الثلاثاء، 6 ديسمبر 2016

مهما علمنا فنحن نجهل الكثير ونخضع لقانونٍ لا نرى منه إلا القليل

حديث الجمعة
 11 صفر 1438هـ الموافق 11 نوفمبر 2016م
السيد/ علي رافع

حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
عباد الله: إن الإنسان في هذا الوجود المادي يعيش في حجابٍ من ظلام، لا يرى أمامه إلا خطواتٍ قليلة، وعليه في ظل هذا الحال أن يتخذ قرارته، وأن يخطو خطوةً إلى الأمام، في ظل محدوديةٍ لما يستطيع أن يراه، ولما يستطيع أن يؤثر فيه.
نرى ذلك في واقعنا، وفي أحداثٍ كثيرةٍ حولنا، فيما يحدث في الشرق والغرب، في الشمال والجنوب، في أحداثٍ دنيوية وفي أمورٍ تتعلق بحياتنا الأخروية.
فالإنسان مع وجود هذا الكم الهائل من المتغيرات، ومن البشر بأفكارهم المختلفة، والمتعددة، والمتباينة، والمتغيرة، لا يستطيع أن يكون عنده حلٌ وطريقةٌ ووسيلةٌ يستطيع بها أن يتنبأ بما سوف يحدث، وهذا هو واقع الحياة، ليس نقصاً فيها، وإنما هو القانون الذي نعيش في رحابه.
نرى ذلك أيضاً فيما جاء به الكتاب، وجاءت به السنة، وجاء به عباد الله الصالحين، وأولياء الله الصادقين، نراه في التباين في الآراء في مفهوم الآيات، وفي مفهوم السنن، وفي مفهوم الأحاديث المختلفة، فيصل إنسانٌ إلى حكمٍ معينٍ في قضيةٍ باستخدام آياتٍ محددةٍ، ويصل إنسانٌ آخر إلى حكمٍ مختلفٍ باستخدام نفس هذه الآيات.
وإذا كانت الاختلافات محدودة، وليست كبيرة، إلا أن تأثيرها كبيرٌ جداً، ويؤدي إلى تداعياتٍ مختلفة ومتعددة، ولا يستطيع إنسان أن يكون واثقاً مائة بالمائة من فهمه، أو من تفسيره، أو من مفهومه لهذه الآيات.
لذلك وربما بدون أن يدري العلماء في السابق تكلموا في هذه القضايا، عن الراجح والمرجوح، وهو يعني أن الإنسان حين ينظر في قضية، وينظر إلى مفردات هذه القضية، قد يصل إلى رأيٍ، وبدلاً من أن يقول أن هذا الرأي هو الحق المطلق، يقول أن هذا الرأي هو الراجح عندنا، وأن الرأي الآخر الذي قد يخالفه هو مرجوحٌ عندنا، بمعنى أنه يعطي الرأيين، ويرجح رأياً على آخر، دون أن يقول أن هذا هو الصواب المطلق، وهذا اتجاهٌ نراه فيه صدقٌ في التعامل.
ولذلك نقول دائماً، وتحدثنا في ذلك كثيراً، أن بدلاً من أن تقول أن هذا هو الصواب المطلق، تقول أن هذا هو الصواب بالنسبة لي، وهو يعني أن هذا هو الرأي الراجح عندي، فإذاً نحن في أي قضيةٍ تعرض علينا، فإنما نقول دائماً أن هذا ما نراه صواباً من جانبنا، وربما يكون خطأً من جهةٍ أخرى، أو عند آخرين.
وهذا أيضاً له أساسٌ نراه في العلوم المادية، ففي كل علمٍ مادي، ليس هناك صورة قاطعة، وليس هناك تفسيرٌ قاطع لهذه القضية، وإنما قد يكون هناك تفسيراتٌ عديدة، فيفضل الإنسان تفسيراً عن تفسيرٍ آخر، ويقول أن هذا التفسير راجحٌ عندي، باحتمالٍ معين.
ونجد أن العلماء الماديين من تجاربهم، ومن رؤيتهم لهذه القضية، أدخلوا نظرية الاحتمالات، ووضعوا لها قواعداً من جانبهم، ليستطيعوا أن يحددوا رقماً محدداً لهذا الاحتمال بصورةٍ أيضاً هي احتمالية.
فيصبح بدلاً من أن يقول أن هذا محتمل فقط، يقول أنه محتمل بنسبة كذا، أو أن يقول هذا التفسير راجحٌ عندي بنسبة كذا، لأنه في ذلك يعدد التفاسير المختلفة، ويضع القواعد التي تعطي لكل تفسير من هذه التفاسير رقماً، بحيث يكون مجموع هذه الأرقام، أو هذه النسب، أو هذه الاحتمالات، هو مائة بالمائة، هذا هو مجموع الاحتمالات لهذه التفاسير.
وهنا ربما يكون خاطئاً، لأن ربما يكون هناك تفسيرٌ لم يضعه هو في الاعتبار، لذلك نقول أيضا أن حتى ولو وصلنا إلى رقمٍ محددٍ في الاحتمال، إلا أنه قد يكون خطأً أيضاً، وهذا أيضاً له قواعد، بحيث إذا قمت بحساب هذا الاحتمال، فإن هناك قواعد تقول أن هذا الاحتمال قد يكون يتأرجح بين قيمةٍ وقيمةٍ أخرى، فيقول أن هذا الاحتمال هو صوابٌ، وهو راجحٌ بنسبة كذا أيضاً.
فهنا نرى أن ما يحدث في العالم المادي هو يعبر عن هذا الحال الذي نعيش فيه على أرضنا، من أننا نعيش في عالمٍ في نوعٍ من الظلام، أو في نوع من عدم التحديد لأي شيء، أو نقول أنه عالم فيه قدرٌ من الإبهام، فيه قدرٌ من الضبابية، فيه قدر من عدم الرؤية الواضحة لكل شيء، من أن هناك احتمال لكل شيء أن يكون خطأً أو صواباً.
فنجد الحديث يعبر عن ذلك [من اجتهد فأخطأ فله أجر، ومن اجتهد فأصاب فله أجران](1)؛ وهو حديثٌ يعبر عن هذا الحال، وليس فقط كما يحصره الفقهاء في قضايا دينية، أو في أحكامٍ في معاملاتٍ أرضية، أو في عباداتٍ يقوم بها الإنسان، وإنما هو في كل شيء، وهو يعبر عن عدم القدرة على اتخاذ أي قرارٍ بصفةٍ مطلقة.
ولذلك فهناك دائماً مساحة للخطأ، وهناك مساحة لما هو راجحٌ، أو صوابٌ، أو ربما يؤدي إلى نتيجةٍ أفضل في الواقع المشهود، إلا أنه قد يكتشف في لاحقٍ أنه ليس كذلك، فالإنسان يعيش في هذا الحال على هذه الأرض، يعيش في هذا الحال الذي لا يستطيع أن يقول بصورةٍ مطلقةٍ ما هو الحق.
وأيضاً نستطيع أن نفسر آيةً أخرى، أو أن نتأمل بمعنى أدق في آيةٍ أخرى في هذا المجال، وهو "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ"[العنكبوت 2]؛ ويفتنون هنا هو أن لا يكونوا قادرين، بل أن استقامتهم أن يكونوا غير قادرين، وليس استقامتهم أن يكونوا قادرين.
أن يكونوا غير قادرين أن يحددوا بصورةٍ واضحةٍ مطلقة، إنما هم دائما يخشون ربهم، "...إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء..."[فاطر 28]؛ لأنهم يعرفون حقاً أنهم لا يملكون الحقيقة المطلقة، نستطيع أن نرى آياتٍ كثيرة توضح هذا الحال الذي نعيشه، الذي يجعلنا أكثر خشيةً لله،، وأكثر استغفاراً لله، وأكثر طلباً للمعرفة، وأكثر طلباً للحقيقة، وأكثر تواضعاً لله، وأكثر افتقاراً إلى الله،. فنحن مهما علمنا، فنحن نجهل الكثير، "...وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً"[الإسراء 85].
عباد الله: إننا نذكر أنفسنا بهذه المعاني حتى لا نغتر بحالنا، وحتى لا نغتر بعلمنا، ولا حتى لا نغتر بمعرفتنا، وحتى لا نغتر بقدرتنا، وإنما نشعر دائماً بافتقارنا إلى الله، وبأننا نخضع لقانونٍ لا نرى منه إلا القليل، ونحاول أن نتلمس طريقنا، وأن نتحسس خطواتنا في كل خطوةٍ نخطوها.
فنحن لا يجب أن نخوض في أمورٍ لا نعرفها، أو أن نطلق أحكاماً لا ندرك أبعادها، وإنما دائماً نخشى الله، ونتجه إليه في أن يعيننا، وأن يساعدنا، وأن يعلمنا، وأن يفقهنا، وأن يكشف الغمامة عن عيوننا، وعن عقولنا، وعن قلوبنا، وعن كل أحوالنا بحيث نكون أكثر صدقاً في معاملاتنا، وأكثر صدقاً في أحكامنا، وأكثر صدقاً فيما نصل إليه من قرارات، وما نخطو به من خطوات، وما نأتي به من أعمال، فنكون حقاً عباداً لله، نخشى الله في كل لحظةٍ وحين.
نسأل الله: أن يحقق لنا ذلك، وأن يجعلنا كذلك.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: هو تأملٌ في حالٍ نعيش فيه جميعاً على هذه الأرض، في أحداثٍ تحيط بنا من خارجنا ومن داخلنا، في مجتمعنا وخارج مجتمعنا، أحداثٌ تأتي بصورٍ ربما لا نستطيع في سابقٍ أن نحكم بحدوثها، أو أن يكون حدوثها عندنا قليل، فنجد أنها تتحقق مع أننا لم نكن نرى ذلك.
وهذا واقعٌ يعلمنا خشية الله، ويعلمنا أننا مفتقرين إلى الله، ويعلمنا أن نكون أكثر تواضعاً فيما نعرفه، وفيما نعلمه، هكذا نرى الحياة، ونرى أن هذا يجعلنا أكثر قرباً من مفهوم أننا نعيش على هذه الأرض في حجابٍ من ظلام، ومن نسبية الحقيقة، وعدم إطلاقها، لنكون أكثر صدقاً مع واقعنا، وأكثر صدقاً مع حالنا، وأكثر صدقاً مع أدوات معرفتنا، فلا نطلق الأحكام الجزافية، وإنما نكون أكثر تحفظاً في إطلاقنا للأحكام.
وهذا يتناسب مع ما نتعلمه في علومنا الأرضية التي تعلمنا أن كل شيءٍ هو أمرٌ نسبي، وليس أمراً مطلقاً، بل أن العلماء حاولوا بقدر استطاعتهم أن يقننوا ذلك بنظرياتٍ من مشاهداتهم، ومن تفكيرهم، ومن قدرتهم على التحليل والوصول إلى نتائج، ليضعوا بعض القواعد التي تساعدهم على ترجيح أمرٍ عن أمر، وعن ترجيح فكرٍ عن فكر، وعن ترجيح تفسيرٍ عن تفسير، في إطارٍ من الإدراك أن هذا محكومٌ بما علموه، وربما هناك ما لم يعلموه.
فهم قننوا ما رأوه، وما شهدوه، ولكن لا يعني هذا أن الذي رأوه وشهدوه هو كل شيء، فربما هناك شيءٌ لم يروه، ولم يعلموه، ولم يعرفوه.
وهذا أيضاً مرتبطٌ بتفسيرنا، أو بمفهومنا، أو بتأملنا في آيات الله، وفي أحاديث رسول الله، وفي سنن رسول الله، وفي أحاديث كل الأنبياء، والرسل، وفي أحاديث كل الأولياء، وكل عباد الله الصالحين، فإننا نفهم من كل هذا القليل، وإذا فهمناه كله، ففهمنا أيضاً هو جانبٌ من جوانب كثيرة، وهو مفهومٌ من مفاهيم كثيرة، وهو تفسيرٌ من تفسيراتٍ كثيرة، لا نستطيع أن نجعل من تفسيرٍ، أو من فهمٍ أنه التفسير المطلق، أو الفهم المطلق.
وكذلك فلا نستطيع أن نحيط بتداعيات أي أمرٍ، أو أي حكمٍ، إحاطةً مطلقة، إنما علينا أن نجرب ونرى النتائج، فنحن نستطيع أن نفسر النتائج أكثر من أن نحدد من البداية ما يمكن أن نفعله، لذلك نجد في كثيرٍ من الأحيان أن بعد انتهاء الأمر، وظهور النتيجة، يتبارى الكثيرون في تفسير هذه النتيجة، ويرجعونها إلى كذا وكذا وكذا.
ولكن قبل ظهور النتيجة لا يستطيعون أن يحددوا ماذا سوف تكون النتيجة، فتفسير النتيجة أسهل من التنبؤ بها، فعلينا أيضاً أن نتفهم هذه النتائج، ونحاول أن نفسرها، ولا يعني أن تفسيرنا لها سوف يكون مطلقاً، وإنما هي آراءٌ أيضاً قد تساعدنا في حياتنا المستقبلية في أمرٍ مماثل، ولكن أيضاً تفسيراتنا وإن كانت أسهل من تنبؤنا، لا تعني أن تفسيراتنا ـ أياً كانت ـ هي تفسيراتٌ مطلقة.
عباد الله: نسأل الله: أن نكون أكثر صدقاً في أحوالنا، وفي علمنا، وفي أحكامنا، وأن نكون عباداً له خالصين، ولوجهه قاصدين، ومعه متعاملين.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه الناس حولنا.
اللهم ونحن نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
اللهم اكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلا قضيتها .
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
"...رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا..."[البقرة 286].
"...رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ"[آل عمران 193].
يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا.        
__________________________

(1)    حديث شريف نصه :" إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" المحدث: ابن تيمية.


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق