الأربعاء، 25 يناير 2017

العبادة تغطّي كافة أنشطة الحياة بظاهرها وباطنها

حديث الجمعة 
22 ربيع الآخر 1438هـ الموافق 20 يناير 2017م
السيد/ علي رافع

حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
الحمد لله الذي جمعنا على ذكره، وعلى طلبه، وعلى مقصود وجهه.
الحمد لله الذي جعل لنا بيننا حديثاً متّصلاً نتواصى فيه بالحقّ والصّبر بيننا، نتدبّر أمور ديننا، وأمور حياتنا، وأمور وجودنا وتعاملاتنا، نتأمّل في آيات الله لنا لنتعلّم منها كيف نعيش في هذا الجلباب الماديّ وفي هذا الوجود الأرضيّ، لنحقّق الرّسالة التي أوجدها الله فينا بخلقنا، وبكلّ ما أعطانا من قدراتٍ وإمكاناتٍ تساعدنا على تحقيق ذلك، "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"[الذاريات 56]، بهذه الآية كشف الحقّ لنا هدف وجودنا.
وحين نتأمّل في لفظ "...إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"، فإنّا نجد دائماً أنّ هذا اللفظ يحمل معانٍ كثيرة، بدءاً من ذكر الله بالقلب والجوارح، إلى كلّ عملٍ يعمله الإنسان على هذه الأرض، فالعبادة تغطّي كافة أنشطة الحياة بظاهرها وباطنها، بماديِّها وبما فيها من عملٍ روحيّ، في سعي الإنسان على هذه الأرض في كلّ صِوَرِه وأشكاله، وفي إعمال ما أعطى الله الإنسان من قدرة العقل، ومن قدرة القلب، ومن قدرة الجوارح.
وأمر الإنسان بأن يُفعِّل هذه الإمكانات والطاقات بدون سقف، "يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ"[الرحمن 33]. فكلّ ما تستطيع أن تحقّقه بقدراتك لا تتوقّف عنه، بل أنّه جعل للعقل سلطاناً، وجعل له قدرةً فائقة، "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ..."[العنكبوت 20]. وإذا تأمّلنا في كلمة (بدءِ الخلق)،  قد حدث هذا لا نعرف منذ كم من ملايين السنين. فكيف ننظر كيف "بَدَأَ الْخَلْقَ"؟
وهذا يقودنا إلى مفهومٍ أساسيّ، أنّ الخلق يتجدّد، وما هو ظاهرٌ على أرضنا اليوم هو يعبّر عن بدء الخلق، ففي كلّ يومٍ هناك بدءٌ لخلق، في كلّ مولد إنسانٍ على هذه الأرض هو بدءٌ لخلق، في كلّ نباتٍ ينمو ويُخرِج ثمره هو بدءٌ لخلق، في كلّ ظاهرةٍ فلكيّة أو طبيعيّة أو كيميائيّة، تحدث على هذه الأرض فتنتج أثراً فهي بدءٌ لخلق.
إنّ ظواهر الحياة في كلّ صورها هي تجاربٌ ربّانيّة تُجرى في هذا الكون لنشهد نتائجها، ونتعلّم منها. إنّ في مرض كلّ إنسانٍ وشفائه، هي تجربةٌ للطبيب ليتعلم منها. إنّ في كلّ نجاحٍ وفشلٍ لمشروعٍ إنسانيّ، هو تعلّمٌ لمنشئه. إنّ الحياة كلّها تجاربٌ تُجرى بنا، أو بغيرنا، أو بغيبنا ـ  ولكن نتائجها تظهر لنا لنتعلّم منها.
فحين أمرنا أن نسير في الأرض فننظر كيف بدأ الخلق، لا يعني أن نأخذ آلة الزّمن كما يقولون وننطلق بها في أعماقه لنصل إلى البداية لنرى كيف بدأ الخلق، إنّ بدء الخلق هو في كلّ لحظةٍ على أرضنا، فالمقصود هنا ـ في مفهومنا ـ أن نقرأ كلّ ما هو ظاهرٌ لنا من نتائج لتجاربٍ مختلفةٍ، لنتعلّم منها كيف بدأ الخلق، وكيف يعيد بدء الخلق في كلّ يومٍ، وفي كلّ لحظةٍ من وجودنا على هذه الأرض.
لا نحتاج أن نُخمّن، أو نتصوّر، أو نتخيّل، أو نظنّ، أو نفترض فروضاً لا واقع لها، أو ننتظر قوّةً لا نراها، علينا أن ننظر إلى ما هو موجودٌ أمامنا، يحدّثنا ويعلّمنا، لا نريد أن نسير وراء سرابٍ، وإنما علينا أن نتعلّم من واقعنا.
عباد الله: إنّ الحقّ يعلّمنا ذلك، فهذا ليس حديثنا، إنّما هو مفهومنا في حديث الله لنا "...ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ..."[غافر 60]، [من تقرّب إليّ ذراعاً تقرّبت إليه باعاً، ومن جاءني مشياً جئته هرولةً](1)، البدء دائماً من الإنسان، والطلب يبدأ من الإنسان، والفيض يبدأ من الإنسان، والعلم يبدأ من الإنسان، وما يحدث للإنسان هو من الإنسان، "...وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ"[النحل 118]. فليبدأ كلٌّ بنفسه، وليجتهد بقدر ما يستطيع، وليُفَعِّل عقله وقلبه.
وهذا ما نقوله دائماً، يا أيّها الإنسان [تحسب أّنك جرمٌ صغير، وفيك انطوى العالم الأكبر](2)، إنّك تملك قوّة الفعل بجوارحك، وتملك قوّة الدّعاء بقلبك، وتملك التدبّر والتفكّر بعقلك. قد تجد في لحظةٍ أنّ الأبواب مغلقة أمامك، فلتفكّر بعقلك كيف تفتحها، ولتدعُ الله بقلبك أن يساعدك لتستطيع أن تفتحها بجوارحك، بعد أن تعرف كيف تفعل ذلك، المحاولة والمحاولة، والاجتهاد والاجتهاد، والجهاد والجهاد ـ هو الطّريق الذي يساعدك لتحقّق وجودك على هذه الأرض.
لا نقول لك لا تدعُ الغيب، وإنّما نقول لك ابذل كلّ طاقاتك، وادعُ الغيب. عليك أن تُهيّئ نفسك لتلقّي نفحات الغيب، فإن كنت لست أهلاً لهذه النّفحات، فسوف تمرّ من أمامك ولا تستطيع أن تلحقها.
علينا حتّى في يأسنا ـ إذا جاز لنا أن نقول ذلك ـ  في ضعفنا، في قلّة حيلتنا، في شعورنا بالضّعف الشّديد ـ أن نؤمن بأنّنا نستطيع يوم نُهيّئ أنفسنا لتلقّي نفحات الله، نُهيّئ أنفسنا بأن نتعلّم، نُهيّئ أنفسنا بأن نفكّر ونتدبّر، نُهيّئ أنفسنا بأن نذكر وأن ندعو وأن تكون عيوننا مفتوحةً، وآذاننا مفتوحةً، وأيدينا ممتدّةً، وأرجلنا تسعى في طريق الخير والحقّ، وليكن ما يكون بعد ذلك.
وقد تظلّ في ضيقٍ أو في ضعفٍ، ولكن لا تيأس من رحمة الله، ولا تيأس من فضل الله، ولا تيأس من توفيق الله، وهذا هو الجهاد الحقّيّ، فإمّا النّصر بأن يفرج الله لك ويجعل لك مخرجاً، وإمّا الشّهادة، أن تخرج من هذه الأرض وقد حاولت، وكلاهما كسبٌ لك في الله.
عباد الله: نسأل الله: أن يحقّق لنا ذلك، وأن يجعلنا كذلك.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أنّنا حين نقرأ آيات الله التي توضّح لنا هدفنا ومقصودنا، وتوضّح لنا طريقنا وسعينا، فإنّا نجد أنّ معنى "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"، هي تعبيرٌ عن أنّ الإنسان عليه أن يسعى بكلّ جوارحه ليحقّق وجوده على هذه الأرض ـ جوارحه الظاهرة والباطنة، جوارحه المشهودة والغيبيّة ـ. ما هو مشهودٌ للإنسان من جوارحه، هي قدرته العقليّة، وقدرته القلبيّة، وقدرته الذاتيّة البدنيّة. وجوارح الإنسان الباطنة، هي الدعاء، والرجاء، والطلب، والذكر.
والإنسان لا يجد أمامه على هذه الأرض إلّا أن يحاول في كلّ اتجاه، "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ..."، عليه أن يتعلّم من أحداث هذه الحياة، وما يجري عليها من تجارب سواء كانت بيده أو بيد الغيب.
إنّ في تراكمات المعارف، وفي تراكمات الأحداث التي مرّت بها هذه الأرض، نتائج كثيرة، فهذه الأنهار، وهذه الثلوج، وهذه البحار، وهذه الأراضي، وهذه الخامات في باطن الأرض، كلّها من تراكمات الماضي، تراكمت بصورةٍ شاءها الله، لتجيئ أنت اليوم يا إنسان وتستخدمها وتعرف كيف تستفيد منها.
فلتحسن في ذلك، ولتقدّر ما حدث في كلّ هذه الملايين من السّنين، حتّى تصل إليك هذه الأرض بهذه الصّورة، وبهذا الشّكل، ولتحاول بوجودك أن تكون إضافةً حقيّة لها، لا أن تكون مستهلكاً فقط لهذه النّعم التي أنعم الله بها عليك، لتكون أداة خيرٍ لأجيالٍ قادمة تظهر وتتواجد، فتقدّم الجديد من العلم والمعرفة، ليضيف إلى الحياة على هذه الأرض.
عباد الله: نسأل الله: أن نكون أداة خيرٍ وسلامٍ ورحمة لنا، ولبلدنا، ولأرضنا.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
اللهم اكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا.   

_______________________

(1)  حديث قدسي أخرجه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي وابن ماجة :" أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعاً وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ".


(2)  مقولة للإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق