حديث الجمعة
5 رمضان 1440هـ الموافق 10 مايو 2019م
السيد/ علي رافع
حمًدا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول
الله.
"شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ
مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ
مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ ..."[البقرة 185]، هكذا جاءت آيات الله لتُعلِّمنا معنى الصَّوم.
فالشَّهر، وهو تعبيرٌ عن زمنٍ، وهو تعبيرٌ عن إشهارٍ
لمعنى، أو لوقتٍ، أو لمكانٍ، أو لحالٍ، أو لإنسانٍ، أو لمفاهيم، فكان هذا الشَّهر،
شهر رمضان في هذه الآية، هو إشهارٌ لمعنى نزول القرآن، فهو لم يصف الشَّهر بأيِّ
صفاتٍ أخرى، كترتيبٍ في شهور، أو أنَّه شهر الصَّوم فقط، أو أنَّه شهر القيام، وإنَّما
وصفه بأنَّه "الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ".
ووُصِف القرآن، بأنَّه بيِّناتٌ من الهدى والفرقان، فهذا
الشَّهر بذلك، يصبح تعبيرًا عن البيِّنات وعن الفرقان، وأنَّ "فَمَن
شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ"، هو من شهد هذه البيِّنات وهذا
الفرقان؛ لأنَّ الصَّوم ليس مجرَّد امتناعٍ عن الطَّعام والشَّراب، وإنَّما هو
ممارسة شهادة البيِّنات والفرقان.
فأنت في كلِّ لحظةٍ من لحظات صومك، تُعبِّر بامتناعك عن
طعامٍ وشرابٍ، وكلِّ شيءٍ آخر يربطك بهذه الأرض، في كلِّ لحظةٍ من لحظات صومك، تتذكَّر
وتتفكَّر في معنى هذا الصَّوم.
فكانت مناسك الصَّوم، هي تعبيرٌ عن البيِّنات، وهي تعبيرٌ
عن الفرقان، هي تعبيرٌ عن معنى وجودك على هذه الأرض، وعن معنى إرادتك التي تمتلكها
على هذه الأرض، وهذه بيِّنةٌ كبرى، وبيانٌ لما تستطيع أن تقوم به.
هذه الإرادة، التي تُمكِّنك من التَّحكم في احتياجاتك
لبقائك على هذه الأرض، هي التي تجعلك تنطلق مجيبًا لدعوة الحقِّ، غير متثاقلٍ لمادِّيَّات
وجودك. أنت تمارس هذه الإرادة، وبممارستك لهذه الإرادة، تُحقِّق ما أردته وتقوم
فيما أردته.
فلتجعل إرادتك أن تكون عبدًا لله حقًّا، فتكون عبدًا لله
حقًّا. فلتجعل إرادتك أن تكون ذاكرًا متأمِّلا متدبِّرا، فتكون كذلك حقًّا. فلتجعل
إرادتك أن تُفرِّق بين الطَّيب والخبيث، بين الحقِّ والباطل، بين النُّور والظَّلام،
فتعرف معنى الهدى والفرقان، تعرف أَّنَّ الهدى في أن تكون قادرًا على أن تتعرَّف
على ما يهديك، على ما يجعلك أفضل وأحسن، على ما يجعلك تفارق ظلامك إلى حقيقتك.
من شهد منكم هذه المعاني فليصمه، فليمارس ما رآه وما
شهده، وهذا معنًى وتأمُّلٌ، لمن يتساءلون عن معنى من معاني الصَّوم والرِّسالة
التي يحملها في كلِّ الرِّسالات، "... كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا
كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ..."[البقرة 183].
ولنتعلَّم أنَّ الهدف من الصَّوم، أكبر من مجرَّد
الامتناع عن الطَّعام والشَّراب، توضِّح لنا الآية: "وَمَن كَانَ مَرِيضًا
أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ"؛ لأنَّ هذه المعاني
ليست مقصورةً على هذا الوقت الزَّمنيّ، وأنَّ الإنسان يمكن أن يقوم فيها في وقتٍ
آخر، والاستثناء هنا، لا يعني فقط الحالة الجسمانيَّة، وإنَّما هو تعبيرٌ لنتعلَّم
منه أنَّ القضيَّة ليست مجرَّد وقتٍ زمنيّ.
بل أنَّك حين تنظر إلى الوراء، وتجد أنَّك صمت دون فهمٍ
ودون وعيٍ من قبل، فإنَّك كنت مريضًا، كنت على سفرٍ، كنت بعيدًا عن مفهوم الحقِّ
فيك ورجعت إليه، أو كنت مريضًا فشفيت، فلتنظر إلى الأمام، ولتتفهَّم معاني الصَّوم،
وإذا أردت أن تمارسها، فيمكنك أن تفعل ذلك أيضًا، فلا حرج على فضل الله وعلى رحمة
الله.
فكسبك في الله مفتوحٌ دائمٌ، وكلُّ العبادات هي دعاءٌ
لله، ودعاؤك لله دائمٌ، وذكرك لله دائمٌ، وداعاؤك وذكرك لله له صورٌ عديدة يمكنك
أن تمارسها، فتأمُّلك ذكر، وتسبيحك ذكر، ومعاملتك مع النَّاس ذكر، وإتقانك لعملك
ذكر، "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ
جُنُوبِهِمْ ..."[آل عمران 191].
باب الله مفتوحٌ لكلِّ طارقٍ، ولكلِّ طالبٍ، ولكلِّ داعٍ،
"... ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ..."[غافر 60]، "... وَنَحْنُ
أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ"[ق 16]، "... وَهُوَ مَعَكُمْ
أَيْنَ مَا كُنتُمْ ..."[الحديد 4]، إتَّجهوا إليَّ في داخلكم وفي خارجكم، فألبِّي
دعاءكم، وأُغيِّر حالكم، غيِّروا ما بأنفسكم فأُغيِّر ما بكم، "... إِنَّ
اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ..."[الرعد 11].
إنَّ كلَّ منسكٍ، هو تعبيرٌ عن معنًى، وواجبٌ على
الإنسان أن يمارس هذا في كلِّ عبادةٍ، وفي كلِّ منسك. لهذا نقول دائمًا: أنَّ كلَّ
عبادةٍ تسبقها نيَّة، والنِّيَّة هي أنَّك يكون عندك مفهومٌ عمَّا تفعله وعمَّا
تقوم به، فيكون ما تفعله تعبيرًا حقًّا عن العبادة ومرادها، وهذا ما نركِّز عليه
دائمًا؛ لأنَّه بدون هذه النِّيِّة تصبح عبادتك عملًا مادِّيًّا بحتًا.
[فكم من صائمٍ لم يأخذ من صيامه إلَّا الجوع والعطش](1)، إن لم يجعله صومه أفضل، إن لم
يجعله صومه يمتنع عن قول الزُّور، إن لم يجعله صومه أن يكون مُراقبًا الله في كلِّ
أعماله وأحواله، مدركًا لمعنى هذه الممارسة.
عباد الله: نسأل الله: أن يجعلنا صائمين
حقًّا، وأن يساعدنا أن نكون في طريقه سالكين، ولوجهه قاصدين.
فحمًدا
لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
عباد الله: أردنا اليوم، أن نُذكِّر
أنفسنا بمعنى الصَّوم، وبمعنى "فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ"، لنحاول أن نُطبِّق هذا المفهوم في صومنا، وأن نتأمَّل
أكثر في دلالات الصَّوم لنا، فلا يكون صومنا امتناعًا عن طعامٍ أو شراب، وإنَّما
يكون ممارسةً لمعنى تلبيتنا لدعوة الله لنا، وعدم تثاقلنا إلى أرضنا، وأن نُعِدَّ
أنفسنا لذلك دائمًا، وأن نستعدَّ للانطلاق من ذواتنا في أيِّ لحظةٍ من لحظات
وجودنا.
مدركين أنَّ الله ما خلق هذا الكون باطلًا، وما خلقنا
باطلًا، وإنَّما خلقنا لحكمةٍ أكبر، ولمعنًى أعظم، وأنَّ إدراكنا لهذه الحقيقة
ولممارساتنا التي تساعدنا على عدم التَّثاقل إلى مادِّيِّ وجودنا، هو أمرٌ أساسيّ
في رحلتنا في هذا العالم.
اللهم وهذا حالنا وهذا قيامنا، نتَّجه إليك، ونتوكَّل
عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلَّا إليك.
اللهم فاكشف الغمَّة عنَّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنَّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، مع متعاملين،
عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقَّ حقَّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل
باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السَّاعة ذنبًا إلَّا غفرته،
ولا همَّا إلَّا فرَّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلَّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا،
يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا.
________________________
(1) حديث شريف نصه: "رب صائم حظه من صيامه الجوع
والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر". الراوي: عبد الله بن عمر، المحدث:
الألباني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق