حديث الجمعة
11 ربيع الأول 1441هـ الموافق
8 نوفمبر 2019م
السيد/ علي رافع
حمدًا
لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
"إِنَّ
اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا"[الأحزاب
56].
عباد
الله: كما تعوَّدنا دائمًا أن نتأمَّل في كلِّ مناسبةٍ نتذكُّرها،
لنعرف ما فيها من رسائل لنا في حياتنا، في سلوكنا، في معاملاتنا، في عباداتنا ـ
نقرأ هذه الرَّسائل لنقوم فيها، ولنحيا بها في طريقنا، وفي معراجنا في الله بلا
نهاية.
ومَوْلِد
سيِّدنا محمَّدٍ، هو رسالةٌ بكلِّ ما توافق حدوثه مع هذا المَوْلِد، مَوْلِده، وكلِّ
الأحداث التي توافقت مع هذا المَوْلِد، هي رسائلٌ لنا. "لَقَدْ جَاءكُمْ
رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ
رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ"[التوبة 128]، "... وَمَا
كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً"[الإسراء
15]، فكان مَوْلِد محمَّدٍ ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ هو
رسالةٌ، وتطبيقٌ، وتنفيذٌ للوعد الإلهيّ: "مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
نَبْعَثَ رَسُولاً".
في
نفس الوقت، فإنَّ كلَّ إنسانٍ بفطرته فيه سرٌّ من الله، وفيه رسولٌ من الله، وهذا
هو المعنى الأشمل لمعنى: "مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ
رَسُولاً". فكلُّ إنسانٍ منذ بدء الخليقة يحمل رسولًا في وجوده، إنَّها
فطرته، وسرُّ الله فيه.
ولكنَّ
الإنسان بمجيئه إلى هذه الأرض، جاء معه شيطانه وإبليسه، "... اهْبِطَا
مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ..."[طه
123]، تعبيرٌ عن
قانون الحياة، وأنَّ الإنسان يحمل في داخله معنى الرَّحمن ومعنى الشَّيطان، معنى
الحقِّ ومعنى الباطل، معنى النُّور ومعنى الظَّلام، هكذا خُلِق.
كما
أنَّه حين تواجد على هذه الأرض، أصبحت له احتياجاتٌ ومتطلَّبات حتَّى يستمرَّ في
العيش عليها، فاتَّجه إلى تحقيق هذه المتطلَّبات، وأصبح طلبه للمحافظة على حياته
أمرًا أساسيًّا بالنِّسبة له، فتوجَّه بكلِّه لهذا المعنى.
وحين
صادفته مشاكل الوجود والتَّواجد، والأحداث التي لا يقدر عليها، اتَّجه بفطرته إلى
غيبٍ لا يراه، وتصوَّره بصورٍ مختلفة، وأراد أن يتقرَّب إليه، "... وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ
مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ ..."[المائدة
27]، وهذا تعبيرٌ عن اختلاف النَّاس، وعن اختلاف مشاربهم
واتِّجاهاتهم ومستوياتهم، من ناحية ما فيهم من حقٍّ وما فيهم من باطل.
فإذا
كان معنى الرَّسول على مستوى الإنسان بفطرة الله فيه، موجودٌ في كلِّ إنسان، إلَّا
أنَّ ظهور هذا المعنى واختفاءه في داخل الإنسان، يختلف من إنسانٍ لإنسان، وهذا ما
جعل النَّاس تختلف في معتقداتها وفي متطلَّباتها، من النَّاحية الرُّوحيَّة
والمعنويَّة، ومن ناحية إقامة الصِّلة بالغيب. فكان هناك احتياجٌ لأن يظهر رسولٌ
من أنفس النَّاس، فكانت الرَّسالات السَّماويَّة، جاء الرُّسل لينِّبهوا النَّاس
لما فيهم من حقٍّ، ويُعْلِمُوهم أنَّهم ما خُلِقوا هباءً، وما خُلِقوا باطلًا.
ظهرت
الرُّسل بالرِّسالات لتنتصر لمن أدركوا ذلك بفطرتهم، ففي كلِّ المجتمعات كان هناك
من يدركون هذا بفطرتهم. فحين ظهر محمَّدٌ ابن عبد الله في الجزيرة العربية، كان
هناك من يدينون بدين الفطرة الحنيفيَّة، بالدّين الحنيف، وكانوا يدركون أنَّ خَلْقهم
ووجودهم ليس باطلًا.
فحين
نقرأ الآية: "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ
جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا
خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"[آل
عمران 191]، هي تعبيرٌ عن هؤلاء الموجودين دائمًا على هذه الأرض،
وهؤلاء موجودون في كلِّ زمانٍ ومكان، ولكنَّهم قلَّة.
والكثرة
تحتاج إلى توجيهٍ مباشر، وهذه كانت وظيفة الرُّسل في الرِّسالات السَّماويَّة،
جاءت لتساعد الذين يطلبون الهداية ولا يعرفونها، يطلبون مددًا، ويطلبون قوَّةً
تساعدهم أن يُغيِّروا طريقهم إلى طريقٍ أفضل، وإلى قيامٍ أكمل وأقوم.
"فَذَكِّرْ
إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى، سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى، وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى"[الأعلى
11:9]، "فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى"،
هناك من يخشى، وهو الذي يطلب الهداية، سيستمع إلى القول، وسيساعده هذا القول على
أن يتغيَّر إلى الأفضل. أمَّا الذي لن يستمع إلى هذا القول فهو الأشقى، الذي غلب
في وجوده الظَّلام، فأصبح لا يسمع ولا يفقه، "... صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ
فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ"[البقرة 171].
والذين
يستمعون للذِّكرى، هم الذين سيستفيدون من الحديث الموجَّه إليهم، فيساعدهم هذا الذِّكر
وهذا التَّذكير، إلى أن يظهر فيهم معنى الحقِّ، وأن يُولد فيهم معنى الحقِّ، وأن يُولد
فيهم رسول الحقِّ. ونعني هنا قلوبهم التي تحيا، [إنَّ القلوب لتصدأ كما يصدأ
الحديد، وإنَّ جلاءها لذكر الله](1)، و [إنَّ في الجسد مضغة لو صلحت لصلح البدن كلُّه،
ألا وهي القلب](2).
فهكذا
تكون الذِّكرى مؤثِّرةً في الإنسان، فيصبح الإنسان فيه قلبٌ سليم، وفيه فطرةٌ
سليمة، "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"[الحجر
9]، والذِّكر المحفوظ، هو فطرة الإنسان وقابليتها على أن
تحيا، إنَّها ليست في كتبٍ مسطورة.
فنحن
نرى كثيرًا من اللغط، ومن الأشياء، ومن الأحاديث التي لا يقبلها قلبٌ سليم. وحين
حاول من نطلق عليهم الفقهاء أن ينقُّوا هذه الأحاديث الموروثة، اعتمدوا فيها فقط
على النَّقل لحدٍّ كبير. والنَّقل في أحسن الأحوال في صدق من ينقل مرتبطٌ بفهمه
وإدراكه وصياغته، حتَّى لو كان قادرًا على الحفظ والنَّقل بشكلٍ تامّ، إلَّا أنَّ
اللغة نفسها معروفٌ أنَّها تحتمل معانٍ كثيرة، فوجب الاعتماد على المُستقبِل وما
فيه من فطرةٍ سليمة، يستطيع بها أن يُميِّز بين الحقِّ والباطل.
عباد
الله: إنَّا نُذكِّر أنفسنا في هذا اليوم بمعنى مَوْلِد النِّبيّ،
بأن نتَّجه إلى الله أن يساعدنا أن نكون أهلًا لنفحاته ونوره، من خارجنا ومن
داخلنا، لنكون قادرين أن نُميِّز بين ما يُحيينا، وبين ما يُميتنا، بين أن نكون في
طريق الحقِّ، وبين أن نكون في طريق الباطل.
وطمعنا
في الله كبير، وإدراكنا لرحمته الواسعة التي وسعت كلَّ شيءٍ، إدراكنا لهذه الرَّحمة
راسخٌ في وجداننا، وقد عُلِّمنا أنَّ على الإنسان أن يجتهد، وأن يحاول، وأن يُعمِل
كلَّ طاقاته، والخطأ والصَّواب أمران نسبيَّان.
فليس
هناك خطأٌ مطلق، وليس هناك صوابٌ مطلق، بل أنَّ الخطأ يوم تدرك ما فيه من عيبٍ هو
صوابٌ كبير؛ لأنَّك تكون قد تَعلَّمت منه، والصَّواب يوم يجعلك تغترَّ بنفسك،
وبوجودك، هو خطأٌ كبير؛ لأنَّه يجعلك لا تسمع ولا ترى.
عباد
الله: نسأل الله: أن نسمع ونرى، وأن ندرك معنى الحقِّ في
وجودنا، ومعنى الحقِّ في كوننا، وأن نكون أهلًا لرحمات الله من خارجنا ومن داخلنا،
حتَّى نكون عبادًا له خالصين، ولوجهه قاصدين، ومعه متعاملين، وعنده محتسبين، ولوجودنا
مُطهِّرين، ولقلوبنا مُحيين، ولعقولنا منيرين.
فحمدًا
لله، وشكرًا لله، وصلاة وسلامًا عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
عباد
الله: ما أردنا أن نُوضِّحه اليوم: هو ما نتأمَّله في مَوْلِد
النَّبيّ ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وكيف أنَّ مَوْلِد الحقِّ في الإنسان هو
موجودٌ بفطرته، ولكنَّه يحتاج أن يظهر على وجوده، فينتشر الحقُّ في كلِّ كيانه، "وَقُلْ
جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا"[الإسراء
81].
أنَّه
بهذا المعنى، فإنَّ كلَّ إنسانٍ فيه رسول الله كمعنى، [إستفت قلبك وإن أفتوك،
وإن أفتوك، وإن أفتوك](3)، فالقلب هنا هو معنىً يجعل الإنسان يتَّجه إلى الطَّريق
القويم، نريد أن نُحيي هذا القلب، فعلينا أن نذكر كثيرًا، وأن نستمع إلى الذِّكرى
والتَّذكير، حتَّى نكون أهلًا لمَوْلِد الحقِّ وانتشاره في وجودنا.
أما
في مجتمعاتنا، فقد أرسل الحقُّ رسله بالبيِّنات، وجعل حديثهم باقيًا، ليس بالكتب وسَطْرِها،
ليس بهذه الكتب فقط، وإنَّما ببقاء كلماتهم في أثير هذه الأرض، يستقبلها من قلبه
طاهرٌ، يستقبلها من هو أهلٌ لها.
عباد
الله: تدبَّروا في آيات الله، واستمعوا إلى ذكر الله، وتفكَّروا
في كلِّ كلمةٍ، وفي كلِّ آيةٍ في كتاب الله، وفي الآفاق وفي أنفسكم حتَّى يتبيَّن
لكم الحقَّ. واعلموا أنَّ ما تصلون إليه
في أيِّ حالٍ، هو أفضل من ألَّا تفعلوا شيئًا، أفضل من ألَّا تفكِّروا، فكِّروا
وتأمَّلوا، وإن أخطأتم سوف يرسل الله لكم من يُصحِّح خطأكم، فارجعوا إلى الصَّواب
متى اقتنعتم به، واعلموا أن الرجوع إلى الحقِّ فضيلة.
وأنَّ
ما ترجعون إليه هو قابلٌ أيضًا أن يكون خطأً، فاستمرُّوا في الاستماع، واستمرُّوا
في التَّدبُّر، واستمرُّوا في التَّفكُّر، واتَّجهوا إلى الله أن يوفِّقكم، وأن
يساعدكم، وأن يرشدكم، حتَّى تكونوا عبادًا له خالصين، ولوجهه قاصدين.
اللهم
وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النَّاس حولنا.
اللهم
ونحن نتَّجه إليك، ونتوكَّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ
ولا منجى منك إلَّا إليك.
اللهم
فاكشف الغمَّة عنَّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم
ادفع عنَّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم
اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم
أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم
لا تجعل لنا في هذه السَّاعة ذنبًا إلَّا غفرته، ولا همًّا إلَّا فرَّجته، ولا
حاجةً لنا فيها رضاك إلَّا قضيتها.
اللهم
ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا
أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا.
____________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق