الاثنين، 20 فبراير 2017

أنتم مسئولون عن أنفسكم ومسئولون عن أرضكم، ومسئوليّتكم تتناسب مع قدراتكم

حديث الجمعة 
20 جمادى الأول 1438هـ الموافق 17 فبراير 2017م
السيد/ علي رافع

حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
"... الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ..."[الأعراف 43].
عباد الله: يا من ترجون لقاء الله، ويا من تجتمعون على ذكر الله، حديث الحقّ موجّهٌ إليكم، يرشدكم ويعلّمكم، يهديكم ويقوِّمكم، يحفّز طاقاتكم ويدفعكم إلى العمل الصّالح، يقول لكم في أنفسكم قولاً بليغا، ويحمّلكم المسئوليّة ويحمّلكم الأمانة، "...إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً..."[البقرة 30]، "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ..."[الأحزاب 72].
هذا التّكليف الإلهيّ هو تكليفٌ للإنسان أن يكون مسئولاً، [كلّكم راعٍ وكلّكم مسئولٌ عن رعيّته](1)، أنتم مسئولون عن أنفسكم ومسئولون عن أرضكم، ومسئوليّتكم تتناسب مع قدراتكم، "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ..."[البقرة 286].
والنّاس على هذه الأرض يختلفون في قدراتهم وفي أرزاقهم، فهناك من وسّع الله له في رزقه، يكون مسئولاً عن هذا الرّزق الذي رزقه الله له. وهناك من علّمه الله فتعلّم؛ لأنّ قدراته على التعلّم كبيرة، فهو مسئولٌ عن هذا العلم الذي يحمله. وهناك من أعطاه الله قدرةً على ذكره، فهو مسئولٌ عن هذه القدرة التي أعطاها الله له، في أن يكون بذكره أداة خيرٍ وسلامٍ ورحمة له ولمن حوله. وهناك من أعطاه الله قدرةً بدنيّة على العمل الشّاق، فهو مسئولٌ بهذا العطاء أن يبذل هذه الطّاقة فيما ينفع النّاس.
وهكذا، هناك طاقاتٌ وإمكاناتٌ وقدراتٌ وأرزاقٌ كثيرة منحها الله للإنسان، وجعله مسئولاً عن هذه الطّاقات والإمكانات. والمسئوليّة تعني أن يتّخذ قراراً وأن يفكّر فيما ينفع وفيما لا ينفع، ولا يقول إنّي أتّبع ما يُقال إليّ يوم "..تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ..."[البقرة 166]، ويوم يخاطب الشّيطان من اتّبعوه ويقول لهم: "...وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم..."[إبراهيم 22].
لا يستطيع أحدٌ أن يدّعي أنّه يقتل من أجل الدّين، أو من أجل ما قاله الله، أو ما أراده الله، أو ما حكم به الله ـ فهذا يجب أن يكون نابعاً من أنّك فضّلت ذلك، فضّلت هذا الفعل واتّخذت هذا القرار بناءً على فهمٍ عميقٍ لك فيما تقوم به.
لذلك، فإنّ مفهوم ما أراد الله أو ما حكم به الله، مفهوم ما يُقال عنه أنّه الفتوى التي تصدر من عالمٍ دينيّ أو مصدرٍ فقهيّ، لا يعني أنّها صادرةٌ من الله ولكنّها صادرة ممّن أفتى بها، فهي رأيٌ ومفهومٌ في قراءةٍ لما هو موجودٌ بين أيدينا من مصادرٍ حقيّة. وكون أنّنا استقينا هذا الرأي من مصادر حقيّة، لا يعني أنّنا غير مسئولين عنه، وإنّما نحن مسئولون، "...وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ"[النحل 118].
وهكذا نعرف أنّ تقدير الإنسان لعقله ولقلبه ولمقدرته على الفعل، هو أساس التّبليغ الدينيّ، وهذا أيضاً ما نعتقده. "وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ..."[الإسراء 13]، "وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى"[النجم 39]، "وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى"[النجم 40].
وقول الذين تفكّروا وتدبّروا وذكروا: "رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ"[آل عمران 194]، هو تعبيرٌ عن هذا المعنى. فقد وعد الله الذين آمنوا أن يجعلهم أحياءً عند ربّهم، "...اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ..."[الأنفال 24].
وما كانت دعوة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إلّا أن يكون الإنسان خليفةً له على الأرض، خليفةً لله ولرسوله على الأرض؛ لأنّ رسوله هو ما ظهر لنا، ومن علّمنا، ومن كان قدوةً، وكانت قدوته في أن نكون عباداً لله خالصين.
وقد علّمنا ذلك في كلّ قضايا الحياة التي كان يأخذ فيها رأي أصحابه، تعبيراً عن أنّ تفعيلهم لعقولهم هو المطلوب على هذه الأرض، وأنّه فيما يخصّ المجموع، فإنّ عليهم أن يتواصوا بالحقّ ويتواصوا بالصّبر فيتشاوروا ويتدبّروا ـ كمجموعٍ ـ فيما ينفعهم وفيما يصلحهم.
هكذا نذاكر دائماً، أنّ الإنسان لا يستطيع أن يتخلّى عن مسئوليّته، ولا يستطيع أن يعلّق أفعاله على مصدرٍ آخر، حتّى ولو كان هذا المصدر ـ بقوله ـ أنّه الله. فالله لا يعرف أحدٌ ما يقصده وما يريده، وإنّما حين حدّثنا في رسائله وفي رسالاته وفي كتبه وفي رسله ـ حدّثنا لنفهم، ثمّ نستوعب، ثمّ نقرّر ماذا نفعل.
كان حديثه مصدر إلهامٍ لنا لنتفكّر فيما قال، وأن نتفكّر في واقعنا، ونستفتي قلوبنا ونُعمِل عقولنا، حتّى نصل إلى ما فيه خيرنا وصلاحنا. وقد عُلّمنا أيضاً أنّ هذا مطلوبٌ؛ لأنّ الصّواب والخطأ هما أمران نسبيّان، فأُمِرنا أن نجتهد، وأن نجتهد يعني أن نُعمِل عقولنا، ونُعمِل قلوبنا، ونتدبّر في آيات الله لنا، ونتدبّر في أحوالنا، ونتدبّر في واقعنا.
[من اجتهد فأخطأ فله أجر، ومن اجتهد فأصاب له أجران](2)، لنكون غير راهبين أن نُعمِل هذه العقول، وإنّما نُفَعِّلها ونُعمِلها، ونعلم أنّنا قد نخطئ وقد نصيب، والخطأ والإصابة هنا ليست مطلقة؛ لأنّنا لن نستطيع أن نحكم على الخطأ والصّواب المطلق، ولكن الخطأ والصّواب هنا هما مقيّدان، هما نتيجة قراراتنا على أحوالنا في دنيانا، بمقاييس دنيانا؛ لأنّ هذا ما نستطيع أن ندركه.
ولذلك، فنحن مطالبون إن وجدنا أنّنا أخطأنا ألّا نتكبّر وأن نرجع إلى الحقّ، فالرّجوع إلى الحقّ فضيلة. وهكذا علّمنا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في آراءٍ قال بها ورجع عنها حين وجدها لا تؤتي بثمارها في أمورٍ دنيويّة.
أما الأمور الأخرويّة فهي غيبيّة، لا نستطيع أن نحكم بأثر فعلٍ على مستقبلنا الروحيّ وبأثر فعلٍ على مستقبلنا المعنويّ، وإنّما نستطيع أن نلاحظ ذلك في حالتنا وفي حالنا الكلّي، من راحةٍ لشيءٍ ومن تعبٍ وإجهادٍ من شيءٍ آخر، وهذا هو معنى: [استفت قلبك وإن أفتوك وإن أفتوك وإن أفتوك](3). جعل الله لنا في قلوبنا وما تستريح إليه وفي ضمائرنا وما تستريح إليه، أدوات استشعارٍ أرضيّة تمكّننا من معرفة ما يؤثّر على مستقبلنا.
وهذا هو المفهوم الأساسيّ في معنى الحرام والحلال، فهما أمران نسبيّان أيضاً لهما علاقةٌ بالإنسان. ومن هنا كان تعاملنا على هذه الأرض هو بمقاييسٍ دنيويّة، نستطيع قياسها ونستطيع الإحساس بها. وقد جعل الله لنا في وجودنا ما نستشعر به ذلك.
وليس المهمّ أن نصل إلى عملٍ نقوم به بشكلٍ ما، وإنّما المهمّ أن نُفَعِّل ما أعطانا الله من أدوات. وقد يصل الإنسان إلى كسبٍ في الله من خلال عملٍ، ويصل إنسانٌ آخر إلى معنىً أكبر من فعلٍ آخر، وهذان الفعلان متناقضان. عبّر الصّوفية عن ذلك بقولهم: [ربّ معصيةٍ أورثت ذلّاً وانكساراً خيرٌ من طاعةٍ أورثت عزّاً واستكباراً](4).
لذلك، نقول دائماً، إن كلّ فعل ليس هو الحقّ أو الباطل في حدّ ذاته، وإنّما ما ينتج عنه للإنسان وفي الإنسان. كلّ هذا الحديث لنقول: أنّ الإنسان هو خليفة الله على هذه الأرض، وأنّه هو الذي حمل الأمانة، وأنّه هو المسئول عمّا يفعله، وأنّ عليه أن يتحمّل هذه المسئوليّة ولا يفرّط فيها بظنّ أنّه يتّبع ديناً، حتّى. فلن ينفع الإنسان أنّه قال أنّني سمعت فلاناّ ـ وهو عالمٌ ـ يقول افعلوا كذا، ففعلت، فهذا ينطبق عليه حديث يوم "..تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ..."، أو الآية التي تحدّثنا عن ذلك.
عباد الله: نسأل الله: أن يجعلنا من "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ..."[الزمر 18]، وأن نتعلّم كيف نكون في معنى الخلفاء على هذه الأرض، وأن نُحسِن فيما أعطانا الله من قدرات وإمكانات، بقدر قدراتنا وبقدر استطاعتنا. نتّجه إليه دوماً أن يغفر لنا إن نسينا أو أخطأنا، وأن يجعلنا من الذين يتوبون إليه، ويرجعون إلى الحقّ دائماً.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: هو أنّ جوهر الدّين، هو معنى خلافة الإنسان على هذه الأرض. وندرك ذلك من الآية التي أعلن الله فيها ذلك، "...إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً..."، هذا ما نفهمه أيضاً، لا نقول أنّ هذا هو فهمٌ مطلق، لنكون متّسقين مع ما قلناه اليوم.
وإنّما مفهومنا في معنى "...إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً..."، أنّ يوم وُجِد الإنسان على هذه الأرض وُجِدت فيه القدرات التي تمَكّنه من قيادة وريادة نفسه وأرضه، فكان بذلك في معنى الذي حمل الأمانة، ومن ثمّ لا يمكن أن يتخلّى عن هذه المسئوليّة.
وتخلّيه عن هذه المسئوليّة هو تخلّيه عن إنسانيّته، وإذا تخلّى عن إنسانيّته فهو لا يستطيع أن يكمل طريقه كإنسان، إنّه فيمن قيل فيهم من فرّط في أمرنا*، من فرّط في أمانة الحياة كإنسانٍ رزقه الله رزقاً كبيراً فأنفقه فيما لا يعود عليه بعائد.
في مَثَلِ الذي كانت عنده جنّتان ففقدهما بظنّه أنّه قادرٌ وأنّه فاعلٌ، ولم يتّخذ الأسباب ولم يُفَعِّل الإمكانات التي تجعله يُحسِن في تعامله مع نفسه ومع الآخرين، وأن يُحسِن فهمه في أنّه خليفة على ما يملك ولا يملك أيّ شيء آخر، إنّه مسئولٌ أن يدير ما يملكه، أو ما مُلِّك إيّاه ـ بمعنى أصحّ ـ  حتّى يستطيع أن يكسب وجوده على هذه الأرض. وهذا جوهر الحياة، هو إدارة الإنسان لنفسه، وإدارة الإنسان لما خلّفه الله عليه.
وقد أعطينا كل الإمكانات لنُمَكّن من ذلك، كلٌّ بقدره، فالعقول لا تتساوى، والأرزاق لا تتساوى، والقدرة على الذّكر لا تتساوى، واستفتاء القلب لا يتساوى، ليس هناك تساوياً في هذه القدرات، وإنّما كلٌّ عنده منها بقدره، "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ...".
هذا ما أردنا أن نقوله اليوم، حتّى نتعلّم أن نُفَعِّل ما أعطانا الله إيّاه.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا وتعلم ما عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم كن لنا في الصّغير والكبير من شأننا.
اللهم كن لنا فيما نعلم، وفيما لا نعلم، وفيما أنت به أعلم.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم فاغفر لنا ذنوبنا، وكفّر عنّا سيئاتنا، وتوفّنا مع الأبرار.
اللهم ارحمنا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا.          
____________________

(1)   جاء بسنن الترمذي: ‏عن النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم أنه‏ ‏قال: ‏"‏ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وهي مسئولة عنه، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"‏.

(2)   حديث شريف نصه :" إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" المحدث: ابن تيمية .

(3)  حديث شريف جاء نصه: "استفت قلبك واستفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك" قالها الرسول ثلاث مرات. أخرجه أحمد و الدرامي .  

(4)   مقولة لابن عطاء الله السكندري.

* "أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ"[الزمر 56].


 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق