السبت، 8 سبتمبر 2018

تأمل في الهجرة: هناك دائما صراع قائم بين أضداد مختلفة في مجتمعنا وفي وجودنا وعلينا أن نتعايش معه


حديث الجمعة 
27 ذو الحجة 1439هـ الموافق 7 سبتمبر  2018م
السيد/ علي رافع

حمدًا لله، وشكرًا، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
نحمد الله كثيرًا، ونسبّحه بكرةً وأصيلا، نسأله رحمةً، ومغفرةً، وفضلًا، وتوفيقًا، في أعمالنا، وفي كلّ حياتنا، نتّجه إليه، ونتوكّل عليه، ونوكل ظهورنا إليه، فهو ملاذنا وملجؤنا الذي لا نلجأ إلّا إليه.
عباد الله: إنّا نتذكّر في هذه الأيام، هجرة رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من مكّة إلى المدينة وما يحمله هذا الحدث من معانٍ كثيرة في سلوكنا، وفي طريقنا، وفي حياتنا.
فسيرة رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ هي حديثٌ مستمرٌّ ممتدٌّ، يقرؤه كلّ متابعٍ وكلّ مؤمنٍ بالله ورسوله، كيف كانت الدّعوة في بدايتها، وكيف كان استقبال النّاس لها.
نتأمّل في ذلك دائمًا، ونذكّر أنفسنا به، أنّ قانون الله على هذه الأرض، هو أن يكون دائمًا هناك معسكرٌ للرّحمن، ومعسكرٌ للشّيطان، معسكرٌ يدعو إلى الحقّ، إلى الكلمة السّواء، ومعسكرٌ يريد أن يطفئ هذه الكلمة، وأن يطفئ هذه الدّعوة ـ والحياة هكذا دائمًا.
وسيظلّ كلّ فريقٍ يدعو إلى ما يعتقده، بل فِرقٌ كثيرة، كلٌّ يدعو بما يؤمن به، أيًّا كان هذا الإيمان. وعلينا أن نتعلّم كيف نعيش في هذا الحال، "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ..."[النحل 93"... وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ..."[الحجرات 13].
فالتّصوّر أن يكون النّاس جميعًا في صورةٍ واحدة، أو أن تتحوّل الأرض إلى إيمانٍ واحد، هو أمرٌ طبقًا لما شهدناه في تاريخنا، وفي حاضرنا، ومن آيات الحقّ لنا، التي حدّثتنا عن اختلاف النّاس وتباينهم، ودفع الله النّاس بعضهم ببعض ـ يجعلنا نتفهّم هذا، ولا نختزل الدّعوة، ولا الدّين، ولا الإيمان، في أن يحاول البعض أن يحوّل النّاس جميعًا إلى شكلٍ واحد، وإلى إيمانٍ واحد.
وسيظلّ الإنسان يدفع بما يرى هو أنّه الخير وأنّه الحقّ، وسيظلّ إنسانٌ آخر يدفع بنقيضه، بظنّ أنّه الأفضل وأنّه الأحسن، وكلّنا وجميعنا، لا يمكننا أن نجزم بالحقّ المطلق، وإنّما نحاول أن ندفع بما نرى أنّه الأفضل والأحسن والأقوم، طبقًا لمعاييرنا، ولحكمنا، ولإحساسنا، ولإدراكنا.
وكانت شهادة لا إله إلّا الله، هي إكبارٌ لما يريده الله، عن أيّ صورة نريدها، وعن أيّ فهمٍ نفهمه، وعن أيّ تقديرٍ نقدّره. وكانت الدّعوة، هي أن ندعو إلى "... كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ ..."[آل عمران 64].
فما يريد أن يصل إليه أيّ مجتمعٍ، هو أن يكون هناك حوارٌ بين أفراده وجماعاته، كلٌّ يحاول أن يدفع بما يرى أنّه الخير، ويصلوا إلى كلمةٍ سواء بمعاييرهم وبتقديرهم، وإذا لم يصلوا، يحترمون بعضهم بعضا، ويضعون من المعايير ومن الآليات التي تمكّنهم من أن يرجّحوا رأيًا، ويقرّروا قرارًا، ويكونوا بذلك قد حسموا أمرهم.
فالمجتمع قبل الهجرة، كان لا يقبل هذا الحال. فدعوة رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ والتي تريد أن تحرّرهم من أن يكونوا عبادًا لفكرٍ قديم، ولعاداتٍ بالية لا يقبلها عقل، ولا يقبلها إنسانٌ يفكّر ويتدبّر، يدعوهم إلى أن يبتعدوا عن هذه العادات وعن هذه الأفكار.
وكانت دعوة شهادة أنّ لا إله إلّا الله، تحمل هذا المعنى، فهي تحرّرهم من أن يكونوا عبادًا لقديمٍ اعتقدوه، وإذا فكّروا قليلًا، لوجدوا أنّه ليس الأفضل وليس الأحسن.
ولكن لم يقبلوا هذا الحال، المجتمع المكّيّ لم يقبل التّغيير، لم يقبل الدّعوة، ولم يكتف بذلك، بل أراد أن يُجهض هذه الدّعوة في مهدها. ومع إيماننا بالتّأييد الرّبّانيّ لدعوة رسول الله، فهذا لم يمنع أن تكون هناك معارضةٌ، وأن يحاول المعارضون أن ينهوا هذا الأمر.
وهنا ننظر دائمًا إلى القانون الإلهيّ، الذي يُدعى إليه دائمًا، وهو أن نُعمِل قوانين هذه الأرض، فكانت الهجرة، هي تعبيرٌ عن إعمال هذا القانون، والمسلمون في ذلك الوقت كانوا قلّةً، ولا يستطيعون ـ بقوانين الأرض ـ أن يواجهوا الكثرة، فلم يكن هناك طريقٌ إلّا أن يهاجروا إلى مكانٍ آخر يستقبلهم. فهنا، ندرك أنّ إعمال قوانين الأرض، هو أمرٌ ضروريّ.
والهجرة ـ كما هي في التّاريخ ـ كانت انتقالًا من مكانٍ إلى مكان، ومن حالٍ إلى حال، فهي تحمل هذا المعنى أيضًا للإنسان، من أن يهاجر هو أيضًا من مكانٍ إلى مكان، ومن حالٍ إلى حال، ومن وسطٍ إلى وسط، ومن مجتمعٍ إلى مجتمع.
بل أنّه لو نظر إلى وجوده على أنّه يمثّل ويعبّر عن هذه الأرض، فسوف يجد في هذا الوجود: سوف يجد في نفسه الأمّارة بالسّوء، أنّها تعبّر عن الوسط الذي يرفض دعوة الحقّ، فنفسه تشدّه إلى أسفل، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ ..."[التوبة 38].
هو في داخله، يعبّر عن داعِيَ الحقّ في وجوده، فهو في أعماقه ليس راضيًا عن هذا الحال، ويرى في حالٍ آخر، أنّه الحال الذي يريد أن يهاجر إليه، يريد أن يكون غير متثاقلٍ، يريد أن يكون مفكّرًا في آيات الله، متدبّرًا لآيات الله، ذاكرًا بقلبه ـ  فعليه أن يهاجر إلى هذا الحال، لا ينظر إلى نفسه المظلمة، وإنّما يحاول أن يهاجر منها وأن يتركها، وألّا ينشغل بها، وألّا يسير وراءها، وألّا ينتظر حتّى يصلحها، فهي لن تُصلَح، هي حالٌ قائمةٌ عليه.
ومعنى الهجرة هنا، هو أن يُكثِر من الحال الآخر، فيكون كلّ وقته، أو جُلّ وقته، في ذكرٍ لله، وفي طلبٍ لله، وفي تفكّرٍ لآيات الله، وفي الاستعانة بالله، وفي استغفارٍ الله، وفي طلب عونٍ من الله.
وهنا، في هذا الحال وفي هذا القيام، قد لا تتركه نفسه المظلمة، وإنّما تحاول أن تهاجمه، وأن تأخذه من حاله الذي أصبح عليه. فهنا شُرِع الدّعاء وطلب العون، فيجب أن يتّجه إلى الله أكثر، وأن يطلب عونًا أكثر، وأن يستغفر أكثر، وهذه هي القوّة التي تعينه على هذا الظّلام.
عباد الله: نريد أن نقرأ دائمًا أحداث التّاريخ من زاوية سلوكنا، وكيفية التّعامل مع نفوسنا، فهذا هو طريق الصّلاح وطريق الفلاح، ولا ننتظر صورةً معيّنة، فكما أنّ الأرض سوف يظلّ بها الخير والشّرّ والحقّ والباطل، فنفسك ووجودك سوف يظلّ فيه الخير والشّرّ والحقّ والباطل، المهمّ كيف تتعامل مع ما فيك من حقٍّ ومن باطل، ومن خيرٍ ومن شرّ. 
فإذا تساءل أحدٌ: ألا يمكن أن يتحوّل الإنسان، كما قال رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ: [كان لي شيطان ولكن الله أعانني عليه فأسلم فهو لا يأمرني إلّا بخير](1)؟ هذا أيضًا حالٌ يطلبه الإنسان، ولكن سيظلّ فيه شيطانه أيضًا، وإنّما سوف يتحوّل أن يأمره بخير، وهذا الخير هو نسبيّ.
لذلك، نتعلّم دائمًا، أنّ الخير والشّرّ هما أمران نسبيّان، فالخير الذي تُؤمر به، هو ليس ما كان شرًّا قبل ذلك، فهو خيرٌ بالنّسبة لما كان قبل ذلك، ولكن الإنسان وهو في رحلة معراجٍ إلى أعلى، سيكون هذا الخير أيضًا نسبيًّا بالنّسبة لحاله، إنّما هو ليس خيرًا مطلقًا.
ولذلك، دائمًا ما نذاكر بما قاله القوم: [حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين](2)، [وما من كمالٍ إلّا وعند الله أكمل منه](3)، فالكمال والعروج لا ينتهي، وقد يتغيّر حالك إلى أفضل، وإنّما سيظلّ أيضًا فيك الخير والشّرّ، وإن اختلف حال الخير وحال الشّرّ.
عباد الله: نسأل الله: أن نكون في حالٍ نستطيع به أن نتعامل مع ما هو قائمٌ في أرضنا، وما هو قائمٌ في وجودنا، من وجودٍ للأشياء وأضدادها، ومن عدم قدرةٍ للإنسان على أن يعرف الحقيقة المطلقة، وأنّ عليه أن يعيش دائمًا في حقيقةٍ نسبيّة، وسيظلّ دائمًا كذلك، وسيظلّ دائمًا محاولًا أن يكون أفضل، وهذه هي الاستقامة في الطّريق على هذه الأرض ـ أن تكون في محاولةٍ دائمة، وهذا هو الجهاد الذي لو خرجت من هذه الأرض وأنت مجاهدٌ، فسوف تكون في معنى الشّهادة.
فنسأل الله: أن نكون من المجاهدين، وأن نكون من الطّالبين المستغفرين.
فحمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والشّكر لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أن نتأمّل في معنى الهجرة من زاوية القانون القائم على هذه الأرض، وكيف أنّ هناك دائمًا صراعًا قائمًا بين أضدادٍ مختلفة، وأنّ هذا الصّراع، أو أن نقول هذا الحال، أو هذه العلاقة، أو هذا القانون، الذي نراه أمامنا، هو قانونٌ مستمرّ، وعلينا أن نتعايش معه.
وقد يضطّر الإنسان في لحظةٍ مّا، إذا وجد أنّ وجوده في مجتمعٍ مّا، فيه هذا التّضادّ الذي قد يجعله غير قادرٍ على أن يبلّغ ما يراه من حقّ، فهو عليه أن يُعمِل قوانين الأرض أيضًا، بأن يبتعد عن هذا المجتمع.
وإذا كان هذا هو حال الإنسان في المجتمع، فهذا هو حال الإنسان في وجوده، فوجوده فيه الخير وفيه الشّرّ، فيه الحقّ وفيه الباطل، فيه معانٍ مختلفة، وسيظلّ كذلك، فإذا استطاع أن يتعايش مع هذا التّضادّ الموجود فيه، بحيث لا يطغى طرفٌ على طرف، فعليه الاستمرار في المحاولة، لما يرى من داخله أنّه الأفضل والأقوم.
وإذا شعر بأنّ هناك قوىً مظلمة فيه أكثر، فعليه أن يحاول أن يخرج من حال الظّلام فيه، بالإكثار من الذّكر، والتّفكّر، والتّدبّر، وإعمال العقل، وإعمال القلب، والدّعاء والرّجاء، والتّواجد في جماعةٍ مثله، تدعو الله وتسأل الله. وهذا، سوف يساعده على أن يحفظ التّوازن، فلا يتثاقل كليّةً إلى أرض ذاته، وينسى معناه وقيامه الحقّي.
وقد يظلّ كذلك، وقد يتغيّر من حالٍ إلى حال، ولكن سيظل دائمًا في حالٍ فيه تضادّ، وفيه عدم تأكّد من مطلق الفعل الحقّيّ، وهذا حالٌ، علينا أن نتعايش معه؛ لأنّه حال وجودنا على هذه الأرض.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا. 
________________
(1)    جاء الحديث في مسند أحمد بن حنبل بصيغ متعددة منها " ليس منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الشياطين قالوا وأنت يا رسول الله قال نعم ولكن الله أعانني عليه فأسلم " . وأيضاً " ما منكم من أحد إلا ومعه قرينه من الملائكة ومن الجن قالوا وأنت يا رسول الله قال وانا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم ولا يأمرني إلا بخير" وكذلك : " فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم قلنا ومنك يا رسول الله قال ومني ولكن الله أعانني عليه فأسلم " كذلك جاء بصيغ مختلفة عند مسلم والترمذي والنسائي والدرامي .
(2)  مقولة صوفية.
(3)  مقولة الامام الجنيد.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق