الخميس، 5 ديسمبر 2019

حين يُوجد في الإنسان طلبٌ للحقِّ، إنَّها نقطة البداية.


حديث الجمعة
 2 ربيع الثاني 1441هـ الموافق 29 نوفمبر 2019م
السيد/علي رافع

حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
نستعين بالله ونستنصره، ونعوذ به من الشَّيطان الرَّجيم، نعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، نسأله رحمةً وهدايةً وعزمًا، لنكون أفضل، ولنكون أرحم، ولنكون أقوم، لنكون سالكين "... الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ"[الفاتحة 6]، والطَّريق القويم، قاصدين دائمًا وجهه، متوكِّلين دائمًا عليه، مستعينين دائمًا به.
عباد الله: إن آيات الله تُعلِّمنا وترشدنا إلى ما نطلبه ونسأله، ترشدنا إلى ما يُحيي قلوبنا، ويُهدِّئ نفوسنا، ويُنير عقولنا ـ يوم نقرؤها قراءة طلبٍ، وقراءة دعاءٍ، لأن نحقِّق ما فيها من معانٍ، وما بها من إرشادٍ، وما فيها من توجيهٍ.
ونحن نقرأ في كلِّ صلاةٍ فاتحة الكتاب؛ لأنَّ فيها هدف وجودنا وهدف قيامنا، ما يجعلنا قادرين على مواصلة الحياة التي نعيشها، ومن التَّغلب على العقبات التي نقابلها، ومن الإجابة على التَّساؤلات التي نطرحها.
نبدأ دائمًا "بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"[الفاتحة 1]؛ لأنَّ اسم "الرَّحْمَنِ" هو الرَّحمة بلا نهائيَّتها، هو الرَّحمة بلا محدوديَّة وبلا قيود، هو الرَّحمة التي فوق كلِّ شيء، والتي وسعت كلَّ شيء، والتي تحيط بكلِّ شيء، والتي هي أكبر من أيِّ شيء، هي الحياة، هي الثَّواب، هي الهداية، هي الطَّريق، هي الجنَّة، هي العُلا، هي المأوى، هي كلُّ شيءٍ فيه حياةٌ، وفيه نورٌ، وفيه كسبٌ، هي فوزنا، هي نجاتنا، هي حياتنا.
ونبدأ باسمه "الرَّحِيمِ" أيضًا الذي هو الرَّحمة المشهودة، والرَّحمة الموجودة، والرَّحمة التي تحيط بنا في وجودنا المُقيَّد، فالله رحيمٌ بعباده، و"... لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ ..."[الشورى 19]، فأوجد مع كلِّ عسرٍ يسرا، وأوجد مع كلِّ ضيقٍ مخرجًا وفرجا. فنحن بذلك نُذكِّر أنفسنا بأن نكون على صلةٍ دائمةٍ باسمه "الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، والتي عَلَّمنا رسول الله أنْ [لا يدخل الجنة أحدكم بعمله، حتى أنت يا رسول الله؟ حتى أنا، ما لم يتغمدن الله برحمته](1).
إنَّه الافتقار إلى الله، إنَّه خشية الله، وخشية الله لا يعرفها إلَّا من عَلِم، "... إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ..."[فاطر 28]، الذين يخشون الله لا يَدَّعون على الله، ولا يتكلَّمون باسم الله، ولا يفرضون وجودهم على الآخرين بادِّعاء أنَّهم ينوبون عن الله، إذا قرأوا الآيات خشعت قلوبهم، فلا يجرؤون أن يقولوا أنَّ الله يريد كذا وكذا، لا يستطيعون أن يقولوا أنَّهم يفهمون شرع الله، وأنَّهم يعلمون شرع الله، وأنَّهم يريدون أن يُطبِّقوا شرع الله؛ لأنَّ شرع الله هو مُطبَّقٌ وقائمٌ، "... إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ..."[الطلاق 3]، إنَّه لا ينتظرهم ليُطبِّقوه.
إنَّما عليهم أن يخشوا الله فيما يقومون به، وفيما يُطبِّقونه هم، كيف يتوافق ما يريدون أن يُطبِّقوه مع ما هو قائمٌ في فطرتهم من معنى الأفضل والأصلح والأقوم.
إن الله تعالى عن أن يريد شيئًا بعينه؛ لأنَّ إرادته فوق أن نعلمها؛ ولأنَّ إرادته نافذة دائمًا في كلِّ صورةٍ وفي كلِّ شكل، فالقضيَّة قضيَّتنا، ومعنى أنَّ الله خلق آدم خليفةً له على الأرض، معنى الخلافة هنا، هو مسئوليَّة الإنسان عن أرضه وعن وجوده.
فوجب على الإنسان أن يتولَّى هذه المسئوليَّة، [كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسئولٌ عن رعيَّته](2)، ويجب على الأمَّة أن تتولَّى مسئوليَّتها، "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ..."[آل عمران 104].
فكيف تكون خشية الله في أقوامٍ يقولون أنَّهم يريدون أن يُطبِّقوا شرع الله، وكيف يحصرون شرع الله في شكلٍ أو في صورةٍ، ويتصوَّرون أنَّهم بذلك أقاموه، أو طبَّقوه، أو فَعَّلوه. خشية الله هي لـ "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ..."[البقرة 3]، فيتحرَّجون أن يتكلَّموا باسم الله، إنَّما يتكلمون بما يرون هم أنَّه الأفضل لهم على هذه الأرض.
وآيات الله حين يقرؤونها يتلمَّسون فيها ما هو أفضل لهم على هذه الأرض من خلال وجودهم، وليس من النَّظر إلى ما يقرؤون تجسيدًا لشكلٍ أو لصورةٍ، فأيُّ إرادةٍ لله هي أكبر من أيِّ شكلٍ أو أيِّ صورة، إنَّما التَّوجيه للإنسان أن يتأمَّل ويتفكَّر.
"بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، تحمل كلَّ هذه المعاني، فأنت تبدأ بها لتُذكِّر نفسك بأنَّك لا تنقل إرادة الله، ولا المقصود من الآيات بمعناها المطلق، إنَّما تريد أن تتفاعل معك الآيات لتجعلك أفضل، دون صورةٍ ودون شكل، إنَّما الشَّكل والصُّورة ينبع منك أنت يوم تكون أفضل، ويوم تكون أحسن، "لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ"[الواقعة 79]، و"الْمُطَهَّرُونَ" ليسوا هم المُطهَّرون ذاتًا أو جسدًا، وإنَّما هم المُطهَّرون قلبًا وعقلًا وإدراكًا، فيصلون بتَأمُّلهم وتَفكُّرهم إلى ما تحمله الآيات لهم.
فإذا قرأوا "الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"[الفاتحة 2]، حملت لهم هذه الآية معنى "الْحَمْدُ"، ومعنى "رَبِّ الْعَالَمِينَ". فالحمد هو قيامٌ يستطيع الإنسان أن يدركه بتأمُّله، وتفكُّره، وتدبُّره، فقد خُلِق الإنسان في صورةٍ، وفي بيئةٍ، وفي حالٍ، وبقدراتٍ وإمكاناتٍ قد تكون قليلةً وصغيرة، وقد تكون كبيرةً وكثيرة، وهو لا يملك أن يُغيِّر صورته، ولا أن يُغيِّر بيئته، ولا أن يُغيِّر قدراته الأساسيَّة، إنَّما يستطيع أن يُنمِّي هذه القدرات بالتَّدبُّر، والتَّعلُّم، والتَّأمُّل، وبالعمل، وبالذِّكر، وبالاستماع، وبالقراءة.
هذا الحال إذا قام فيه الإنسان، أنَّه عرف إمكانيَّاته وقدراته، ورضى عن هذا الحال الذي هو فيه، وفَعَّل ما فيه من قدرات وطاقات، عرف معنى "الْحَمْد"، سيكون قلبه راضيًا عن وجوده، غير ناقمٍ على حاله، يدرك أنَّ الله "رَبُّ الْعَالَمِينَ"، ليس ربَّه فقط، وإنَّما هو "رَبُّ الْعَالَمِينَ"، ربُّ من يخالفونه في العقيدة، وفي الفهم، وفي الإدراك، وفي السُّلوك، وفي العمل، وفي العلم، في كلِّ شيء، فلا يقول كيف يفعل الله لهؤلاء ذلك وأنا أفضل منهم، وهم أقلُّ منِّي، الله "رَبُّ الْعَالَمِينَ"، لا يحكم على أحدٍ، ولا يَصِم أحدًا بأيِّ نقيصةٍ أو صغيرةٍ، إنَّما يكون دائمًا مدركًا أنَّ الله "رَبُّ الْعَالَمِينَ".
هو يتَّجه إلى وجوده فيحاول أن يُخرِج من وجوده أحسن ما يستطيع، قد لا يكون الإنسان قائمًا في ذلك، ولكنَّه بعقله يدرك أنَّه لا يستطيع أن يكون غير ذلك، إذا أراد أن يحيا حياةً قويمةً، ويستعين على نفسه بـ"الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ"[الفاتحة 3]، "الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ"، كما بدأ بها يُؤكِّدها بعد إدراكه لمعنى "الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"، فيطلب قوَّةً ورحمةً من "الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ"، ليكون في هذا الحال، في حال الحمد الذي يُمَكِّنه من أن يُنجِز، وأن يُغيِّر، وأن يتطوَّر بإمكاناته وقدراته.
ويعلم أنَّه مهما اختلف مع الآخرين، فالله "مَلِكُ يَوْمِ الدِّينِ"[الفاتحة 4]، هكذا نُعلَّم. حين يعتقد البعض أنَّه أفضل من الآخر، فالذين يدركون يقولون: الله يحكم بيننا يوم القيامة، "اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ"[الحج 69]، في كلِّ أمور حياتكم، في كلِّ أهدافكم، في كلّ أفعالكم، في كلِّ صوركم.
عباد الله: إن قراءة الآيات ليست مجرَّد ذكرٍ، وإنَّما هي أيضًا دعاءٌ ـ كما نقول دائمًا ـ فالذّكر دعاء، والدُّعاء ذكر، فإذا قرأنا الآيات فلندعُ بما فيها، ولنتَّجه إلى الله لأن يُعيننا على أن نقوم في معانيها ومبانيها.
فمعانيها هي مفهومٌ يقوم فينا، ومبانيها هي قيامٌ نقوم فيه، هكذا يكون الإنسان في الطَّريق القويم، وعلى الصِّراط المستقيم، وهذا مفهومٌ لنا وليس أمرًا مطلقًا، فكلُّ إنسانٍ له مفهومه، وله إدراكه.
نسأل الله: أن يُحقِّق لنا ذلك، وأن يجعلنا كذلك.
فحمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
___________________
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نُوضِّحه اليوم من وجهة نظرنا: هو تأمُّلٌ في آياتٍ من فاتحة الكتاب، والتي نقرؤها في كلِّ صلاة، ونقرؤها دعاءً وطلبًا للعون وللرَّحمة، لعلَّنا ونحن نقرؤها في كلِّ مناسبةٍ، وفي كلِّ عبادةٍ أن نتذكَّر معانيها، وأن نحاول أن نقوم في مبانيها، [فقد جُمِع القرآن في فاتحته، وجُمعَت الفاتحة في البسملة، وجُمعَت البسملة في بداية الباء، التي نبدأ بها البسملة، "بِسْمِ اللّهِ"، كما قال البعض](3).
وهذا تعبيرٌ مجازيّ عن أنَّ الحقيقة كلُّها تكمن في نقطة الحقِّ، في أن يُوجد في الإنسان طلبٌ للحقِّ، إنَّها نقطة البداية، إنَّها نقطة الطَّلب، أنَّك تطلب، أنَّك تدعو، أنَّك تفتقر، أنَّك لا تغترُّ بنفسك، ولا تتكبَّر بذاتك، ولا تَدَّعي علمًا بما يريد الله ـ إنَّما أنت مفتقرٌ إلى الله، مُتَّجهٌ إليه.
تعلم أنَّ كلَّ ما تقول وما تفعل، وما هو موجودٌ فيك بقدرتك، بفطرتك، بما حصَّلت من علمٍ، والعلم الذي حصلت عليه هو مفهومك أنت، هو إدراكك أنت، ليس كلُّ ما تعلم هو الحقُّ المطلق، إنَّما هو علمٌ تَعلَّمته، هو أمرٌ أدركته، هو أمرٌ عَقِلته، ورأيت فيه أنَّه ما يُحييك، وما يُخرِجك من حالٍ إلى حال.
عباد الله: علينا أن نقرأ آيات الله قراءة دعاءٍ وطلبٍ ورجاء، أن نقوم في معانيها، وأن يكون سلوكنا، وحالنا، وتصرُّفاتنا، هي تعبيرٌ عن هذا المفهوم الذي قام فينا.
نسأل الله: أن يُحقِّق لنا ذلك، وأن يجعلنا كذلك.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النَّاس حولنا.
اللهم ونحن نتَّجه إليك، ونتوكَّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلَّا إليك.
اللهم اكشف الغمَّة عنَّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنَّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا.  
____________________

(1)    "لا يُدخل أحدكم الجنة عمله، قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمة وفضل" حديث شريف رواه أحمد بهذا اللفظ ورواه البخاري ومسلم هكذا "سددوا وقاربوا وابشروا فإنه لن يُدخل الجنة أحدكم عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمه ".

(2)    جاء بسنن الترمذي: ‏عن النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم أنه‏ ‏قال ‏" ‏ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، فالأمير الذي على الناس راع ومسئول عن رعيته ، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم ، والمرأة راعية على بيت بعلها وهي مسئولة عنه ، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه ، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"‏. 

(3)    روى الشعراني: عن الإمام علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه وكرّم وجهه أنّه كان يقول: لو شئت لأوقرت لكم ثمانين بعيراً من معنى (الباء) .. لطائف المنن 1: 171، طبعة مصر..

وروى القندوزي الحنفي في (ينابيع المودّة) ما لفظه: وفي الدرّ المنظم: إعلم أنّ جميع أسرار الكتب السماوية في القرآن، وجميع ما في القرآن في الفاتحة، وجميع ما في الفاتحة في البسملة، وجميع ما في البسملة في باء البسملة، وجميع ما في باء البسملة في النقطة التي تحت الباء، قال الإمام علي كرّم اللّه وجهه: أنا النقطة التي تحت الباء.

وقال أيضاً: "العلم نقطة كثّرها الجاهلون، والألف وحدة عرفها الراسخون" .. ينابيع المودّة: 69 و 408، طبعة إسلامبول.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق