حديث الجمعة
15 شعبان 1438هـ الموافق 12 مايو 2017م
السيد/ علي رافع
حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول
الله.
الحمد لله الذي جعلنا نتدبّر في آياته، ونستمع لكلماته،
ونتفهّم قوانينه، ونرى في كلّ حادثةٍ رسالة، ونتعلّم من كلّ واقعةٍ أمراً وحالة.
عباد الله: إنّا في شهرٍ، في منتصفه وصل
إلينا خبرٌ وحدثٌ، كان له أثرٌ في تاريخ المسلمين، في أدائهم لصلواتهم وفي اتّجاههم
لقبلتهم. تغيّرت وجهتهم من اتّجاهٍ إلى المسجد الأقصى إلى اتّجاهٍ إلى المسجد
الحرام.
ونحن نتذاكر دائماً في معنى القبلة وفي معنى الاتّجاه
إليها، ونتعلّم أنّ الله في كلّ اتّجاهٍ نتّجه إليه، في الشّرق أو الغرب، أو الشّمال
أو الجنوب، أو الأعلى أو الأدنى، "...فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ... "[البقرة 115]. فالقضيّة إذاً ليست في مكانٍ، ولكن القضيّة هي معنى،
والمعنى يمكن أن يتأمّله كلّ إنسانٍ بنظرته وتدبّره لهذا الحدث.
وقد يرى البعض فيه اختباراً لمتابعي الرّسول ـ عليه الصّلاة
والسّلام ـ في أن يستجيبوا لدعوته بالاتّجاه في جهةٍ معيّنة، رغم ما يحدثه ذلك من
تأثيرٍ سلبيّ، عانى منه من الكافرين والمنافقين الذين قالوا: "...مَا وَلاَّهُمْ
عَن قِبْلَتِهِمُ..."[البقرة 142]، إنّهم يتغيّرون ويبدّلون قبلتهم، في حالٍ يتّجهون
هذا الاتّجاه، ثم يتّجهون إلى اتّجاهٍ آخر.
وقد يرى البعض أنّ هذا التغيير جاء استجابةً لما وُثِّق
في آية: "قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ
قِبْلَةً تَرْضَاهَا..."[البقرة 144]، وأنّ ما كان يرتضيه الرّسول ـ صلوات الله وسلامه
عليه ـ هو أن يتّجه إلى البيت الذي وُضِع "... بِبَكَّةَ مُبَارَكًا..."[آل عمران 96]، ، وأنّه يرمز بمعنىً أدقّ
لمعنى القبلة، ولتكون الرّسالة من تغيير الاتّجاه فيها معنى لبيت الله على الأرض،
وأنّه "...أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ..."[آل عمران 96]، ليتّجهوا إليه مباركاً.
وقد يرى البعض أنّ في هذا دلالة على أنّ القضيّة هي في
فهم المعنى، وأنّ ذلك تعبيرٌ عن أنّ الله في كلّ اتّجاه، وأننا نتّجه إليه في المسجد
الأقصى كما نتّجه إليه في البيت الحرام. المهمّ في كلّ ذلك، هو أن نتفهّم معنى
القبلة.
وكما نشرح دائماً ـ أنّ الإنسان يدرك أنّ الله غيبٌ، لا
يستطيع أن يحيط به أحد، ولا يستطيع أن يراه أحد، ولا يستطيع أن يتّجه إليه أحد
بمعنى التّجسيد. فهو ليس وراء السّماوات لترفع وجهك إلى السّماء، وليس هو في الأرض
وأعماقها لتتّجه إليه في الأعماق، وليس هو في الشّرق ولا في الغرب، ولا الشّمال أو
الجنوب، "...وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ
حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ"[البقرة 255]. هو الأوّل فليس قبله شيء، وهو
الآخر فليس بعده شيء، وهو الظّاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، "...لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ..."[الشورى 11].
إذاً، فالاتّجاه هو إلى رمزٍ موجودٍ على الأرض، يرمز
لمعنى الله الذي هو قريبٌ من عباده، "...فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ
الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ..."[البقرة 186]، "...أَقْرَبُ إِلَيْهِ
مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ"[ق 16]، "...وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ..."[الحديد 4]، فكان البيت هو رمزٌ لهذا التّواجد
على هذه الأرض. وكان قلب الإنسان هو رمزٌ لمعنى هذا الاتّجاه، "...أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ".
فكان القلب قبلة، وكانت الكعبة قبلة. وكان اتّجاهك إلى
قلبك هو اتّجاهٌ إلى بيت الله على هذه الأرض، [ما وسعتني أرضي ولا سمائي ووسعني
قلب عبدي المؤمن](1). وكانت الكعبة بمعنى البيت
الموضوع، هي تعبيرٌ عن معنى الشّهادة، معنى المعنى المشهود لله في خلقه، بلا صورةٍ
وبلا شكل.
فكان البيت وجوداً مجرّداً، ليس فيه رسمٌ أو صورة، إنّه
تعبيرٌ مجرّد لمعنى التّواجد على الأرض، لمعنى أنّه قلب هذه الأرض، كأنّه رمزٌ
لمركز الحياة على هذه الأرض، إنّه مركزٌ لدائرةٍ كبيرة يلتف حوله ـ حول هذا المركز
ـ النّاس جميعاً في دوائرٍ تقترب منه وتبتعد عنه من النّاحية الماديّة.
أمّا من النّاحية الرّوحيّة فالكلّ قريب، فقطر أكبر
دائرة لأيّ إنسان متواجدٍ على محيطها، على هذه الأرض، من النّاحية الروحيّة، كأيّ
إنسانٍ في أقرب دائرةٍ ملاصقةٍ لهذا المركز. هذا ليس مجرّد تشبيه، فنحن نرى اليوم
في عالم الاتّصال، أنّك تتّصل بأقصى دائرةٍ في زمنٍ لحظيّ. والقضية إذاً، ليست
قرباً ماديّاً، ولكن القضيّة هي قربٌ روحيّ.
إذاً، فالقبلة في داخلك هي قلبك، والقبلة في خارجك هي
بيت الله الموضوع، لا بمكانه فقط ولكن بما يرمز إليه. إدراك الإنسان لذلك، يساعده
في التّركيز على أن يقيم صلةً بالله. فهو في إدراكه المجرّد يعلم أنّ صلته بالله
هي غيب. وفي واقعه المقيّد وهو يريد أن يقيم هذه الصّلة في أمرٍ مشهود، فإنّ أمامه
الطّريق أن يقيم هذه الصّلة في شهادته، باتّجاهه إلى قلبه في الداخل، وباتّجاهه
إلى بيت الله في الخارج.
إنّ الإنسان لو تصوّر أن بيت الله محيطٌ به، كما لو أنّه
في داخله، لكان كلّ اتجاهٍ هو اتّجاهٌ إلى بيت الله. لو تصوّرت أنّك داخل الكعبة
وتريد أن تصلّي داخلها، ففي أيّ اتجاهٍ سوف تتّجه، فهو بيت الله.
ولو تصوّرت أنّ بيت الله الموضوع يشمل كلّ النّاس على
هذه الأرض، لأصبح معنى "...فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ
وَجْهُ اللّهِ... "، له معنىً عندك، وأصبحت تدرك أنّك لو غُمَّ عليك من
ناحية الظّاهر ولم تعرف كيف تتّجه، فلتتّجه إلى أيّ اتجاهٍ لتصلّي ولتقيم صلاتك،
وتصوّر أنّك داخل بيت الله وأنّ الله محيط بك.
بل أنّ هذا ما يجب أن تتعلّمه في كلّ معاملاتك، أن ترى
الله محيطاً بك، وأنّك في داخل بيته، فيكون كلّ تعاملٍ لك هو تعاملٌ مع الله. إنّا
نتكلّم في مفاهيم لمن يريد أن يتعلّم، ولمن يريد أن يمارس عباداته بفهمٍ عميق لما
يقوم به، وليس مجرّد تأدية حركاتٍ يعتقد بها أنّه قد أدّى صلاته.
إنّ فهمك لقبلتك هو أساس إقامتك للصّلاة. فإذا كان ظاهر
الشّرع يخبرك بأن تتحرّى الاتّجاه في إقامتك للصّلاة، بحيث تكون متوجّهاً جغرافيّاً
إلى مكان البيت الموضوع، فإنّ هذا تعبيرٌ أن تكون نيّتك وأنت تقيم الصّلاة، أن
تكون متّجهاً إلى معنى هذا البيت الموضوع كرابطٍ يربطك بالغيب ويجعلك على صلةٍ
بهذا الغيب.
عباد الله: نسأل الله: أن نكون من "الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ..."[الزمر 18]، وأن نتفهّم آيات الله لنا،
وأن نتعلّم منها، وأن نقوم فيها.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول
الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: هو
أن نتدبّر في معنى القبلة، لنقيم صلاتنا بعمقٍ وبصلةٍ بالله حقّاً، ولتكون نيّتنا
قائمةً على فهمٍ لمعنى اتّجاهنا لهذا البيت، وليست على مجرّد اتجاهٍ مكانيّ. وكمال
نيّتنا هو في كمال فهمنا وإدراكنا.
وكمال إدراكنا وفهمنا، يجيئ من التدبّر بعمق في معنى حدث
تغيير القبلة، وفيما قيل عن القبلة، وفيما قيل عن بيت الله، وفي معنى الشّهادة،
وفي معنى الغيب، وأنّنا نؤمن بالله كغيب تجريداً، ونؤمن به في واقع الحياة
بقوانينها كشهادة، ونعلم أنّ تأديتنا لعباداتنا هو تعبيرٌ عن معنى صلتنا بالغيب من
خلال مشهودٍ لنا، فنكون بذلك قائمين في الحضرتين بالحضرتين، في حضرة الشّهادة، وفي
حضرة الغيب.
قد يجد البعض هذا الكلام غريباً أو صعباً، ولكنّه في
واقع الأمر ليس كذلك، إنّه شرحٌ وتفهّمٌ لما نقوم به بصورةٍ تمكّننا من أن نكون
صادقين في قيامنا؛ لأنّه إن لم نتفهّم ذلك بعمق، فستكون حركتنا هي حركةٌ ميكانيكيّة
شكليّة، ليس لها جانبٌ روحيّ ولا جانبٌ حقّيّ، وهذا ما لا نرجوه.
لا نرجو أن تكون صلاتنا صلاةً شكليّةً ظاهريّة، أو أيّ عبادةٍ
من عباداتنا أمراً ماديّاً شكليّاً، حتّى لا نكون في معنى: [من لم تنهه صلاته
فلا صلاة له](2)، ولا نكون في معنى أنّ قيامنا
لا طائل من ورائه، إلّا حركةً وتعباً، [كم من مصلٍّ لم يزدد بصلاته من الله إلّا
بعدا](3).
[الصلاة عادة](4)، إذا أخذناها من النّاحية الظّاهريّة.
[والصّوم جلادة، والدّين المعاملة](5). فهل هذا يعني أنّ الصّلاة هي
مجرّد عادة، ولا نتفهّم من هذا الحديث أنّ مجرّد المواظبة بدون فهمٍ يصبح عادة،
وأنّنا نريد أن تكون هذه العادة مفيدة منتجة مثمرة، حتّى لا نكون في معنى، [كم
من مصلٍّ لم يزدد بصلاته من الله إلّا بعدا](6).
عباد الله: نسأل الله: أن يوفّقنا أن نتفهّم
آياته بعمق، وأن نتفهّم أحداث الحياة لنا بعمق، وأن نقرأ رسائله وأن نقرأ آياته،
وأن نتعلّم من كلّ آيةٍ ما يمكّننا من أن نكون أفضل وأن نكون أحسن.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما
عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك،
ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين،
عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل
باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنباً إلّا غفرته، ولا
همّاً إلّا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا
أرحم الرّاحمين ارحمنا.
_______________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق