الأحد، 8 سبتمبر 2019

ليلة القدر هي حالٌ يستقبل فيه الإنسان ما يُنْزِل الله


حديث الجمعة 
26 رمضان 1440هـ الموافق 31 مايو 2019م
السيد/ علي رافع

حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
عباد الله: إنَّ هذه الأيَّام والليالي التي نعيشها، تحمل معانٍ كثيرة، فنحن في النِّهاية الزَّمنيَّة لشهر الصَّوم. وشهر الصَّوم ـ كما نقول ونذاكر ونُذكِّر أنفسنا دائمًا ـ بأنَّه تعرُّضٌ لنفحات الله ورحماته، ففيه نعيش بأرواحنا ولا نتثاقل إلى أرضنا، وفي نهايته رمزٌ نتدبَّر فيه، يُوضِّح هذا المعنى.
"... لَيْلَةِ الْقَدْرِ"[القدر 1]، ليلة القدر، هي تعبيرٌ عن هذا التَّعرُّض لنفحات الله، إنَّها ليست مجرَّد ليلةٍ، إنَّها أكبر من أيِّ تصوُّرٍ وتخيُّل، إنَّها ليست الصُّورة التي يحاول البعض أن يرسمها لها.
آيات الحقِّ لنا حول هذه الليلة، هي لإرشادنا لأن نتأمَّل في معنى التَّعرُّض لنفحات الله. وما نقوله الآن، هو مجرَّد تأمُّلٍ في هذه الآيات، لا يعني تحديدًا لها أو وصفًا لها، وإنَّما هو تفكُّرٌ وتأمُّلٌ في معانيها، وفيما يمكن أن نتعلَّمه، وأن نتدبَّره، وأن نحاول القيام فيه.
"إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ"[القدر 1]، والهاء هنا، تُفهم بمعانٍ من ضمنها أنَّها إشارةٌ إلى القرآن، وكون أنَّها ضميرٌ لا يعود على آيةٍ سابقةٍ لها، يجعل هذا المعنى أو هذا الضَّمير يحتمل أمورًا كثيرة، ومن ضمن هذه الاحتمالات، أنَّها إشارةٌ غيبيَّة، شيءٌ غيبٌ لا نعلمه، إنَّما هو مُنْزَلٌ من الغيب.
وكلُّ ما يُنْزَل من الغيب، فيه خيرٌ للإنسان، وفيه كسبٌ للإنسان، وفيه علمٌ للإنسان، "... لاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء ..."[البقرة 255]، لا يهمُّ أن نُحدِّده، ولا يهمُّ أن نُعرِّفه، ولكن ما يهمُّ أنَّه مُنْزَلٌ من الغيب.
و"لَيْلَةِ الْقَدْرِ"، تعبيرٌ عن حال وعن زمان، والحال له زمان، والزَّمان هو ما يحدث فيه الحال، والإنسان يعيش على الأرض في زمان، ويعيش على الأرض في أحوال، في كلِّ يومٍ هو في حال، وفي كلِّ ليلةٍ هو في حال، فإمَّا أن يكون حاله ليلة قدر، أو أن يكون حاله ليس كذلك. وما يُنْزِله الغيب يَنْزَل في ليلة القدر، يَنزَل إلى الإنسان وهو في حالٍ من التَّقبُّل ومن الاستعداد، هذا الحال من التّقبُّل والاستعداد هو ليلة القدر.
وبهذا نتأمَّل أنَّ ليلة القدر، هي حالٌ للإنسان، في هذا الحال، يستقبل الإنسان ما يُنْزِل الله من حكمةٍ، ومن علمٍ، ومن معرفةٍ، ومن عطاءٍ غير مجذوذ، فهذه لحظةٌ، وهذا حالٌ أفضل من حياة الإنسان كلِّها، "لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ"[القدر 3]، تعبيرٌ عن كلِّ حياة الإنسان.
ثمَّ تُوضِّح لنا الآيات ما يمكننا أن نتفكَّر فيه، في هذا الضَّمير الذي أشرنا إليه، "تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا ..."[القدر 4]، الملائكة هي أسباب الغيب التي تصل الإنسان بالغيب، هذا تأمُّلٌ في معنى الملائكة.
"وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ ..."[الشورى 51]، والحجاب هو وسيلة، والوسيلة هي ملاكٌ يتنزَّل ليُبلِّغ رسالةٍ، وقد يكون من خلال ما يُوحَى إلى الإنسان، "تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ" في لحظة استعداد الإنسان، يكون أهلًا للتَّواصل مع الغيب من خلال ملائكة الله، "إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ..."[فصلت 30]، وهو حالٌ غيبيّ، لا يجب أن نتصوَّر شكلًا لمعنى أن تتنزَّل الملائكة.
والرُّوح، هو معنى الحياة، الرُّوح هو الحياة، والإنسان مع أنَّه يُوصَف بأنَّه حيٌّ، إلَّا أنَّ هذا وصفٌ مجازيٌّ، فهو قائمٌ على هذه الأرض بجسده، وهناك قوَّةٌ وراء هذا الجسد تستخدمه، ولكن أن يكون حيًّا هو أمرٌ آخر، فصفة الحياة هي صفةٌ منسوبةٌ إلى الغيب، إلى الله، "اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ..."[البقرة 255].
الحيُّ صفةٌ تنسب لمن أعدَّ وجوده في الله، "وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ"[آل عمران 169]، "... اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ..."[الأنفال 24]. في ليلة القدر، تكون أهلًا للحياة، "تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم ..."[القدر 4]، وباسم ربِّهم، "... مِّن كُلِّ أَمْرٍ"[القدر 4].
هذا حال الإنسان على هذه الأرض، في ليل هذه الأرض، إذا قام في هذا الحال وتعرَّض لهذا التَّنزيل، يصبح في حالٍ فيه سلامٌ، وفيه حياةٌ، وفيه صلةٌ، حتَّى يخرج من هذا الظَّلام، فيرى ذلك واقعًا؛ لأنَّ الإنسان في هذا الحال، قد يكون مدركًا لهذه المعاني، شاعرًا بها، ولكن هي غيبٌ عليه، وسيظلُّ كذلك، "... حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ"[القدر 5]، حتَّى يخرج من هذا الظَّلام، فيرى ما كان عليه وما كان فيه.
إنَّ الذين صَفوْا من القوم وقاموا هذه الأحوال، منهم من حفظها سِرًّا، ومنهم من جهر بها وقال إنِّي كذلك، فرُفِض من قومه ومن مجتمعه، بأنَّه خرج عن الدِّين، وهو ما قال ما قال إلَّا تعبيرًا عن حاله، وعن فهمه، وعن إدراكه، ولم يقل أنَّ هذا هو الحقُّ المطلق، وإنَّما عبَّر عمَّا شعر به وفهمه، بخلاف الآخرين.
عباد الله: نسأل الله: أن نقرأ آياته، وأن نتأمَّل فيها، وأن نتعلَّم منها، وألَّا ننساق وراء تجسيدٍ وتجميدٍ لمعاني الآيات، فجمالها في غيبها وفي بعدها الحقِّيّ الذي لا نستطيع أن نحيط به، وإنَّما ننهل منها ما يُمَكِّننا من أن نعيش حياةً سويَّة، نستعد فيها لاستقبال نفحات الله ورحماته، ونحاول أن نكون أهلًا لعطائه ولعلمه وحكمته.
فحمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: هو أن نُذكِّر أنفسنا بمعنى ليلة القدر، التي هي تعبيرٌ عمَّا قد يصل إليه الإنسان بصومه وبمجاهدته، ليكون في هذا الحال، وفي هذا القيام.
وأوضحنا أن ما نتأمَّل فيه، هو مجرَّد حالٍ، مجرَّد فهمٍ، مجرَّد تذوُّقٍ لهذه الآيات، لا يعني أنَّنا نُحدِّدها فيما فهمناه، وإنَّما نقول أنَّ كلَّ آيات الله لها أبعادٌ وأغوارٌ عميقة، وأنَّه لا يمكن لأيِّ إنسانٍ أن يدَّعي أنَّه يحيط بهذه الأعماق، أو أنَّ مفهومه هو المفهوم الوحيد لما جاء في أيِّ آيةٍ، خاصَّةً في الآيات التي تتحدَّث عن أحوالٍ غيبيَّة، مع أنَّ الآيات التي تتحدَّث عن معاملاتٍ مادِّيَّة وأحوالٍ دنيويَّة، وإن كانت قد تكون محدَّدةً بعض الشَّيء في أمورٍ، إلَّا أنَّها أيضًا لها أبعادٌ كثيرة.
ومن ثمَّ، فإنَّ الإنسان والمجتمع يأخذ من مفهومه لآيات الله بقدر طاقته، وبقدر استطاعته، وبما يُمَكِّنه من أن يُحقِّق على الأرض مصلحة المجتمع وأفراده، وأن يكون ذلك بالتَّدبُّر والتَّفكُّر والتَّأمُّل على مستوى المجتمع فيما يخصُّ أحواله الدُّنيويَّة.
أمَّا فيما يخصُّ الفرد من أحواله الرُّوحيَّة والحقيَّة، فكلُّ إنسانٍ يمكنه أن يتدبَّر ويتأمَّل فيما يخصُّه، ولا يفرض ما يراه على غيره، إنَّما علاقته بغيره، هي علاقة تواصلٍ وتواصي بالحقِّ والصَّبر.
هذا ما نقوله دائمًا، وما نذكِّر به أنفسنا دائمًا.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النَّاس حولنا.
اللهم ونحن نتَّجه إليك، ونتوكَّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلَّا إليك.
اللهم فاكشف الغمَّة عنَّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنَّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السَّاعة ذنبًا إلَّا غفرته، ولا همَّا إلَّا فرَّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلَّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا.   


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق