِ فِي النَّاسِ..."[الأنعام
122].
إن
كلّ إنسانٍ هو لبنةٌ في بناء، "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ،
ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي"[الفجر 29:27]، ولبنات البناء هم عباد الله، وكل إنسانٍ في معنى العبودية لله ينتمي إلى بناءٍ
يتكوَّن، له دوره في هذه الحياة وما بعد هذه الحياة، وكلّ إنسانٍ يريد أن يعود إلى
بنائه وأن ينتمي إلى بنائه.
لذلك، نقول دائماً أن القضية هي قضية منهجٌ نسير
إليه ونسير عليه، حتى نرجع إلى بنائنا، يختلف بناءٌ عن بناء، لا يهمّ، إنما ما يهمّ
أننا رجعنا إلى أصلنا، لا نهِيم في فضاءٍ لا نعرف لنا أصلاً ولا نعرف لنا مكاناً ننتمي
إليه.
[سر بي إلى حيّهم ودعني ... في أي طورٍ فلا أبالي
الكلّ عندي جنة خلدٍ ... ما دمت في حضرة الرجال](2)
هو رجوعٌ إلى البناء الذي يمثّله
وتمثّله حضرة الرجال.
عباد
الله: إنّا نتحدّث هنا
على مستوى المعنى والقيام، نريد أن نقرأ آيات الله، وكلّ حدثٍ حدث على هذه الأرض ويحدث
على هذه الأرض هو آيةٌ من آيات الله، لعلّنا نذكرها، ولعلّنا نتدبّرها، ولعلّنا نتأمّلها
ـ فنستفيد منها ونضيف نوراً إلى وجودنا، يزيل ما فيها من ظلام ويرقى بها إلى أعلى قيام.
نسأل
الله: أن يحقّق لنا ذلك، وأن يجعلنا كذلك.
فحمداً
لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد
لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد
الله: ما أردنا أن نقوله
اليوم ونحن نقوله دائماً: أن كلّ آيةٍ ظهرت
لنا على هذه الأرض علينا أن نقرأها، وأن نتأمّلها، وأن نتدبّرها ـ لا مجرد أن نردّد
متى حدثت، ومن الذي قام بها، وكيفيّة حدوثها، وما حدث فيها من أحداثٍ أو من أقوالٍ
أو من أي شيءٍ آخر. إنما نجرّدها ونقرأها كرسالةٍ لها دلالة ولها معنى نريد أن نفهمه
وأن نتأمّله. وما نتأمّله منها يتناسب مع قدراتنا وإمكاناتنا، وكلّ إنسانٍ يأخذ من
الرسالة بقدْره، كلٌّ يأخذ بما هو له أهل، هكذا نتعلّم دائماً، وهكذا نذاكر أنفسنا
دائماً.
وما
كانت رسالة الإسراء والمعراج كما نقرؤها إلا أنها رسالةٌ تحدّثنا عن رحلة الإنسان على
هذه الأرض، من محاولةٍ لأن يقوم الإنسان في معنى الحياة حقّاً. وبتكوينه ذلك وبإعداده
لذلك، يكون أهلاً لأن يُرِيَه الله البناء الذي ينتمي إليه ويُشْهِده حاله الذي صار
عليه، في لمحةٍ.
هذه
اللمحة فيها كسبٌ كبيرٌ له، فهو يمر بمرحلة تحولٍ من حالٍ إلى حال، فإذا واصل حياته
بعد ذلك عاش بيننا ولكنه يكون في عالمٍ آخر، [موتوا قبل أن تموتوا](3)، يكون حيّاً في
الأرض وفي السماء، يكون على هذه الأرض وهو أيضاً في السماء، هو في الدنيا وفي الآخرة،
هو في الحاضر والقادم، هو في الأدنى والأعلى، هو في الأرض وفي السماء.
عباد
الله: نسأل الله: أن نقتدي
وأن نهتدي بهدي رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فنحقّق رسالتنا، ونرجع إلى بنائنا
وإلى أصلنا، فنجتمع على أصولنا، فنكون بناءاً صالحاً، وبيتاً صالحاً.
بيتٌ
في بيوت، بيتٌ في مدينة، مدينة العلم، مدينة الحياة، [أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها](4)،
كما قال رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ نكون في سفينة، سفينة تحقَّق فيها من
ركبوها، وكل من ركبها هو ينتمي إلى بيتٍ وإلى بناءٍ وإلى كيانٍ تكامل، [مثل أهل
بيتي فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك](5).
وأهل
بيت رسول الله هم معانٍ وليسوا أفراداً، إنهم من ترك رسول الله على هذه الأرض بنوره
وبطاقته وبكماله واكتماله، إنه البناء الذي اكتمل فأصبح نوراً سارياً، وأصبح وجوداً
هادياً، وأصبح طريقاً لكلّ سالكٍ يهتدي بما فيه من علاماتٍ ومن إشارات.
عباد
الله: نسأل الله: أن نكون
كذلك، وأن نكون في سفينة رسول الله وآل بيت رسول الله، وأن نكون في مدينة رسول الله،
وأن نكون جميعاً مجتمعين على ذكره وعلى طلبه وعلى مقصود وجهه.
اللهم
وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه الناس حولنا.
اللهم
ونحن نتّجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا
منجى منك إلا إليك.
اللهم
فاكشف الغمة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم
اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، وعندك محتسبين.
اللهم
أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه .
اللهم
لا تجعل لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته، ولا همّاً إلا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها
رضاك إلا قضيتها.
اللهم
ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا
أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا.
________________________
(1) حديث شريف نصه:
"مَثَلي ومَثَلُ الأنبياءِ مِن قبْلي كمَثَلِ رجُلٍ بنى بُنيانًا فأحسَنه وكمَّله
إلَّا موضعَ لَبِنَةٍ مِن زاويةٍ مِن زواياه فجعَل النَّاسُ يطوفونَ به ويعجَبونَ ويقولونَ
: هلَّا وضَعْتَ هذه اللَّبِنةَ ؟ قال : فأنا تلك اللَّبِنةُ وأنا خاتَمُ النَّبيِّينَ
صلواتُ اللهِ عليهم". الراوي: أبو هريرة، المحدث: ابن حبان، أخرجه في صحيحه.
(2) من
أشعار الصوفية.
إذا رَضُوا بِي أَهْلُ الوصالِ ... فَكُلُّ حالي عينُ
الجمالِ
سِرْ بي إلي حَيِّهِمْ وَدَعْنِي ... فِي أي طَوْرٍ فلا
أُبَالِي
إن عَذَّبوني أو رَحَمُونِي ... فالعَبْدُ عَبْدٌ في
كلِّ حالِ
مَوْتِي حَيَاتِي مَحْوِي ثَبَاتِي ... ذُلِّي عِزِّي
فَقْرِي كَمَالِي
الكلُّ عِنْدِي جنَّاتُ خُلْديٍ ... ما دُمْتُ فِي
حَضْرَةِ الرِّجَالِ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق