الأحد، 29 يوليو 2018

الطّريق في الله لا نهاية له، والطّريق يبدأ من صحوة الإنسان وإعماله لقدراته التي أعطاها الله له.


حديث الجمعة 
9 رمضان 1439هــ الموافق 25 مايو 2018م
السيد/علي رافع

حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
عباد الله: تدبّروا آيات الله، واذكروا الله كثيرًا، وسبّحوه بكرةً وأصيلا، حتّى يتبيّن لكم طريق الحقّ، وطريق الحياة. وهذا ما قام به عباد الله في قديمٍ، وما يقومون به في حاضرٍ، وما سيقومون به في مستقبل.
إنّه الذّكر الدّائم، والتفكّر الدّائم، وإدراك معنى الحياة، من داخل الإنسان، ونتيجةً لذكره وتأمّله. فالطّريق، يبدأ من صحوة الإنسان، ومن إعماله لقدراته التي أعطاها الله له. فإذا نظرنا إلى سيرة الرّسل، والأنبياء، وعباد الله الصالحين ـ نجدهم جميعًا قد بدأوا بذلك.
فإبراهيم ـ عليه السّلام ـ تفكّر في معنى وجوده، وسبب وجوده، وما وراء هذا الوجود. ومحمّدٌ ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ رفض حال قومه، ونأى بنفسه أن يكون مثلهم، واختلى ذاكرًا ربّه، مدركًا أنّ هناك قوّةً وراء هذا الكون.
وعباد الله بعد ذلك، وجدوا قومهم وبيئتهم تتحدّث عن الدّين كشكلٍ وصورة، فأعملوا عقولهم، وذكروا بقلوبهم، وتأمّلوا فيما يقوله النّاس حولهم، وأيضًا نأوْا بأنفسهم عن أن يكونوا مثل النّاس حولهم، ولجأوا إلى الله، ذكروا بقلوبهم، وتأمّلوا بعقولهم، فأدركوا ما لم يدركه النّاس، وأكبروا الله في قلوبهم، وفي عقولهم، وفي نفوسهم، عن أيّ صورةٍ أو شكل.
والآيات، توضّح هذه المعاني، حين تتكلّم عن: "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ..."[آل عمران 191]، سيصلون إلى نتيجةٍ: "... رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا ..."[آل عمران 191].
وهذه هي البداية، لينطلق الإنسان في رحلة الحياة، "رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا"، قد وجد الإنسان بذلك سببًا لوجوده، وإن كان لا يعرفه بشكلٍ محدّد، وإنّما يكفيه أن يدرك أنّه ما خُلِق باطلًا، يكفيه أن يدرك أنّ هناك هدفًا من خِلْقته، وهدفًا من وجوده.
"يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ"[الانفطار 6 ـ 8]، يتأمّل في هذه الآية، فيعرف أنّ له صورًا كثيرة، وأنّه كان في حالٍ، وهو الآن في حالٍ، وسيكون غدًا في حالٍ آخر، وفي صورةٍ أخرى.
يتأمّل في آيةٍ وآيةٍ وآية، عمّا يجب أن يفعله على هذه الأرض، وهو لا يعرف تمامًا ما سيكون عليه، فتخبره الآيات عمّا يجب عليه أن يفعل، "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ..."[العنكبوت 20]، "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ..."[التوبة 105]، "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"[الذاريات 56].
فالذّكر والتأمّل يجعل الإنسان يشعر أنّ له قضيّة، وإدراكه لذلك، يؤدّي به أن يُعمِل كلّ طاقاته التي وهبه الله إيّاها، لِمَا يرى أنّه الخير على هذه الأرض. وكلمة طريق، تعبيرٌ جيّدٌ عن هذا الحال، فأنت حين تريد أن تقصد مكانًا ولكنّك لم تره من قبل، وإنّما عرفت الطّريق إليه، لا يمكنك أن تسأل: أنّي أريد أن أرى وأكون في المكان الذي أقصده، قبل أن أسير إليه. وإنّما أنت تسير في الطّريق، وأنت تهدف أن تصل إلى مقصدك.
والحياة، هي الطّريق، ووجود الإنسان على هذه الأرض، هو الطّريق. والطّريق سوف يؤدّي بك إلى ما ستكون عليه، وإلى ما ستصبح عليه. 
هكذا، نتعلّم من آيات الله لنا، وممّن سبقونا في هذا المجال، وهم يتحدّثون عن الطّريق والسّلوك، وأنّ الإنسان عليه أن يدرك، أنّ محاولته ليجسّد هدفًا يصل إليه، منشغلًا عن الهدف الأكبر، الذي هو غيبٌ عليه ـ هو ما يعطّله ويُخرِجه عن الطّريق القويم.
فقد يرى بعض الطّالبين، أنّهم إذا وصلوا إلى رضاءٍ كاملٍ، وتسليمٍ كامل، فهذه هي نهاية الطّريق. ولذلك، هم في دائم شكوى من حرّ الاختيار والتّدبير، وضعوا تصوُّرا أنّهم سيكونون قد حقّقوا هدفهم، إذا وصلوا إلى برد الرّضا والتّسليم.
ولذلك، قال الشّيخ لمريديه: [إنّي أشكو من برد الرّضا والتّسليم، كما تشكون أنتم من حرّ الاختيار والتّدبير، فتساءلوا: كيف يكون ذلك؟ فقال: أخشى أن تشغلني حلاوتهما عن ذكر الله](1)، وذكر الله، هو ذكر الغيب، هو ذكر من "...لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ..."[الشورى 11]، وأنّ هدفك ومقصودك، لا تستطيع أن تُصوِّره أو أن تجسّده، كما أنّك لا تستطيع أن تجسّد وتصوّر الله.  
فلتكون في الطّريق، فإنّك تطلب ـ دائمًا ـ الغيب، وتنشغل بسيرك، وبخطواتك، وبما تقوم به، وبما تفعله وتعمله، "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ"[الفاتحة 6، 7]. إنّه الطّريق الدّائم، الذي ينشغل الإنسان فيه بلحظته، وأن يكون في عملٍ يراه صالحًا، ويحسبه كذلك. هكذا، نتعلّم كيف نكون في الطّريق، وكيف نكون على الصّراط المستقيم.
عباد الله: إنّنا في هذا الشّهر الكريم، يمكننا أن نجعل منه بدايةً لطريقٍ مستقيم، وإن كنّا ندرك ـ دائمًا ـ أنّنا يمكننا ذلك في كلّ وقتٍ وحين، إلّا أنّ ما هيّأ الله لنا في هذا الشّهر ـ كرمزٍ ـ لأن يعيش الإنسان بروحه ومعناه، فيمكننا أن نركّز همّتنا أن نكون كذلك، وأن نحقّق ذلك.
إنّ وجودنا المقيّد، في بعض الأحيان، يحتاج أن يضع هدفًا زمنيًّا، بتوقيتٍ زمنيّ ليحقّقه، وعبادة الصّوم في هذا الشّهر، هي مساعدةٌ للإنسان بقيامه الماديّ المقيّد، والذي يريد وقتًا محدّدًا يؤدّي فيه عملًا، وبذلك، يمكن أن نستفيد من ذلك، بأن نركّز في هذا الشّهر، في التأمّل والتفكّر والتّدبّر، وفي أن نذكر الله كثيرًا، بقدر استطاعتنا. نريد أن نخرج من هذا الشّهر، وقد أضفنا إلى وجودنا الرّوحيّ والمعنويّ، طاقةً تساعدنا فيما بعد هذا الشّهر.
وإن كنّا يجب أن نكون كذلك دائمًا، في هذا الشّهر وما بعده، إلّا أنّنا نَعلَم نفوسنا، وظلام نفوسنا، وتعجُّل أمرنا، "إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا"[المعارج 19 ـ 21]، يمكن أن نحاول في هذا الوقت القصير، الذي نعيشه في هذا الشّهر، أن نحقّق هدفًا يساعدنا بعد ذلك.
وكلّ الأهداف الكِبار، تأتي من تحقيق أهدافٍ صغرى، تكمّل بعضها بعضا، حتّى يصل الإنسان إلى مرتبةٍ أفضل، تُمَكّنه من أن يسير إلى الأفضل، والأفضل، وهكذا، في طريقٍ لا نهائيّ، يرتقي فيه الإنسان في الله، في "... اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ"[المعارج 3].
نسأل الله: أن يساعدنا على ذلك، وأن يحقّق لنا ذلك، وأن يجمعنا دائمًا على ذكره، وعلى طلبه، وعلى مقصود وجهه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصّلاة والسّلام  على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أنّ الطّريق في الله لا نهاية له، وأنّ هدف الإنسان هو غيبٌ عليه، إنّما هو يدرك بتأمّله وتفكّره وتدبّره في آيات الله حوله، يدرك معنى: "رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا"، ويدرك ـ أيضّا ـ أنّ نفسه ربّما تصوّر له العكس، بأنّ ليس هناك هدفٌ سيصل إليه، فلذلك يقول: "... فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"[آل عمران 191].
هذا الإدراك، الذي هو بداية الطّريق، يجعله يبحث عمّا يجب أن يفعله في حياته، فيدرك أنّ عليه أن يُفعِّل كلّ طاقاته، فيما هو ظاهرٌ له، ليتعلّم منه، "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ"، وأنّه سوف يظلّ كذلك، يتحرّك من حالٍ إلى حال، ومن مقامٍ إلى مقام.
فإذا وصل إلى مقامٍ، عليه أن يذكّر نفسه أنّ هناك أعلى، وأنّ هذه هي مرحلةٌ سيمرّ بها، ولكن هناك ما هو أعلى وأفضل، فلا يتوقّف عن السّير، وعن العمل، وعن العبادة، وعن الذّكر، وعن التأمّل والتّدبّر ـ إنّما يواصل مسيرته.
وعليه أن يُعمِل ويُطوِّر من نفسه، مستخدمًا ما يسّر الله له من عباداتٍ ومناسك، ليجعل منها أداةً تُحرِّكه إلى الأمام، وتنقله من حالٍ إلى حال، فتكون نيّته في كلّ عباداته، هي أن يُفعِّلها لتغيّره.
وشهر الصّوم كمثالٍ لذلك، هو أداةٌ، لو صامه الإنسان حقًّا، وذكّر نفسه دائمًا بمعنى الصّوم ـ لأدّى ذلك إلى تغييرٍ في داخله، وفي فهمه، وفي متطلباته ـ يغيّره من حالٍ إلى حال. يكون هذا رجاؤه، ويكون هذا طلبه، ويدعو الله أن يحقّق له ذلك، وأن يساعده على ذلك، ويكون أمله في الله كبير، أن يحدث هذا التّحقّق في وجوده، وفي قيامه.
عباد الله: نسأل الله: أن يحقّق لنا ذلك، وأن يجعلنا كذلك.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنًبا إلّا غفرته، ولا همّا إلّا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا.
________________________________

(1) في حوار بين الشيخ إبن مشيش وتلميذه أبي الحسن الشاذلي: "قال العارف الشاذلي ترددت هل ألزم القفار للطاعة والأذكار أو أرجع إلى الديار لصحبة الأخيار فوُصِف لي شيخ برأس جبل فوصلت لغاره ليلا فبت ببابه فسمعته يقول اللهم إن قوما سألوك أن تسخر لهم خلقك ففعلت فرضوا وأنا أسألك عني اعوجاج الخلق حتى لا يكون لي ملجأ إلا أنت، فقلت يا نفس انظري من أي بحر يغترف هذا الشيخ فأصبحت فدخلت عليه فأرهبت من هيبته فقلت كيف حالكم، فقال إني أشكو إلى الله من برد الرضا والتسليم كما تشكو من حر التدبير والاختيار، فقلت أما شكواي من حرهما فذقته وأما شكواي من بردهما فلماذا؟ قال أخاف أن تشغلني حلاوتهما عن الله تعالى…". من كتاب فيض القدير بشرح الجامع الصغير لمؤلفه عبد الرؤوف المناوي.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق