حديث الجمعة
5 ربيع الأول
1438هـ الموافق 24 نوفمبر 2017م
السيد/ علي رافع
حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول
الله.
الحمد لله، والحمد دائماً لله، والشكر دائماً لله، والصّلاة
والسّلام على رسول الله.
عباد الله: إنّ كلّ رسالات السّماء وكلّ
رسل الله، جاءوا ليعلّموا النّاس كيف يُعمِلوا ما أعطاهم الله من طاقاتٍ وقدرات،
وأن يُفعّلوا أمانة الحياة التي منحهم إياها، وهذا هو الحقّ المبين، "وَقُلْ
جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا"[الإسراء 81].
فالحقّ المشهود لنا على هذه الأرض، هو ما أعطانا الله من
قدرات، من قدرة التّأمّل والتّدبّر، من قدرة الفهم والإدراك، من قدرة المشاهدة
وتحليل ما نشاهده، من قدرة الذّكر والإحساس بالذّكر، بنعمة الضّمير وما يمليه
علينا ضميرنا، وما يرشدنا إليه قلبنا، من نعمة القدرة على العمل بجوارحنا وتغيير
ما حولنا، واستحداث ما يمكن أن يساعدنا في حياتنا، في التّواصل مع إخواننا، في التّواصي
بالحقّ والصّبر بيننا، في توحيد كلمتنا، وفي إعلاء ما نرى أنّه الأفضل والأحسن
والأقوم، وفي تنظيم مجتمعنا، وفي وضع قوانين تحكم حياتنا ومعاملاتنا، وفي قدرتنا
على التّعلّم من خبرات غيرنا، ومن التّعلّم من أخطائنا ومن أخطاء من حولنا.
كلّ هذه النّعم التي أنعم الله بها علينا، هي الحقّ
المبين، هي الحقّ المشهود، هي الحقّ الموجود، هي الحقّ الذي أُمِرنا أن نُفعِّله
بيننا، هذا ما أنزل الله لنا.
إنّ تصوُّر البعض، أنّ الحقّ هو مجرّد أوامر تلقّيناها
في كتاب الله وفي سنّة رسول الله، ننفِّذها بظاهرها، هو فهمٌ يتعارض مع آياتٍ
كثيرة، تحثّنا على الفهم، وعلى التّدبّر، وعلى أن نفهم آيات الله في تكاملها، لا
أن نأخذ منها حرفاً من هنا وحرفاً من هناك، وإنّما نفهمها في إطار مقصودٍ كليّ
واقعيّ، من آيات الحقّ لنا في الآفاق وفي أنفسنا.
لذلك، فإنّ علينا أن نجمع بين الأمرين، بين أمرٍ يجيئ
بصيغة الفعل، وأمرٍ يجيئ بصيغة التفكّر والتدبّر. فالأمر الذي يجيئ بصيغة الفعل
والأمر بالفعل، لا يكتمل إلّا بأن نتفكّر ونتأمّل فيه في إطار المقصود الكليّ، لا
يكتمل إلّا بأن ننفّذ الأمر الآخر، وهو التّفكر والتّدبّر فيما نسمعه ونتلقّاه.
الآيات تعلّمنا ذلك، "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ
وَالْبَغْيِ ..."[النحل 90]، فهو أمرٌ يتبعه فعل، فما هو الفعل؟ علينا أن
نتفكّر في ذلك. أُمِرنا بالعدل، فما هو العدل؟ أُمِرنا بالإحسان، فما هو الإحسان؟
أمرنا بإيتاء ذي القربى، فما هو إيتاء ذي القربى؟ ونهينا عن الفحشاء والمنكر
والبغي، فما هي الفحشاء؟ وما هو المنكر؟ وما هو البغي؟
كلّ هذا يستتبع منّا أن نسير في الأرض، لنفهم هذه
المعاني، "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ
..."[العنكبوت 20]، "وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ"[الذاريات 21]، "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا
فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ
..."[فصلت 53].
فإذا أردنا أن نقيم العدل، فعلينا أن نتأمّل في حالنا،
وفي واقعنا، وفي احتياجاتنا، وفي تفاعلاتنا ومعاملاتنا كأفراد وجماعات. أن نتفكّر
كيف نقيم العدل بيننا، وأن نُعرِّف ما هو العدل بيننا، فنضع القانون الذي ينظّم
العلاقة بيننا وبين بعض، وننظّم كلّ المعاملات.
فالذي يعمل عملاً عليه واجبات وله حقوق، والذي يبيع
ويشتري يجب أن يراعي ما يقدّمه من سلعٍ وخدمات، يراعي جودتها، وألّا يكون مغالياً
فيما يتقاضاه ـ بنسبةٍ تتناسب مع ما تحمّله من تكاليف ومن جهدٍ يقوم به. تُنظَّم
هذه الأمور بالتّوافق في المجتمع.
وكما نشير دائماً إلى الآيات التي تعلّمنا ذلك، "وَلْتَكُن
مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"[آل عمران 104]. فكلّ هذه الأوامر الإلهيّة،
هي موجَّهةٌ للأمّة التي تتلقّى هذه الأوامر، لتتأمّل فيها، ولتنظر في كيفيّة
تطبيقها في المجتمع. إنّ آلية التّطبيق منوطٌ بها هذه الأمّة التي تفكّر، وتتدبّر،
وتتواصى، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر.
إن الإنسان هو خليفة الله على الأرض. والإنسان هنا ليس
فرداً، وإنّما هو نوعٌ، هو جماعةٌ، هو أمّةٌ، هو البشر جميعاً، "... كلّكم راعٍ وكلّكم مسئولٌ عن رعيّته"(1)، فالإنسان فيما يخصّه هو خليفة
الله على نفسه، وعلى من يعول، وعلى من يرعى. والأمّة، بمن تختاره منها، هي مسئولةٌ
عن المجتمع، وما يُنفَّذ فيه، وهذا موجودٌ في آيات الله.
فالذين يقرأون آيات الله بصورةٍ معيّنة، عليهم أن يتفكّروا
في قراءتها بصورةٍ أخرى متناغمة مع الآيات الأخرى. فحين نسمع: "وَمَن لَّمْ
يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ"[المائدة 44]، يفسّرها البعض كما لو أنّ ما
أنزل الله هو أفعالٌ يمكن تطبيقها في أيّ مجتمعٍ بصورةٍ محدّدة.
وهنا يحدث الصّراع بين المفهوم الجامد، وبين الواقع
المتغيّر. ولا يتناغم هذا التّفكير أو هذا التّفسير مع معنى الأمّة التي تتواصى
بينها بالحقّ والصّبر، وتبحث عن أفضل ما يمكن أن تعطيه للأمّة، فتكون مجرّد مردّدةٍ
لأقوالٍ سابقة، تفرضها بالقوّة، ولا ترى فيما يحتاجه النّاس وفيما يتوافقون عليه،
أيّ اعتبارٍ في فرض ما يجب أن يكون، أو في إصدار ما يجب أن يكون من قانونٍ أو
تشريع، وتصبح هذه المجموعة المتسلّطة فارضةً لفهمٍ محدودٍ جامد، بظنّ أن هذا هو ما
أنزل الله، وتُكفّر أيّ فريقٍ آخر لا يقول بذلك.
مع أن مفهومنا فيما أنزل الله، هو احترام الإنسان،
واحترام الأمّة، واحترام عقل الإنسان، ليس في رفضه لما أنزل الله من آيات، وإنّما
في فهمها فهماً صحيحاً، وفي تطبيقها بما يفهمه المجموع، وبما يتوافق مع المصلحة
الظّاهرة الحاضرة، وأنّ اجتهاد الإنسان في ذلك، هو ما أنزل الله. فالله لا يريد أن
يكون النّاس مجرّد آلاتٍ تُنفِّذ أوامر لا تفهمها، أو تُشرِّع قوانين لا تدركها،
وإنّما يريد أن يلهمهم الحقّ بمعناه الأسمى، ليقوموا بتطبيقه بما يتناسب مع وجودهم.
فكلّ مجتمعٍ في زمانه ومكانه، قد تختلف الآليات التي تُصلِحه،
إنما القيم الكليّة هي واحدة، والمقاصد الكليّة هٍي واحدة. فكلّ مجتمعٍ يأمل في أن
يعيش أفراده في تناغمٍ وتكاملٍ، أن يتعلّم، وأن يتطبّب، وأن يعمل، وأن يجد ما به
يعيش، مسكناً يسكنه، ولباساً يلبسه، وطعاماً يأكله، وعملاً يعمله، وحريّةً يعبّر
في إطارها عن رأيه وفكره.
وفي اعتقاده ومعتقده، يُذكِّر بما يراه، ويقبل الآخر
الذي يعترض عليه، دون عنفٍ ودون صراعٍ، وإنّما في أطارٍ من المحبّة والسّلام، وأن
يكون الإنسان له حقوقه في أن يفكّر في حاضره ومستقبله، أن يؤمن بآخرةٍ أو لا يؤمن
بها، هذا يخصّه في إدراكه وفي فكره، إنّما لا يعتدي إنسانٌ على إنسانٍ، ولا يسرق
إنسانٌ إنساناً، ولا يقتل إنسانٌ إنساناً.
وكلّ إنسانٍ وهو يعبّر عمّا يرى أنّه الخير، يعبّر عنه
ويُذكِّر به، والحجّة تُجابَه بالحجّة، والفكر يُجابَه بالفكر، دون أيّ عقابٍ أو
ثوابٍ على فكرٍ، وعلى عقيدةٍ، وعلى اتّجاهٍ. كلٌّ يعتقد ما هو له أهل، "...
فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ..."[الكهف 29]، "لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ"[الغاشية 22]، "فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ
الذِّكْرَى، سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى، وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى"[الأعلى 9 ـ 11]. هكذا نفهم الحقّ.
لذلك، فإن احترام الإنسان لما اتّفق عليه المجموع، هو من
الحقّ، وليس من الحقّ أن يفرض إنسانٌ ما يراه هو، وإنّما عليه أن يراعي مجتمعه، حتّى
ولو كان في داخله يرى أنّ مجتمعه فيه ظلمٌ فيما شرع من قوانين، فإنّ ذلك يُراجَع،
ويحاول كلٌّ أن يدلي بدلوه في تغيير هذا القانون الظّالم، إذا كان. ولكن لا يقوم
إنسانٌ ويفرض قانوناً من رأيه، فيستحلّ أموراً لا يُجيزها المجتمع، بظنّ أنّ هذا
هو الحقّ ـ فهذا يخلق تضارباً وفوضى في المجتمع، أسوأ من ظلمٍ قد يقع على الإنسان
من قانونٍ ظالم.
عباد الله: إنّ الإنسان وهو يعلم أن
قدراته محدودة، فعليه وهو يقدّم رأيه، أن يدرك أيضاً أنّ رأيه وأن معتقده ربما
يكون ليس الأكمل وليس الأفضل، فيقبل ويتأمّل في رأي الآخر، ولكن في النّهاية، هو يُرجِّح
رأياً على رأيٍ، وعليه أن يفعل ما يراه أنّه الخير، وأنّه الحقّ، وأنّه الصّواب
بالنسبة له.
هذا ما نتأمّل فيه في مفاهيم ملتبسة في المجتمع، نحاول
أن نلقي ضوءاً عليها، وقد يكون مفهومنا على جانبٍ من الصّواب، وقد يكون فيه شائبةٌ
أو خطأ، وإنّما بما نعتقده بأن نُذكِّر بما نرى أنّه الصّواب، فهذا ما رأيناه
صواباً، وهو كما قال السابقون: [يحتمل الخطأ](2).
ونرى في الذين يغالون في فهم آيات الله ويجسّدونها ويجمّدونها
عند عصرٍ وعند فكرٍ إنسانيّ، أنّه خطأ، وربّما يكون فيه شيءٌ من الصّواب. إنّما هذا
رأينا، لا نقول بمطلق صحّته، ولا نقول أيضاً بأنّ رأي الآخرين بمطلق الخطأ، وإنّما
علينا أن نفكّر ونتأمّل، وأن يكون الحَكَم بيننا هو ما فيه خيرنا وخير مجتمعنا،
بمعايير الأرض التي نعيش عليها.
أمّا الحقّ المطلق فهو عند الله يعلمه ويُقِيمه، والعدل
المطلق هو عدل الله يعلمه ويُقِيمه، وإذا تجاوزنا في حقّ أيّ إنسانٍ، أو تجاوز
الآخر في حقّنا، فسوف يعدل الله بيننا ويُقوِّم أمرنا.
فنسأله دائما: أن يعيننا على أنفسنا، وأن يعيننا على أن
نتقبّل ما يقع علينا من ظلمٍ أو من عدوانٍ، وأن نسأله أن يدفع هذا عنّا، وأن
يثيبنا بتقبّلنا عنده برحمته، وأن يكون هذا تطهيراً لنا ممّا قدّمنا من ذنبٍ أو
فعلٍ، أثّر علينا أو أثّر على غيرنا سلباً، فنحن نسأله دائماً: "...
رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا
مَعَ الْأَبْرَارِ"[آل عمران 193].
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول
الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما
عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتأمّل فيما أنزلت، وفيما أرسلت، في آياتك في
الآفاق وفي أنفسنا، لنعرف الحقّ الذي علينا أن نتّبعه على أرضنا، وبواقع مادّي
وجودنا، فلا نرى إلّا ما أوجدت فينا من عقلٍ نتأمّل به فيما يُصلِح حالنا، وفيما
هو أفضل لمجتمعنا، وما وجّهتنا إليه بأن نتواصى بالحقّ والصّبر بيننا، وأن نأمر
بالمعروف وننهى عن المنكر، وأن نكون أمّةً صالحة.
أمّةً تدعو إلى الخير، أمّةً تبحث عن الحقيقة، تسير في
الأرض فتنظر كيف بُدِئ الخلق، تنظر في الآفاق وفي أنفسها، تتفكّر، وتتدبّر، وتذكر،
وتعمل، وتتوافق بينها، وتضع حقّ الإنسان أمامها، وتُعلِي من شأن هذا الحقّ في كلّ
أفعاله، وأوّل هذا الحقّ أن يفكّر، وأن يقول، وأن يرغب، وأن يقدّم رأيه في حريةٍ
كاملة ـ وأنّ هذا هو أوّل شيءٍ يؤدّي إلى الخير للمجتمع وللأمّة.
هكذا نتعلّم الحقّ واقعاً، نتعلّم "وَقُلْ جَاءَ
الْحَقُّ" واقعاً، "وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا".
اللهم وهذا حالنا وهذا قيامنا، نتّجه إليك، ونتوكّل عليك،
ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين،
عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل
باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنباً إلّا غفرته، ولا
همّاً إلّا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وكفّر عنّا سيئاتنا.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، وتب علينا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا
أرحم الرّاحمين ارحمنا.
____________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق