الأربعاء، 24 يناير 2018

التوافق بين مفهومنا لآيات الله وما نجده في داخلنا من راحةٍ لهذا المفهوم هو الصراط المستقيم

حديث الجمعة 
21 صفر 1438هـ الموافق 10 نوفمبر 2017م
السيد/ علي رافع

حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
"....الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ..."[الأعراف 43].
الحمد لله الذي جعلنا من الذين يتأمّلون ويتفكّرون، ولمعنى الحقّ فيهم يذكرون، وعملاً صالحاً يرجون، ويستغفرون، ولله يتوبون ويرجعون، وفي رحمته يطمعون، ولكرمه يسألون. يرجون أن يكونوا من الذين يرون آيات الله في السّماوات وفي الأرض وفي أنفسهم، أن يكونوا من الذين بنور الله يرون ما حولهم وما في أنفسهم، ألّا يكونوا من الضّالين الذين لا يفقهون والذين لا يسمعون والذين لا يشهدون، دائماً يدعون. أن نكون من الذين دائماً يدعون، "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ..."[الفاتحة 7،6].
هكذا تُعلّمنا آيات الحقّ، أن نرى آياته في الآفاق وفي أنفسنا، تُعلّمنا آيات الحق أنّ "اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ..."[النور 35]، تُعلّمنا آيات الحقّ، أنّ نوره فينا، وأنّ رحمته المهداة تسري بنوره فينا، "... وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ..."[الأنعام 122] ، "... مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ..."[النور 35]، هذا المصباح هو ما في الإنسان من نور الله، هذا المصباح هو جوهره، هو فطرته، هو قلبه.
والقلب هنا، لا نعني به هذا العضو في الجسد، وإنّما نعني به كلّ ما في داخل الإنسان من فطرة الله، جوهره، وفطرته، ونوره، ونعمته، وسرّه، وحياته، وكلّ ما فيه من دعوةٍ للخير والصّلاح والفلاح.
نتعلّم من آيات الله، أنّه حين يحدّثنا عن آياته، يحدّثنا عنها في الآفاق كما يحدّثنا عنها في أنفسنا. وأنّه حين يحدّثنا عن نوره، يحدّثنا عن نوره في الآفاق ويحدّثنا عن نوره في أنفسنا. حين يأمرنا أن نتأمّل ونتدبّر، "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ..."[العنكبوت 20]، كما يقول لنا "وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ"[الذاريات 21]، أرسل لنا رسولاً يحدّثنا من خارجنا ويحدّثنا من أنفسنا.
كتاب الله لنا، أرسله من خلال رسوله الذي بَلّغنا، وأرسله لنا من خلال ما فَطرنا عليه، فبُلِّغنا بكتابه بفطرتنا. وكان الإنسان بين خارجه وداخله، يسمع من خارجه ويسمع من داخله، وكانت حكمة الله أن خلق الإنسان كذلك، حتّى يسير على الصّراط المستقيم.
فحين توسوس له نفسه المظلمة من داخله، تكون دعوة الحقّ من خارجه وسيلةً لهدايته وتقويمه. وحين يسيئ فهم ما قيل له من خارجه، تكون فطرته التي فطره الله عليها وسيلةً ليقوِّم فهمه إلى الطّريق القويم وإلى الطّريق المستقيم.
فإذا صلُح الإنسان من داخله ومن خارجه، بأن كان مدركاً لما يسمعه من خارجه كما كان مدركاً لما يسمعه من داخله، يتوافق الخارج والدّاخل، فيستقيم الإنسان كما أُمِر، "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ..."[هود 112].
وحين يحيد الإنسان عن الطّريق القويم، بأن لا يُعمِل ما أعطاه الله من نعمة العقل وهو يستمع إلى خارجه، وما أعطاه من نعمة العقل وهو يستمع إلى داخله، يكون الإنسان أمره فرطا.
فـ "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ..."، هم من قيل فيهم: "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ..."[الكهف 28]. وأمّا الذين حادوا عن الحقّ في سماعهم للحقّ في خارجهم، وحادوا عن الحقّ في استماعهم لما في داخلهم، فهم من قيل فيهم: "... وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا"[الكهف 28].
لذلك، فإنّ الدّين يُعلّمنا ويوجّهنا، أنّنا إذا استمعنا إلى توجيهٍ من خارجنا، أن نُعمِل فيه عقولنا وأن نتواصى فيه بالحقّ والصّبر بيننا، فلا نكون من المقلّدين، وإنّما نكون من المتفكّرين المتدبّرين، لا يعتزّ كلٌّ منّا برأيه، وإنّما يتواصى به مع إخوانه، وهذا هو معنى التّواصي بالحقّ والتّواصي بالصّبر، وهذا هو معنى اجتماع الأمّة.
إن اجتماع الأمّة لا يعني مجرّد أن نستمع لرأيٍ اتّفق عليه البعض، أيّاً كان هذا البعض، أو أيّاً كان هذا الكلّ، فالكلّ في زمانٍ ليس الكلّ في زمانٍ آخر، والكلّ في مكانٍ ليس الكلّ في مكانٍ آخر، وأفراد هذا الكلّ إن لم يتواصوا بأن يتحاوروا وأن يقلّبوا الأمور من كلّ وجهةٍ ومن كلّ فهمٍ ممكنٍ، لم يكن هذا تواصٍ، ولا يكون هذا اجتماعاً.
فاجتماع الأمّة ليس مجرّد تصويتٍ على رأيٍ، وإنّما هو أن يكون هؤلاء الذين يجتمعون قادرون على أن يقلّبوا الأمر من جميع جوانبه، بعقولهم وبدراستهم وبقراءتهم، غير منحازين لرأيٍ مُسبّقٍ، ولا لسلفٍ أو خلفٍ أو فكرةٍ، وإنّما يطلبون الحقّ للحقّ. والحقّ ما يهدي النّاس، وما يُصلِح حال النّاس، وما يتّفق مع ما يراه النّاس بفطرتهم.
الحقّ حقٌّ، يوم يراه النّاس بأن يعكسوا البصر إلى داخلهم فيجدوه، لا بأن يعكسوا البصر إلى داخلهم فيرون غيره، فيظنّون أنّ الحقّ فيما قيل لهم، وأنّهم لا يرون. هذا التّناقض بين الخارج والدّاخل يجعل الإنسان طالباً لمعرفةٍ أكثر، ولفكرٍ أكثر، ولتواصٍ أكثر، حتّى يصل الجميع إلى توافقٍ بين خارجهم وداخلهم، بين رؤيتهم لما يرونه حقّاً على أرضهم، وبين ما استمعوا إليه على أنّه الحقّ من مصدرٍ خارجهم، يثقون فيه ويؤمنونٍ به.
وهذا ما ندعو به دائماً، وهذا ما علّمتنا الآيات إيّاه، ونحن نردّد في دوامٍ الآية: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"[آل عمران 104].
"وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ"[آل عمران 105]، "الَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا"، تمسّك كلٌّ برأيه وظنّ أنّه الحقّ المطلق، ولم يجئ ويجتمع مع إخوانه ويجيئ إخوانه ويجتمعون معه، ويحاولون أن يصلوا إلى المعروف فيدعون إليه، وإلى المنكر فينهون عنه.
عباد الله: إنّنا لا نستطيع أن نعرف الحقّ المطلق ـ كما نقول دائماً ـ ومن ظنّ أنّه عرف مطلقاً فهو ما عرف إلّا نسبيّاً ولكن نسب إليه الإطلاق. فنحن بوجودنا على هذه الأرض، لن نعرف إلّا ما هو نسبيٌّ لنا. لذلك، فهذا هو المهمّ أن نتّفق عليه، حتّى نُصلِح حالنا، وحتّى نكون أكثر صلاحاً وفلاحاً.
عباد الله: إنّ أيّ تصوُّرٍ للغيب في مشهودٍ، هو تفكيرٌ ناقص، وهو تصوُّرٌ ناقص. لذلك، كانت شهادة أنّ لا إله إلّا الله، وكان المعنى: "ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ..."[البقرة 2، 3]، فإيماننا بالغيب، هو إيمانٌ مطلق لا نضع له صورةً، ولا نرسم له شكلاً، ولا نصوِّر له تصويراً، وإنّما واقعنا هو الذي يحكمنا، وهو الذي يجعلنا نأخذ هذا الطّريق أو ذلك الطّريق.
عباد الله: نسأل الله: أن نكون من "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ..."[الزمر 18]، ومن الذين يرون الله في الآفاق وفي أنفسهم، يرون آلائه، ويرون آياته، ويرون نوره، ويرون بنوره ما خارجهم وما في داخلهم.
نسأل الله: أن يحققّ لنا ذلك، وأن يجعلنا كذلك.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أنّ الدّعوة إلى الحقّ، ومفهومنا لهذه الدّعوة، هو مفهومٌ نسبيّ، وهذا المفهوم النسبيّ يجب أن نراه في أنفسنا حين نعكس البصر إلى داخلنا.
فنحن حين نستمع إلى آيات الله، وإلى ما أمر به الله، مفهومنا لهذا الأمر، يجب أن يتوافق مع ما نجده في داخلنا من راحةٍ لهذا المفهوم، ومن معقوليّةٍ لهذا المفهوم، كأفرادٍ وكجمعٍ ـ لا نتواصى إلّا بما تستريح له قلوبنا، وتقبله عقولنا، ونجتمع عليه كأمّةٍ، خاصّةً في أمور حياتنا الدّنيويّة، وفي مصالحنا الأرضيّة، وفيما نراه أحسن لمجتمعنا ولأفراد هذا المجتمع.
ونحن نوجَّه في آياتٍ كثيرة إلى أن نقوم بهذا الفعل، بأن نرى الآيات في الآفاق ونرى الآيات في أنفسنا. وآيات الله لها صورٌ كثيرة، ومن هذه الصّور هي مفهومنا للحقائق الكونيّة، وإدراكنا لأسباب الخلق، وهذا الإدراك هو إدراكٌ نسبيّ، وهذا الإدراك النسبيّ هو ما نطلق عليه العلم، فعلمنا عن هذا الوجود، هو علمٌ نسبيّ، وليس هذا العلم علماً مطلقاً.
فرؤيتنا لآيات الله هي رؤيةٌ نسبيّة، بقدرتنا على النظر، وعلى التّحليل، وعلى الاستنتاج لما نراه ومما نراه. ما نصل إليه من نتائج نتيجةً لهذه الرّؤية، سواء كان هذا فيما أُمِرنا به من معاملاتٍ على أرضنا وفي دنيانا، أو ما أُمِرنا به من عباداتٍ، فمفهومنا عن العبادات هو أيضاً مفهومٌ نسبيّ، ومع أنّنا لا نستطيع أن ندخل في تفاصيلٍ كثيرة عن هذه الأوامر الخاصّة بعباداتنا الغيبيّة، إلّا أنّنا نستطيع أن يكون لنا مفهومٌ عن معنى هذه العبادات بالنّسبة لنا.
فلا يهم أن نجد مفهوماً في شكل العبادات، ولكن الضروري أن يكون لنا مفهومٌ في معنى القيام بها. فالصّلاة في أيّ شكلٍ كانت، ونحن نتّبع شكلاً، اقتداءً بما علّمنا إيّاه رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كرمزٍ دائمٍ لمعنى الصّلاة، نعلم أنّه رسالةٌ نحافظ عليها لنقرأها، ولكن يجب أن يكون لنا مفهومٌ في قيامنا بالصّلاة، وأنّها علاقةٌ بيننا وبين ربِّنا، نستعين بها على أن نعيش حياةً صالحةً مستقيمةً، و[من لم تنهه صلاته فلا صلاة له](1).
فالصّلاة تساعدنا أن نسير في الطّريق القويم وعلى الصّراط المستقيم، وهي دعاءٌ في المقام الأوّل، ندعوه في كلّ لحظةٍ وحين. وإذا كانت لنا أوقاتٌ، فهذا حتّى لا ننسى أن ندعو الله دائماً، "... وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ..."[الكهف 24].
هكذا نتعلّم أنّنا علينا أن نستمع لقول الحقّ من خارجنا، كما نستمع لقول الحقّ من داخلنا، والتّوافق الذي يحدث بين ما نسمعه من خارجنا وبين ما نراه في داخلنا، يساعدنا أن نسير في الطّريق القويم. وإذا فقدنا هذا التّوافق، فإنّنا نكون في ضلالٍ مبين.
نسأل الله: أن يجعلنا من "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ..."، ومن "... الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ..."، ومن "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ ..."[آل عمران 191]، وأن نكون دائماً طالبين أن نكون عباداً صالحين.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنباً إلّا غفرته، ولا همّاً إلّا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
"رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ"[آل عمران 193].   

___________________

(1) أخرجه الطبراني الجامع الصغير للسيوطي بنص:"من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً".




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق