الأربعاء، 26 فبراير 2020

الإنسان باستعداده الفطريّ، وبمحاولته الدَّائمة لأن يتَّجه إلى الغيب، هو الطَّريق الوحيد الذي يهدي الإنسان إلى الحياة


حديث الجمعة
 27جماد الثاني 1441هـ الموافق 21 فبراير 2020م
السيد/ علي رافع

حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
نستعين بالله ونستنصره، ونعوذ به أن نقول زورا، أو نغشى فجورا، أو أن نكون به مغرورين. نتَّجه إليه أن يوفِّقنا لما يُحيينا، ولما يُخرجنا من الظُّلمات إلى النُّور، وأن نتفكَّر ونتأمَّل في آياته لنا، فيما ينفعنا، وفيما يُصلِحنا، وفيما يجعلنا في طريقه سالكين وعارجين.
فالإنسان وصلاحه هو بداية الطَّريق، البدء من الإنسان، والصَّلاح من الإنسان، وصلاح الإنسان أساسه الدُّعاء، والرَّجاء، والذِّكر، حتَّى يستطيع أن يتقبَّل آيات الله، وأن يكون أهلًا لاستقبالها، وأهلًا لفهمها وإدراكها، وأهلًا للتَّمييز بين ما هو خيرٌ وما هو شرّ، بين ما هو حقٌّ وما هو باطل.
لذلك، نجد دائمًا في بدايات أيِّ رسالة، أنَّ السَّالك والطَّالب يبدأ بنفسه، يبدأ مفكِّرًا، يبدأ متسائلًا، ومن خلال تساؤله يدرك أنَّ الهداية من الله، وأن التَّوفيق من الله قبل أيِّ شيء، فهداية الله للإنسان فوق أيِّ صورة، وفوق أيِّ وسيلة، وفوق أيِّ دعوة، لذلك نقرأ الآية: "مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا".
"يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً"، وكثيرًا ما نذاكر في هذه الآية؛ لأنَّ كثيرًا من النَّاس يتساءلون: وكيف يكون ذلك؟ ويعتقدون أنَّهم إن لم يفهموا ذلك فهناك خطأٌ ما، فإنَّهم يتطاولون في بعض الأحيان، ويريدون أن يُصحِّحوا ما جاءت به الآيات، مع أنَّ الواقع يؤكِّد على أنَّ الآيات تهدي كثيرين، ويُضِلُّ بسوء فهمها كثيرين، ومنها هذه الآية نفسها.
بل أنَّنا في أحداث الحياة، وفي فهم بعض المغالين لآيات الله، نجد هذا المعنى أيضًا، فيفسِّرون آيات الله بشكلٍ لا يقبله الإنسان الصَّالح، فيقتلون ويعتدون بظنِّ إيمان، وبظنِّ أنَّهم يُطبِّقون آيات الله.
ولذلك، نرجع إلى ما بدأنا به الحديث لنُوضِّح أنَّ الإنسان باستعداده الفطريّ، وبمحاولته الدَّائمة لأن يتَّجه إلى الغيب طالبًا داعيًا أن يوفِّقه أن يكون أهلًا لاستقبال المعاني، ولأن يفهمها، ولأن يقوم فيها ـ هو أمرٌ أساسيّ، وهو الطَّريق الوحيد الذي يهدي الإنسان إلى الحياة، وإلى أن يكون عبدًا لله، ونفهم بهذا معنى الآية: "مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا".
فقبل أن يخوض الإنسان في أيِّ قضيَّة عليه أوَّلًا أن يُعِدَّ نفسه لها بالذِّكر، وبالدُّعاء، وبالطَّلب، وهذا ما يؤهِّله لأن يستقبل ما فيها من حقيقة. وهناك أمثلةٌ كثيرة، فيما يفهمه النَّاس من آيات الله ومن سُنَّة رسول الله، ما يُؤدِّي بهم إلى اتِّخاذ موقفٍ معيَّن لا يقبله آخرون؛ لأنَّه يتعارض مع ما هم له أهل، وما صاروا إليه من دعاءٍ، وطلبٍ، ورجاء.
فإذا نظرنا إلى سيرة الإنسان على هذه الأرض في مراحلها المختلفة، نجد الإنسان وهو ينتقل من حالٍ إلى حال، ومن مرحلةٍ إلى مرحلة، فقد يكون في ظلامٍ وفي غفلةٍ عن حقيقته وعن معنى وجوده، وقد يفيق إلى أنَّه يريد أن يُغيِّر هذا الحال الذي هو عليه، فهو في غفلته ربَّما يكون قد قصَّر في حقِّ هذا الوجود، فلم يُدرِّب نفسه ولم يجاهدها، فلم يَدعُ ربَّه، ولم يجاهد نفسه.
ثم حدثت له إفاقة، فاتَّجه إلى ربِّه، وجاهد نفسه، وسأل قومه: ماذا أفعل في هذا الحال؟ كيف أُصحِّح ما كان في الماضي؟ فيقول له بعض النَّاس أنَّ ما فاتك من صلاةٍ ومن صومٍ عليك أن تُعوِّضهما، بل أنَّ ما فاتك من صومٍ لا يمكن أن تُعوِّضه، ويستندون في ذلك إلى قراءةٍ لحديثٍ بمعنى أنَّ من أفطر يومًا من رمضان بدون عذرٍ فلن يُعوِّضه صوم الدَّهر كلِّه(1).
حين يُعرَض هذا على الإنسان الذي دعا ربَّه، وأفاق إلى حقيقته، لا يرى في هذا القول قولًا تقبله هذه الفطرة، فهو يريد أن يبدأ من جديد، إنَّه مولودٌ جديد، فيجد معنى: "التَّائب من الذَّنب كمن لا ذنب له"، وأنّه كمولودٍ جديد، بل يجد في أقوال البعض أيضًا في فهمهم لحالته أنَّه عليه أن يبدأ من جديد، وما فات فات، وليُخلِص فيما هو آت، وليدعُ الله دائمًا فيصلِّي، ويجاهد نفسه دائمًا فيصوم، وليكن مدركًا لحقيقة أمره، ولمعنى وجوده من أنَّ كلَّ ذلك لأن يصلح ويفلح، وأنَّ كلَّ ما فات طالما قد وصل به إلى أنَّه غيَّر نفسه، وأصلح حاله، وأدرك حقيقته، فهو في معنى: إتبع السَّيِّئة بالحسنة تمحها(2).
هذا الفهم موجود، والفهم المُتشدِّد موجود بظنِّ إيمان، والفهم المُتسامح موجود بظنِّ طلبٍ ورجاء ومغفرةٍ وتوبة، أنا عند ظنِّ عبدي بي إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشرٌّ (3).
هذا مُجرَّد مثالٍ على أنَّ أهليَّة الإنسان هي التي تُحدِّد الطَّريق الذي يتَّخذه، وأنَّه بذلك ينجو في حياته، ويختار طريقه الذي يُحييه، أو أنَّه يختار طريقه الذي يُميته، كلُّ ذلك يكون بما هو له أهل، وما هو له أهل يجيء باتِّجاهه بقلبه وبعقله وبوجوده لله، بدون أن يسمع من الآخرين، وبدون أن يتأثَّر بأيِّ شيء وبأيِّ فهم، عليه أن يبدأ بنفسه فردًا، يبدأ بنفسه آدمًا، يبدأ بنفسه إنسانًا، يبدأ بنفسه عبدًا، يبدأ بنفسه داعيًا طالبًا.
فالبدء يكون كذلك، يكون من رغبة الإنسان نفسه، من إحساسه بضعفه، ومن إحساسه بافتقاره، لن يُغيِّر إنسانٌ إنسانًا، قد يساعد إنسانٌ إنسانًا، وقد يجد إنسانٌ ما يطلبه في إنسانٍ يرسله الله له، ولكن البداية دائمًا تكون من رغبةٍ صادقةٍ في كلِّ فرد لأن يبدأ طريقه، لأنَّه بذلك سوف يستطيع أن يُميِّز بين الخير والشرِّ، بين الطَّيِّب والخبيث، الذي ينفعه والذي يضرُّه.
أمَّا إذا لم يكن مُعَدًّا لذلك، وبدأ في الاستماع لما يُقال هنا وهناك، فسوف يكون حائرًا ضالًّا، لا يعرف طريقه، ولن يجد أمامه إلَّا أن يرجع إلى بداية الطَّريق ليبدأ بدءًا صحيحًا، وهو أن يتَّجه إلى الله، وأن يذكر الله، يصل إلى كلِّ ما وصل إليه الصَّالحون، والأنبياء، والرُّسل، "لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ" "وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى"، ووجدك قبل ذلك "يَتِيمًا فَآوَى".
إنَّه تعبيرٌ عن الإنسان في بدئه، ومُحمَّدٌ ـ رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ـ كان مثالًا لذلك، "أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى". وكما نذاكر دائمًا أنَّ اقتداءنا برسول الله قبل البعثة هو الطَّريق إلى الصَّلاح والفلاح؛ لأنَّ كلَّ إنسانٍ على هذه الأرض هو يتيمٌ، وهو ضالٌّ وهو عائلٌ لا يعرف كيف يَعول من يَعوله، ولا أن يَعول نفسه، وعليه أن يتَّجه إلى الله ليستقبل رسائل الله، فيخرجه الله مما هو فيه، إلى ما هو أفضل وأحسن وأقوم، فيستقبل رسائله، ويستقبل رحماته، ويستقبل هديه.
"آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ".
عباد الله: نسأل الله: أن نبدأ دائمًا بدايةً صحيحة، ونحن نستطيع أن نبدأ في كلِّ يوم، بل في كلِّ لحظة، بأن نرجع إلى قلوبنا، وأن نرجع إلى عقولنا، وأن نتَّجه إلى ربِّنا، وأن نسأله عونًا، وأن نسأله رحمةً، وأن نسأله فضلًا، وأن نسأله كرمًا، وأن نسأله علمًا، وأن نسأله هدايةً، هكذا نكون عبادًا لله صالحين.
فحمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نُوضِّحه اليوم: أنَّ البداية من الإنسان، وأنَّ عليه أن يبدأ بأن يتَّجه إلى الغيب، يسأله هدايةً، ويسأله توفيقًا، ويسأله صلاحًا وإصلاحًا، يسأله قدرةً على أن يُميِّز بين الحقِّ والباطل، بين النُّور والظَّلام، بين ما يهديه وما يُضلُّه، بين ما يُحييه وما يُميته، بين ما يجعله عبدًا لله وما يجعله ضالًّا لا يعرف طريقه.
هكذا تكون البداية، البداية من الإنسان دائمًا، وهذه البداية يمكن أن نبدأها في كلِّ يوم، وفي كلِّ لحظة، الإنسان في حاجةٍ دائمة إلى أن يرجع إلى الحقِّ فيبدأ منه، والحقُّ هو أن يبدأ بنفسه.
فهو ليس أمرًا زمنيًّا، نبدأ ثم نسير بلا نهاية، إنَّنا نسير لنبدأ مرَّةً أخرى، ونبدأ مرَّةً أخرى، وهكذا، وهذا معنى أنَّ السَّير في الله لا نهاية له(4)، لا نهاية له؛ لأنَّ الإنسان ينظر إلى كلِّ لحظةٍ على أنَّها بدءٌ جديد، وعليه أن يبدأ بدءًا جديدًا، وهو معنى من معاني الاستغفار، إنَّه ليُغان على قلبي حتَّى أستغفر الله في اليوم سبعين مرة، أأغيان أغيار يا رسول الله؟ بل هي أغيان أنوار(5).
عباد الله: نسأل الله: أن يساعدنا أن نبدأ في كلِّ لحظةٍ بدءًا جديدًا، وأن نستغفره دائمًا، وأن نرجع إلى الحقِّ دائمًا، وأن نكون أهلًا لرحمته، ونعمته، وكرمه، وجوده، ونعمته.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النَّاس حولنا.
اللهم ونحن نتَّجه إليك، ونتوكَّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلَّا إليك.
اللهم فاكشف الغمَّة عنَّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنَّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السَّاعة ذنبًا إلَّا غفرته، ولا همًّا إلَّا فرَّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلَّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا.    
______________________

(1)    حديث: "من أفطر يومًا من رمضانَ مُتعمِّدًا لم يقْضِه ولو صام الدَّهرَ". الراوي: أبو هريرة، المحدث: الإمام أحمد، خلاصة حكم المحدث: ليس يصح.

(2)    حديث شريف نصه: "اتق الله حيث كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن". الراوي: أبو ذر الغفاري، المحدث: ابن العربي، صحيح.

(3) يقول الحديث القدسي: أنا عند ظن عبدى بى ، إن ظن خيراً فله ، وإن ظن شرا فله. أخرجه أحمد ابن حنبل (الجامع الصغير للسيوطي ج2 ص82).

(4)  مقولة صوفية.

(5)    الحديث الشريف كما أخرجه مسلم هو :" إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة ". الجزء الثاني هو ما قيل عن رؤية للإمام أبي حسن الشاذلي حيث رأى الرسول صلى الله عليه وسلم.


 

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق