الأحد، 1 نوفمبر 1998

أفضل الأعمال ما أكرهت نفسك عليه

قال السيد سلفربرش الروح المرشد في مقدمة أحد كتبه: "إذا كنت قد ظننت أنك وصلت إلى قمة العرفان، فلا تقرأ هذه الكلمات"، ونقول أن من يشعر بافتقار دائم إلى المعرفة، وبرغبة مستمرة في السعي إلى الأفضل فإن أسئلته لن تتوقف، إذا كنت في غير حاجة إلى السؤال فإنك في غير حاجة إلى الإجابة كذلك.‏
وقد يكون هذا السؤال الذي نطرحه هنا قد دار بخلدك يوما، أو قد تعجب منه، ولكن في كل الأحوال فنحن نشركك معنا فيما نسأل وفيما نتلقى من إجابة من مرشدنا ورمز جماعتنا وتجمعنا، السيد علي رافع.‏
سؤال: قال الإمام عليّ كرم الله وجهه "أفضل الأعمال ما أكرهت نفسك عليه". نريد إيضاحا لهذه المقولة لأننا نرى من الناحية الواقعية أن أفضل الأعمال هي نتاج ما يحب الإنسان أن يقوم به.‏

إجابة: القضية الأولى التي أحب أن أتعرض لها قبل الإجابة على هذا السؤال هي أن الأقوال التي نسمعها من مصدر إرشاد يجب أن نتفكر فيها وألا نأخذها حرفيا ولفظيا، وذلك أنه إذا أخذنا الكلمات لفظيا قد نصل إلى نتائج لا نقبلها، مثل رفض القول أن "أفضل الأعمال ما أكرهت نفسك عليه"، وأنت تعتقد أن الإنسان إذا أحب ما يقوم به جاءت النتيجة أفضل مما إذا كان الإنسان يقوم بما لا يحبه.‏
إذا لم نأخذ الأمور بظاهرها لأدركنا أن الإمام علي يريد أن يركز على النفس "الأمارة بالسوء"، فمن أحد الظواهر الشائعة لهذه النفس أنها تريد أن تهرب من المسئولية ومن الجهاد، فعلى سبيل المثال يحوّل الإنسان الإرشاد الديني إلى مجموعة من الأفعال الشكلية التي يغطي بها تقاعسه عن البحث عن الحقيقة. هذه هي النفس التي يجب ألا نستسلم لها، فهي تريد أن تشد الإنسان بشكل مستمر إلى أسفل وتبعده عن المعنى الحقي لوجوده.‏
هنا يكون الانتباه والتنبه لما يحدث، وهنا يكون التدريب المستمر على عدم الانصياع لكل ما تأمر به، وذلك اكتشافا لنواياها الحقيقية. ولقد كان الصوفية يقومون بهذا التدريب بشكل مستمر وفي أبسط الأمور .. إذا جاع لا يسرع نحو الطعام، وإذا برد لا يسعى إلى التدفئة .. وإذا شعر بالحرارة لا يبحث عن البرودة، بل وأكثر من هذا فهو يرتدي الصوف في الصيف ويخفف من الملابس في الشتاء.‏
هم يقومون بمثل هذه السلوكيات من منطلق اختبار النفس وترويضها وليس من منطلق قهرها وعنادها، ولكنهم يريدون أن يقووا الإرادة الداخلية، والقدرة على التحكم.‏
والتدريب البسيط الذي يأمرنا به ديننا "ضيقوا مسالك الشيطان بالجوع والعطش"، ذلك أن عدم تلبية الإنسان لاحتياجاته البيولوجية تقوي عنده الإحساس بأنه أكثر من جسد وأكثر من ذات، وفي هذا استجابة لقانون الخلق .. أي مراد الله به أن يكون "إنسانا" خليفة الله في الأرض {إني جاعل في الأرض خليفة} البقرة: 30
وفي هذا يضرب رسول الله أسوة بنفسه إذ يقول "كان لي شيطان ولكن الله أعانني عليه فأسلم"، إذن غاية الإنسان أن يجعل هذه النفس أداة في يد الحق فيه، ذلك بألا يستسلم للأهواء، وإنما يقوي ويدرب آليات الحق فيه.‏
ولكن إذا كانت قوى الحق والخير في الإنسان مستيقظة، فأنت هنا ستجد أن هناك ما يأمرك بالخير .. أن تكون في عون أخيك .. أن تعمل عملا صالحا نافعا لخير الناس .. أن تعطي مما أعطاك الله .. أن تتعاطف مع آلام الآخرين .. أن تعود المريض .. وتعين الضعيف .. أن تنمي ما فيك من قدرات عقلية أو فنية أو يدوية .. أن تتحمس لمشروع ينتفع به الآخرون كما تنتفع أنت به أيضا.‏
إذا كان هذا هو شعورك وانفعالك وإحساسك .. وقرأت مقولة الإمام علي فماذا ستفعل؟
هل تمتنع عن كل هذا لأن الإمام علي قد قال "إن خير الأعمال ما أكرهت نفسك عليه"؟
يصبح هنا تطبيق الحديث تطبيقا أعوج وليس عن استقامة وفهم .. ولهذا فنحن نقول دائما يجب أن تتصرف من صميم تجربتك .. ومن صميم قناعتك بما ترى أنه الأفضل والأحسن والأقوم .. ليس هناك ما يلزمك إلا ضميرك الداخلي ورغبتك الصادقة في معرفة الحق واتباعه وتكون دعوتك هي دعوة رسول الله دائما "اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه".‏
وحتى تكون التجربة مثمرة فنحن نقول إن هناك آليات داخلية علينا أن نقويها .. تلك الآليات لها ما يناظرها في جهازنا المناعي الفيزيقي .. فنحن في جهازنا المادي نختزن قدرا هائلا من الأسلحة المقاومة للمرض والمقاومة للتلوث، وكلما قوي هذا الجهاز كلما كانت صحة الإنسان بوجه عام أفضل، وكلما ضعف أصبح الجسم يلتقط أي ميكروب أو قيروسات بسهولة ولا يشفى منها بنفس السهولة إلى أن وصلنا في هذا العصر إلى مرض ضعف أو تهالك الجهاز المناعي المعروف بالإيدز .. وفيه شرح للتدهور الذي يمكن أن يصيب الجسد البشري حيث تصبح مقاومته معدومة بالنسبة لأي قوى مدمرة خارجية.‏
جهازنا الروحي .. قدراتنا الحقية .. يمكن أن نقويها دائما ونجعلها قادرة على مقاومة العوامل التي تؤدي إلى هلاكها .. قوة هذا الجهاز المناعي الروحي هي التي تفرق بين إنسان وآخر، بين حب الخير والرغبة في الشر .. بين التطلع والتسامي والتعالي وبين الدونية والانحطاط والانغماس فيما يضر النفس ويضر الغير.‏
مقولة مثل مقولة سيدنا عليّ، وكذلك المقولة التي تقول حُفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات"، إنما هي تبين للإنسان وسائل لتدريب نفسه أو ترويضها وتطويعها حتى يمكن أن تتحول من قوة تشد إلى أسفل إلى عامل يرفع الإنسان إلى أعلى .. وهذا ممكن .. أو هذا هو الهدف.
الهدف إذن هو إيقاظ معنى الحق في داخل الإنسان وتقوية جهازه الروحي .. وليس الهدف هو التعذيب أو الحرمان بدون أي غاية.‏
الكثيرون لا يدركون هذه التفرقة الدقيقة بين تدريب النفس وقهرها أو تعذيبها .. فنجد أن البعض حين يقرأ مثل هذه الأحاديث يطبقها بشكل مخالف لما تدعو إليه .. مثل الحديث الذي يقول "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات" فقد ينعزل البعض عن الدنيا .. ظنا منه أن هذه هي الاستقامة وأن هذا هو الطريق الصواب، ويترك الظالمين يعيثون في الأرض فسادا أو كما نرى اليوم بعض تهتم بقشور الدين وتترك الدول الكبرى تقرر لها مصيرها وترسم لها مستقبلها. وكأن الدين هو أداء المناسك فقط وعدم الاهتمام بخير الإنسان، وكأن الاهتمام بخير الإنسان هو من صميم الاهتمام بالدنيا المنصوص النهي عن الاهتمام بها.‏
هذه التطبيقات تعني ببساطة أنني استخدمت الحديث في غير موضعه ولم أفهم مدلوله ومراميه، فمعرفة القانون لا تعني بالضرورة أنني قادر على تطبيقه. القاضي لا يطبق القانون بشكل آلي ميكانيكي وإلا أصبح أداة للظلم بدلا من أن يكون قيّما على العدل. وإنما مهمة القاضي هي أن يدرس القضية التي أمامه جيدا ويرى ملابساتها ويبحث عن الحق أينما وجده ويحاول أن يكون مطبقا للعدل على قدر استطاعته وهنا يحاول أن يجد من المواد القانونية ما يؤيد موقفه الأخلاقي الذي يحكمه الضمير قبل أن تحكمه الوظيفة.‏
قضية الحياة الإنسانية إشكالية كبرى وليس قضية بسيطة أو مختزلة ويجب أن يتحكم فيها صدق الإنسان مع نفسه وإخلاصه الداخلي، حينئذ تصبح الأحاديث والكلمات المقدسة له مرشدة ولخطواته موجهة.