السبت، 15 ديسمبر 2018

الدّين، هو في التّفاعل والاجتهاد الدّائم، في التّفكّر والتّدبّر، في التّجمّع للتّواصي بالحقّ وبالصّبر.


حديث الجمعة 
29 ربيع الأول 1440هـ الموافق 7 ديسمبر 2018م
السيد الإمام/ علي رافع

حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
الحمد لله الذي أعاننا أن نتأمّل في آياته، وأن نجتهد أن نفهم مفاهيم تنفعنا في حياتنا، وفي سلوكنا، وتفتح لنا أبوابًا تساعدنا على أن نتعايش مع حاضرنا وواقعنا، وتساعدنا أن نخاطب النّاس أجمعين عمّا بين أيدينا من معانٍ ومفاهيم، تساعد البشريّة أن تتخطّى صعابًا كثيرة تعوق حركتها وتقدّمها، بظنّ دينٍ، وبظنّ إيمان.
إنّ الإشكاليّة الكبرى التي يقع فيها كثيرون، هي ظنّهم أنّ الدّين له مفهومٌ واحد، وله تطبيقٌ واحد، وله صورةٌ واحدة، وكلّ فريقٍ يدّعي أنّه يملك هذا الفهم، ويملك هذا التّطبيق، ويملك هذه الصّورة.
مع أنّ آيات الله تعلّمنا أن نتأمّل، ونتفكّر، ونتدبّر، وأن نبحث، ونتعلّم، وأنّ هذا الدّين القيّم علينا أن نوغل فيه برفق، وأنّ هناك "...آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ..."[آل عمران 7]، وأنّ "...وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا..."[عمران 7].
ومعنى الإيمان هنا، هو أنّه "كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا"، وعلينا بعد أن ندرك ذلك، أن نحاول أن نتفهّم ما له علاقةٌ بحياتنا وأرضنا. وحيث أنّنا لا نستطيع أن نجزِم بتأوليه، فإنّنا نجتهد في فهمه، وفيما نحتاج إليه بصورةٍ ملحّة في حياتنا الأرضيّة، فنفعل ما نرى أنّه الحقّ بالنّسبة لنا، ولا نقول أنّ هذا هو ما أراد ربّنا.
وفي واقع الأمر، أنّ هذا الاختلاف الذي نراه بين الفِرَق المختلفة، ما هو إلّا إثباتٌ لذلك، ولا يعني الاختلاف أنّ هناك صورةً واحدة هي الحقيقيّة، والصّور الأخرى كلّها زائفة، إنّما كلّ الصّور هي مفاهيم إنسانيّة، وكلّها بها الخطأ وبها الصّواب، وكلّها تتغيّر وتتبدّل.
فالبحث إذًا، ليس عن صورةٍ واحدة، أو عن ما هي الصّورة الحقيقيّة، أو ما هو الفهم الحقيقيّ، ليس هذا هو السّؤال، لأنّ كلّ فريقٍ سوف يظنّ أنّ مفهومه هو الحقّ، وهذا طبيعيّ، إذًا، فلن نصل إلى شيء، لو أراد كلّ فردٍ أن يثبت للآخر أنّه على حقّ، وأنّ الآخر على باطل.
إنّما الحكم هنا، يكون بما علّمتنا الآيات، من أنّ الأمر موكولٌ للإنسان، وللأمّة، وللجماعة، وهذا ما نردّده دائمًا في مفهومنا للآية: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"[آل عمران 104].
الأمّة تجتمع، وتتأمّل وتتعمّق في آيات الله، وتتأمّل وتتعمّق في واقعها، وفي حالها، وفي مشاكلها، وفي متطلّبات الأفراد فيها، وتحاول أن تجد ما ينفع النّاس، وما يأخذ بأيديهم، ويُخرِجهم من الظّلمات إلى النّور، ومن الجهل إلى المعرفة، ومن الفقر إلى الغنى، ومن المرض إلى الصّحّة، ومن الأنانيّة إلى الإيثار، ومن الفرديّة إلى التّكامل والتّعاون.
كلّ هذه المعاني، موجودةٌ في آيات الله لنا، تدعونا إلى التّفاعل مع كتابه، وإلى التّفاعل مع أحداث الحياة، فكلّها آياته، "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ..."[فصلت 53].
هذا يحلّ إشكالياتٍ كثيرة، فلن نظلّ إلى الأبد نتصارع، ويكفّر بعضنا بعضا، ويجّهّل بعضنا بعضا، وإنّما سوف ندرك أنّ كلّ جماعةٍ وفريقٍ له وجهة نظر، فليحتفظ بها لنفسه، وليحاول أن يتفهّم وجهة النّظر الأخرى، ولنحاول جميعًا أن نجتمع لنتواصى بالحقّ، ونتواصى بالصّبر بيننا.
والحقّ ليس شيئًا واحدًا، وليس صورةً واحدة، وليس قولًا واحدًا، الحقّ هو العلّة التي نستطيع أن نتعرّف عليها فيما يحدث حولنا، الحقّ هو المسبّب للأشياء، هو القانون الفاعل على هذه الأرض، فإذا كانت هناك مشكلةٌ في حياتنا، فإنّ البحث عن الحقّ، هو في البحث عمّا سبّب هذه المشكلة.
وإذا كان هناك تساؤلٌ عن ظاهرةٍ معيّنة في أيّ مجالٍ، سواء كان في حال المجتمع، أو في ظاهرةٍ طبيعيّة، أو ظاهرةٍ اقتصاديّة، أو ظاهرةٍ سياسيّة، فإنّ الحقّ هو أن نبحث عن سبب انتشار هذه الظّاهرة، أو عن سبب وجودها.
وإذا كان البحث عن الحقّ في ظاهرةٍ دينيّة، أو في منسكٍ دينيّ، أو في أمرٍ تعبّديّ، فإنّ الحقّ هو في البحث عمّا وراء هذا الأمر الدّينيّ، أو هذا المنسك التّعبّديّ، والحقّ في النّهاية هو أمرٌ نسبيّ؛ لأنّ ما نكتشفه اليوم، قد نكتشف غيره غدًا.
لذلك، فإنّنا نتحدّث كثيرًا عن مقاصد العبادات، التي هي أمورٌ تعبّديّة، والحقّ في الحديث عنها، ليس في ظاهرها، فلا يكون مثلًا عن كيفيّة القيام للصلاة، أو في الحركات التي نؤدّيها في الظّاهر، وإنّما يكون الحديث عن الحقّ في الصّلاة، وفي دلالاتها الحقّيّة المعنويّة، في دلالاتها الرّوحيّة، في تقويم نيّتنا ونحن نؤدّيها، فنحن هنا نبحث عن الحقّ في أداء الصّلاة.
وكما قلنا، قد نصل إلى مفهومٍ عن الحقّ في أداء أيّ منسكٍ، ولكن هذا المفهوم الذي نصل إليه، هو أمرٌ نسبيّ، قد يتغيّر مع الوقت، ومع قدرتنا على الفهم، والتّحليل، والتّفكير، والتّدبير. وهذا الحقّ النّسبيّ، هو ما يمكن أن نصل إليه، وهو الحاكم لنا في أدائنا.
ومراقبتنا لأفعالنا وأدائنا، هي في أن نكون متوافقين دائمًا مع الحقّ الذي وصلنا إليه، وهكذا نكون مخلصين صادقين، فإذا نَصَحْنا ننصح بما وصلنا إليه، ولا ننصح بكلامٍ أجوف يردّده النّاس، ويقولونه، وينصحون به بعضهم البعض، دون أن يكونوا مُجرِّبين له، أو قائمين فيه.   
كلّ إنسانٍ، عليه أن يمارس الكشف عن الحقّ، وإذا تكلّم يتكلّم بما وصل إليه، وبإدراكه أنّ ما وصل إليه ليس الحقّ المطلق، فإنّه يكون مستمعًا لما وصل إليه الآخر. هكذا، يكون التّواصي بالحقّ، والتّواصي بالصّبر، إنّه ليس مجردّ مجلسٍ نتكلّم فيه كلامًا لا ندركه وإنّما نردّده. إنّ التّواصي يحتاج إلى أن نكون قد مارسنا، وجرّبنا، ووصلنا، بعد أن نكون قد فكّرنا، وتأمّلنا وتدبّرنا.
وهذا أمرٌ فيه صلاحٌ في كلّ مناحي الحياة. فأنت في أيّ علمٍ مادّيّ، إذا لم تكن قد فهمت أصوله حقًّا، فإنّ كلامك يكون مجرّد ترديد، والتّرديد ليس تواصٍ، إنّما هو حفظٌ لكلماتٍ، وإعادة تكرارها، وهذا ليس معنى التّواصي بالحقّ والتّواصي بالصّبر، وإن لم تكن قد توصّلت إلى مفهومٍ في قضيّةٍ معيّنة، يستريح إليه قلبك، ويستريح إليه عقلك، فلا تتكلّم عنه.
عباد الله: نسأل الله: أن نكون من "...الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ..."[الزمر 18].
فحمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
___________________
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: إنّا نتذاكر كثيرًا في معنى التّجمّع على ذكر الله، والتّواصي بالحقّ، والتّواصي بالصّبر، وأن ندعو إلى الخير، وأن نأمر بالمعروف، وأن ننهى عن المنكر؛ لأنّ هذه الأدوات هي التي تمكّننا من أن نتفاعل مع آيات الله، ومع واقعنا، لا أن نفصل بين آيات الله وبين الواقع الذي نعيشه، وأن ندرك أنّ الدّين هو في هذا التّفاعل، وأنّه ليست هناك صورةٌ جامدةٌ للدّين، عُرِفَت وتُطبّق بحذافيرها، وأنّ هذا هو الإيمان.
هذا التّصوّر الجامد ـ الذي ـ لكلّ فريقٍ تصوّره وجموده، كلٌّ يظنّ أنّ هذا هو صحيح الدّين، والدّين هو مصدر إلهام، يتفاعل الإنسان معه، له أبعادٌ كثيرة، لا يستطيع أيّ فريقٍ أن يدّعي أنّه ألمّ بكلّ هذه الأبعاد، فالبحث عن شكلٍ واحد يُطبَّق بصورةٍ جامدة، هو بحثٌ عن سرابٍ لا وجود له.
الدّين، هو في التّفاعل الدّائم، هو في الاجتهاد الدّائم، هو في المجاهدة الدّائمة، هو في التّفكّر والتّأمّل والتّدبّر، هو في التّجمّع للتّواصي بالحقّ والتّواصي بالصّبر. والحقّ، هو ما نصل إليه بأدواتنا، وبإمكاناتنا، سواء كانت هذه الإمكانات خارجنا، أو داخلنا.
الإمكانات داخلنا، هي باستخدام عقولنا، وقدرتنا على التّحليل، والتّفكير، والتّدبير. وخارجنا، بأن نشاهد ما يحدث من أحداث الحياة حولنا، ونستعين بأدواتٍ خارجنا حتّى نراها، وحتّى نحلّلها، وحتّى نجري تجارب عليها، فنصل إلى حقيقةٍ يتواصى بها من وصل إليها، ويتواصى بعكسها من وصل لعكسها. وبالتّواصي، وتبادل المعارف، والعلوم، والخبرات، نتوافق على أمرٍ، هو ما يجب علينا أن نفعله. هذا الأسلوب، وهذا المنهج، هو الدّين.
وكما نقول دائمًا، أنّ الدّين هو منهجٌ قبل أن يكون شكلًا، الدّين هو ممارسةٌ وتفاعلٌ مع الحقّ والحقيقة قبل أن يكون صورةً. يعتقد البعض أنّه يعرف الدّين بأن يردّد ما حفظه، الدّين لا يكون بحفظٍ، وإنّما يكون بتفاعلٍ، وعملٍ، وتفكّرٍ، وتدبّرٍ، واجتهادٍ، ومجاهدةٍ، وتعاملٍ، وتواصٍ، وصبرٍ. هكذا نفهم ديننا، ونفهم ما يجب أن نكون عليه.
نسأل الله: أن يغفر لنا إن نسينا أو أخطأنا، وأن نرجع إليه دائمًا، وأن نرجع إلى الحقّ دائمًا، فالرّجوع إلى الحقّ فضيلة.
اللهم وهذا حالنا، وهذا قيامنا، نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنبًا إلّا غفرته، ولا همًّا إلّا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا.        

  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق