حديث الجمعة
3 ربيع الأول 1438هـ الموافق 2 ديسمبر 2016م
السيد/ علي رافع
حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً
وسلاماً عليك يا رسول الله.
الحمد لله، والحمد دائماً لله، والشكر دائماً لله،
والصلاة والسلام على رسول الله
عباد الله: يا من ترجون لقاء الله، ويا من
تجتمعون على ذكر الله، حديث الحقّ موجّهٌ لكم يرشدكم ويساعدكم على أن تقرأوا ما في
أنفسكم وما يحيط بكم في عالمكم، لتكسبوا حياتكم ولتكسبوا آخرتكم، ولتكونوا عباداً
لله صالحين في دنياكم وفي أخراكم.
تعلّموا أنّ الدّين هو يوم تُفعّلوا ما أعطاكم الله من
طاقاتٍ وإمكانات، أنّ الدّين هو منهجٌ تسيرون عليه في حياتكم، "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ..."[العنكبوت 46]، "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ
إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ
نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ..."[آل عمران 64].
هكذا توضّح الآيات معنى الاستقامة على هذه الأرض، والتي
يجب على الإنسان أن يتّبعها، هذه الاستقامة هي الدّين "اهدِنَا الصِّرَاطَ
المُستَقِيمَ"[الفاتحة 6]. الدّين واقعٌ نعيشه، الدّين ليس مجرّد كلماتٍ في
الهواء ليس لها واقع، "وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ"[الذاريات 6].
حين نرى النّاس يتصوّرون أنّ هناك ديناً صحيحاً واحداً،
ويبحثون عن هذا الدّين الواحد الصّحيح من خلال علماءٍ يظنّون أنّ هؤلاء العلماء هم
القادرون على أن يقولوا ما هو الدّين الصّحيح، متصوّرين أنّ الدّين الصحيح هو
مجموعة من الأوامر والنواهي يمكن أن نصيغها، أو أن نسردها، أو أن نضعها في قائمة
أو في لائحة أو في قانون، ونقول أنّ هذا هو الدّين الصحيح، هذا التصوّر ـ في نظرنا
ـ أمرٌ لا يمكن الوصول إليه.
لو نظرنا إلى أنّ هذه اللائحة هي مجموعة أمورٍ تُطبّق
بحذافيرها وبشكلها، أمورٌ شكليّة حرفيّة، غير قابلة للتّجديد، أو التّغيير، أو التّحسين،
وإنّما هي ثابتة. وإذا فرضنا ـ جدلاً ـ أنّك وصلت إلى هذه اللائحة أو القائمة، وأن
تقول أنّ هذا ما يريد الله وهذا هو حكم الله، فإنّك تدخل بذلك في منزلقٍ خطير؛ لأنّك
سوف تصف أيّ إنسانٍ آخر لا يؤمن بهذه القائمة ككلّ، بالكفر وبالخروج عن الدّين.
وكما نقول دائماُ أنّ المنهج الذي قدّمه لنا الدّين هو
ما يمكن أن نُطبّقه؛ لأنّ هذا المنهج ديناميكي يتفاعل مع الواقع، ويتفاعل مع
الإنسان، ويتفاعل مع المجتمع، ويتفاعل مع الأمّة ككلّ، ويتفاعل مع التّقدّم العلميّ،
ويتفاعل مع ما عرفته الأمم الأخرى، ويتفاعل مع كلّ الظّروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة
والسياسيّة.
إنّه منهجٌ قائمٌ على أن تجتمع الأمّة لتبحث عمّا ينفعها
وعمّا يُصلِحها، وأن تضع أمامها المقاصد الكليّة التي كشفت عنها الرّسالات السّماوية،
والتي تتناغم مع ما عند الإنسان من فطرةٍ سويّة، "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ
يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"[النحل 90]، لعلّكم تعرفون، لعلّكم تسلكون،
لعلّكم تُصلِحون، لعلّكم تنجون.
لذلك، فالفارق بين ما نراه وبين ما هو شائعٌ، هو أنّنا
نرى أنّ الدّين هو منهجٌ نتّبعه لنصل إلى حياةٍ أفضل، وما يراه كثيرون آخرون هو أنّهم
يريدون أن يصلوا إلى هذه القائمة، أو اللائحة، أو القانون، الذي هو عبارة عن
مفرداتٍ تُنفّذ بحذافيرها، دون وعيٍ ودون فهم. ما نراه هو منهجٌ يتفاعل ويتنج
أموراً متغيّرة طبقاً للواقع، وما يراه الآخرون هو أمورٌ ثابتة لا تتغيّر ولا تتبدّل
مع واقعٍ، بأي شكلٍ من الأشكال.
وفي الحقيقة أنّ الذين يتصوّرون أنّهم يمكن أن يصلوا إلى
هذه القائمة، أو هذا القانون، أو هذه اللائحة، لا يمكنهم أن يصلوا إليها بهذه الصّورة
الجامدة؛ لأنّ الواقع يقول غير ذلك، فأنت في القانون الوضعيّ تحاول بكلّ الطّرق أن
تصيغ قانوناً ليس فيه لبسٌ أو غموض، ويمكن أن يُطبّق على الجميع بصورةٍ واحدة،
ولكنّ الواقع يقول غير ذلك.
فكثيراً ما يصل قاضٍ إلى حكمٍ من خلال هذا القانون مختلفٍ
عن حكمٍ آخرٍ لقاضٍ آخر في نفس القضية، ممّا يدلّ على أنّ مهما صغنا ومهما حاولنا،
فالعامل البشريّ حين يدخل ويُنفّذ ويُفسّر الكلمات، فربّما يصل إلى صورٍ مختلفة،
هذه طبيعة الحياة، وطبيعة الإنسان، وطبيعة المجتمع.
ولذلك، فلا نستطيع أن نصف أيّ شيءٍ صغناه، أو فهمناه، أو
وضعناه في كلماتٍ من صنعنا، وأن نقول عنها أنّها كلام الله. حتّى كلام الله المقدّس
المُنَزّل طالما أنّه تواجد في كلماتٍ وحروف في حياتنا، وتدخّلنا نحن في فهمه
بعقولنا، فإنّنا سوف نفهم أموراً مختلفة.
لذلك، فعلينا أن نتعلّم هذا الاختلاف الذي هو موجودٌ في
البشر، "وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ..."[النحل 93]، ولكنه شاء أن تكونوا "...شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا..."[الحجرات 13]، شاء أن تكونوا مختلفين في
الجنس، وفي اللون، وفي الشكل، وفي العقل، وفي القلب، في كلّ صفةٍ من صفاتكم، بل أنّ
كل إنسانٍ ـ كما نقول دائماً ـ هو عالَمٌ قائمٌ بذاته، مختلفٌ عن عالَمٍ آخر، عن
إنسانٍ آخر، عن وجودٍ آخر.
عباد الله: نريد أن نتعلّم كيف نُطبّق
المنهج الذي يعتمد على عقل الإنسان، وعلى التّواصي بين النّاس بالحقّ وبالصّبر،
تواصٍ مستمر لا ينقطع؛ لأنّنا سنظلّ دائماً في حاجةٍ إلى هذا التّواصي؛ لأنّ كلّ
يومٍ يأتي بجديد، وكلّ فكرٍ يأتي بجديد، وكلّ علمٍ يأتي بجديد، وكلّ جديدٍ يحتاج
أن يتكامل ويتوافق مع ما هو قائم.
وهذا التّوافق يحتاج دائماً إلى علماء يتدارسون ويتواصون،
لا بأن ينقلوا، لا بأن يردّدوا، ولكن بأن يفكّروا، ويتدبّروا، ويتأمّلوا، ويتواصوا،
ويغيّروا ويبدّلوا، في إطار ما هو أفضل وأحسن وأقوم، وهذا هو جوهر الدّين ولبّ الدّين.
لذلك، نقول دائماً أنّ التّوجيه الإلهيّ كان لِكذلك "وَلْتَكُن
مِّنكُمْ أُمَّةٌ..."[آل عمران 104]، إذاً التّوجيه الدّيني لا يقول لهم إفعلوا كذا
وكذا وكذا، وإنّما يقول: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ..."[آل عمران 104]، وتؤمن بالله(1). وكلّ أمرٍ جاء هو أمرٌ لنتفكّر
فيه، ولنتدبّر في كيفيّة تنفيذه، ولا نأخذه كحروفٍ جامدة، بفهمٍ واحد فهمه
السابقون، وإنّما بفهمٍ متجدّد يُنفّذ لصالح المجتمع ولصالح الأمّة.
عباد الله: نسأل الله: أن يوفّقنا لذلك،
وأن يجعلنا أهلاً لذلك.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول
الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: هو
أن نذكّر أنفسنا بمعنى ديننا الذي هو منهجٌ للإنسان في حياته، ومنهجٌ للأمّة في
وجودها وفي بقائها، يقوم على الأفضل والأحسن والأقوم، يقوم على احترام العقل
والواقع الذي يعيشه الإنسان، يقوم على قراءة هذا الواقع والتّفاعل معه، يقوم على
قراءة الإنسان لوجوده، ولحاجاته، ولفهمه، ولإحساسه، ولرؤيته ـ ليصل إلى ما ينفعه
وينفع إخوانه في الحياة.
وكلّ أمرٍ جاء به الدّين يحمل في داخله منهجاً، فإذا قال
إفعلوا كذا، فإنّ في داخل هذا الأمر سؤالٌ: كيف نفعله؟ وكيف نفعله يتطلّب من
الإنسان أن يفكّر في أنّ هذه الكيفيّة التي يجب أن يقوم بها، مفروضٌ أن تتوافق مع
المقصد الكلّي ومع الهدف الكلّي في إحياء الإنسان وفي احترام الإنسان، في احترام
حياة الإنسان ووجود الإنسان، "...مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ
جَمِيعًا..."[المائدة 32](2).
إنّ كلّ أمرٍ له عمق، وليس مجرّد كلماتٍ جوفاء، إنّه
يتحوّل إلى مفردةٍ في المنهج الكلّي الذي يحترم حرية الإنسان، فلا يجعل لإنسانٍ
سلطاناً على إنسانٍ آخر، ولا يسمح لإنسانٍ بأن يعتدي على إنسانٍ آخر.
والاعتداء له صورٌ كثيرة، تبدأ من سلطان الحاكم على المحكوم،
فهو اعتداءٌ على حريته، إلى اعتداء كلّ فردٍ على أخيه الإنسان، يوم يسرقه، أو
يقتله، أو يعتدي عليه بأيّ صورةٍ أخرى، يوم يأخذ منه أكثر ممّا يعطيه، "وَيْلٌ
لِّلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا
كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ"[المطففين 3:1]، هذا نوعٌ من الاعتداء أيضاً.
فكلّ أنواع الاعتداء نحن مأمورون بأن نردّها، وأن نضع من
الأساليب ما يمنعها، وما يُقوّم من يقوم بها ويُصلِحه ويجعله إنساناً صالحاً. هذا
مطلوبٌ أن يكون موجوداً في منهج الحياة التي ننتهجها يوم ندعو إلى الخير ونأمر
بالمعروف وننهى عن المنكر.
عباد الله: نسأل الله: أن يوفّقنا لذلك،
وأن يجعلنا أهلاً لذلك.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما
عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك،
ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين،
عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل
باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا
أرحم الرّاحمين ارحمنا. __________________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق