الخميس، 27 مايو 1999

إلى هؤلاء الذين يبحثون: آلان جويو

  • عرض وترجمة من الفرنسية: السيد حسن العسيلي والسيدة حرمه: باسنت أحمد موسى
من العالم الآخر تحدثنا سيدة انتقلت من عالمنا عن تجربتها بعد الموت. إن كلمات لويزا التي ينقلها كتاب "إلى هؤلاء الذين يبحثون" للكاتب آلان جويو Alain Guillo تجعلنا نتذكر دائما أن أي فعل نقوم به هنا في حياتنا الأرضية خيرا أو شرا سيكون له مردود روحي من طبيعته سيجده الإنسان بعد الموت في استقباله وفي صحبته خلال رحلته الطويلة في عالم الروح.‏
مع هذا الكتاب يعايش القارئ تجربة روحية واقعية تعرض لها الكاتب في ظروف معينة وهي تجربة "الكتابة التلقائية" التي تلقّى فيها رسالات من العالم الآخر.. كتابة-كما يقول كاتب المقدمة فرانسوا برين Francois Brune- "ليست عملا فلسفيا لمفكر وجودي ولكنها عمل لشخص جعل الوجود منه فيلسوفا .. وهي تساعد كلا منا على فهم أفضل لمعنى حياته، من أين جاء؟! وإلى أين سيذهب؟! وما معنى الاختبارات والعقبات التي قد يكون تعرض لها وسببت له الكثير من الآلام؟!".‏

ولد آلان جويو في مدينة هاي فونج بقيتنام عام 1942، وكان والده ضابطا بالجيش الفرنسي، أما والدته فكانت من أصول يابانية. خلال أحداث الحرب العالمية قتلت والدته على أثر انفجار قنبلة، وتبنته أسرة فيتنامية، وبعد انتهاء الحرب أرسلته هيئة الصليب الأحمر إلى فرنسا. وتمضي الأيام ليصبح جويو صحفيا، ويذهب إلى أفغانستان لتغطية أحداث الحرب الأهلية. وهناك يتم أسره ويوضع في المعتقل لمدة تسعة أشهر.‏
أثناء فترة حبسه ووسط معاناة شديدة تحدث له ظاهرة غريبة، يسمع أصواتا تتردد داخله، من بينها صوت يقول له باستمرار: "آلان هذا الاتصال لا يمكن أن يكون تخاطبا من عالمكم .. إنه من العالم الآخر"، وإذا به يميز صوت والدته لويز Louise، ومع هذا التمييز تجتاحه رغبة جامحة للكتابة، ويبدأ في تلقي رسائل من عالم الروح عن طريق والدته التي تخبره بأنها تنتمي لجماعة روحية لأن هذا هو الحال في عالم الروح، وبأنها في مخاطبتها له تعبر بلسان الجماعة الروحية التي تنتمي إليها. وتخبره أيضا بأن كل جماعة لها "أعلى" هو "الآب الروحي"، وتقول "إن لكل منا آبا هو المرشد الروحي لنا وهو يتناسب مع المستوى الروحي لكل منا، وسنفنى فيه يوما إن كنا أهلا له، ومعه نرتقي حتى نصل إلى الكمال .. إن هذا الآب له بدوره آب أكبر هو عضو لمجال روحي أرقى، والآب الأرقى ينتمي بدوره لدائرة أكبر وهكذا إلى ما لا نهاية. وتقرب إليه المعنى قائلة: إذا أخذنا مثلا الذرة وجزيئاتها لوجدنا أنها كيان حي مستقل بذاته، يجهل أنه بدوره جزء من كيان أكبر هو الخلية التي هي بدورها جزء من عضو من الأعضاء المكونة للجهاز البشري، وهكذا دواليك".‏
جاءت تجربة آلان بعد معاناة شديدة وعرف فيما بعد أن كل هذه المعاناة كانت نوعا من إعداده من جانب الأرواح التي تهتم به ليكون جهازا صالحا لتلقي هذه الرسائل، فتقول له والدته: "لقد عشت معك قرابة الخمسة وأربعين عاما كامنة في نفسك دون أي فاعلية أو تأثير عليك إلا في الأوقات التي كنت تفتح قلبك … وعندما استيقظ ضميرك، وبذلت طاقة في البحث عن الحقيقة في سجنك في كابول ونجحت في التخلص من هموم نفسك وأحزانها اندفعت بنا فجأة إلى آفاق المعرفة وتلقيت الكثير منها، لقد ربحنا سويا، معا تساءلنا، معا بحثنا عن المعرفة..لقد استفدنا كثيرا نحن المقربين إليك .. لقد حصلنا على إذن للتخاطب معك وأعطيتنا القدرة على بناء جسر متين بينك وبين المصدر الحقي لنا، ورغم أنني لبنة صغيرة في هذا الجسر إلا أنني الآن أُعطيت حق الإجابة عليك". ويقول آلان: "لم يكن الطريق سهلا بل ملئ بالشكوك وعدم التصديق، لقد كان علي أن أتعلم من جديد، وبدأت أتعلم بطريقتهم، أن أصمت وأن أستمع وذلك بعد أن تخلصت من معتقداتي السابقة. تعلمت كيف أفكر و كيف أتأمل، وأُعطيت القوة عند الحاجة لها، والسلام والمحبة عند الافتقار لهما. تعلمت كيف أفتح قلبي لكل ما هو غيب .. لكل ما لا أعرف، وأن أتخلص بالتدريج من القلق وعدم الصبر…. وخرجت من السجن بعد تسعة أشهر أكثر نضجا وأشد قوة مما دخلت.. خرجت منه بدون كراهية ولكن بمعرفة أوضح وأصفى لكل ما لم أكن أحب.. مصمما على محاربة العماء والجهل الإنساني".‏
الرسائل الأولى تصف فيها لويز لحظة انتقالها من الأرض، وتخليها عن غلافها الأرضي، وكيف أن ظاهرة الموت سهلة ومعقدة في آن واحد، عنيفة للبعض الذي يقاوم، ليستمر في معاناة نفسية طويلة، بينما من عرف عن حقيقة الموت، وهيأ نفسه يغادر في بساطة وهدوء وثقة.‏
تتحدث لويزا عن هذا العالم الذي يجد فيه الإنسان ما عمله على الأرض حاضرا "كما تجد أنت حقائبك في غرفتك بالفندق عند وصولك من السفر، وتأخذ الروح وقتا للتكيف مع ما حولها ..إنها لحظة من الممكن أن يحدث فيها كل شئ، الأحسن أو الأسوأ: في الغالب ما لم نكن نتوقعه. إن الأمر يستدعي التنقيب في حقائبك، فيما حملت معك في رحلتك، في معرفة الغث من الثمين، وحدك دون مساعدة من الآخرين، رغم وجودهم حولك على أهبة الاستعداد لمساندتك وشد أزرك، ولكنك لا تعي ذلك، أنا بالأحرى لم أكن أعرف ذلك. ولكن حذار فهناك أيضا الأرواح التي قاست وعانت من أخطائك وليس عندهم الاستعداد الفطري للمغفرة والتسامح، فالعالم الروحي والعالم المادي مترابطان بشدة. خلال هذه المرحلة الأولى يجب أن يواجه الإنسان نفسه ويحاسبها، دون مجاملة أو هروب.. إن تجاربك الشخصية وفلسفتك ومبادئك الدينية ومعنوياتك هي المرجعية التي تحكم بها على نفسك. إن الإنسان في مواجهته لنفسه بحق يكتشف ماهيته دون لبس أو نسيان، فاستيقاظ ضميره يعريه أمام نفسه… للخروج من هذا المأزق يجب أن تتوافق داخليا مع نفسك متعرفا على نواقصها، هكذا يتحدد مكانك في سلم الرقي الذي سوف تلتحق به، يمكنك بشكل ما الاعتماد جزئيا على مساعدة الأرواح الذين سبقوك، واستفادوا بصفة عامة من وجودك على الأرض ليرتقوا هم أيضا. وهكذا بعد كثير أو قليل من الوقت، من التعب أو الراحة سوف تتحرر نفسك لتلحق بالتيار الذي يناسبها لتبدأ حلقة جديدة ".‏
وتكشف لويز لآلان عن اللحظات الأولى لها بعد انتقالها من الأرض فتقول: " لقد ظللت هائمة على وجهي أياما طويلة بدت لي قرونا في عالم التطهير، فلم أكن مستعدة لهذا اليوم على الإطلاق، نعم كنت أعتقد في وجود الله بطريقتي معتنقة الديانة الكاثوليكية، لكن ارتباطي الروحي لم يكن يتعدى الشكليات … لقد كنت أرائي عند تواجدي في الكنيسة .. ومع أن الشعب من حولي كان متطبعا ومتخلقا بالمبادئ البوذية التي كان من الممكن أن تقربني لطريق الحكمة والتطور، إلا إنني للأسف كنت امرأة سطحية تأثرت بالوسط الذي نعيش فيه، لاأملك إلا النوايا الحسنة، ولا أؤذي الآخرين بقدر الإمكان وذلك بالقطع لا يكفي… لم أدرك ما يحدث لي، أو ما هو مراد مني، نعم كنت متأكدة أنني قد مت، ولكن ذلك قد حدث سريعا دون أن استوعبه .. فجأة وبقوة خرجت من غلافي الأرضي ووجدت نفسي كأنني ومضة نورانية قوية مصحوبة بفوران من الأفكار المشتتة .. وتدفقت أمامي صور الماضي متحررة من مخيلتي وكأنني أشاهد مجرى حياتي في لمحة عابرة … لقد قفزت قفزة كبيرة .. هذا هو التعبير المناسب لما حدث لي…".‏
وتوالي لويز في شرح المرحلة التي تلت قائلة: " وعلى ذلك لم أكن وحيدة تماما، فوالدتي كانت هناك، ووالدي أيضا وبعض أفراد عائلتي الذين كنت أعتقد أن هناك عوالم تفصل بيني وبينهم، ومع ذلك كانوا جميعا هنا لمساعدتي بعد أن تخطيت مرحلة التطهير الأولى. كنت أشعر بوجودهم دون أن أفهم هذه الظاهرة العجيبة التي أستطيع أن أشعر دون أن أرى، دون أن أسمع، دون أن أفهم. لقد وصلني من خلالهم موجات من المحبة والبهجة…إن تيار المحبة الذي وصلني من خلالهم كان له الفضل وحده في تسكيني، انتشلتني إمداداته المتدفقة من بحر الضياع". وتعود لويز تشرح لآلان أن الإنسان على الأرض يجب أن يدرك أنه ليس بعيدا عن اهتمام عالم الروح به فتقول: "تذكر هذه الحقيقة الأساسية" إن الكائن الإنساني في كرته على الأرض لا يُترك وحده، فالأعلى دائما في صحبته، فالحياة بجملتها في العالمين ليست إلا مظاهرة للرقي الروحي. إن كيان الروح الأعلى الناشئ من تجمع وتآلف وتناغم أفراده يختلف باختلاف المستوى الروحي لهم والهدف المنشود بهم".‏
بعد أن عرّفت لويز عن تجربتها الشخصية ومعارفها أخذ منها الآب زمام المبادرة متحدثا عن "الإنسان" وعن وجوده في العالمين، وكيف أن العالم الآخر مرتبط ارتباطا وثيقا مع عالم المادة، بل هو انعكاس له، وأن المحرك الرئيسي لرقي الإنسان ورجوعه إلى الله إنما هو التآخي بين الإنسان وأخيه الإنسان، بعلاقات المحبة ،ويقول الآب إن الطريق إلى الله ملئ بالأحزان والآلام الداخلية ولكن الله لا يطلب منا أبدا المستحيل، "بقدر تقدم الإنسان واستقامته وتحمله المسئولية واتزانه تتحرر النفس وتلطف وتعرج، وفي القمة تفنى ولا يصبح لها وجود .. عندها تتخلى الروح عن الجهاز الوسيط وترتقي في الروح الأعظم.‏
ويقول الآب: نحن نعرف أنه ليس هناك أسوأ من الإنسان الأصم الذي لا يريد أن يسمع. إن التأثيرات العلوية لطيفة، والإنسان الخامل بأهوائه ومخاوفه وبتأثيرات المستويات الروحية الدنيا عليه، لا يمكنه أن يدرك اللطيف. إن الأمر عندها يستلزم "القدرة" أي تدخل الإرادة العليا لتغييره ولكن حتى يتغير الإنسان فإن الأمر يستدعي هدم تكوينه الداخلي وإعادة بنائه من جديد وذلك بحمله كلية على التساؤل الداخلي، فالتغيير تقع مسئوليته على عاتقه، إنه تخطيط طويل المدى لا يقدر عليه الكثيرون. كما أنه من غير المجدي زراعة الأرض البور، فنحن ننتظر حتى تتهيأ الظروف التي تمهد الأرض… وهو ما يعني مرارة التجربة والاختبار للكثيرين، تلك التجربة التي يخرج منها الإنسان قويا أو منهارا.. أنتم إذن من يتحمل النتائج، إما بالتهرب أو بالكسب حسب قوتكم الداخلية. عليكم تقع مسئولية الحركة ونحن نمد يد العون لمن وصل لمرحلة الضياع إذا طلب من ذلك. ولكن اعلموا أن نجدتنا تخضع أيضا للنظام الروحي فكل شئ يحدث داخل الإنسان وليس خارجه. قواعدنا إذن لا تتغير: نحن نقوي ما هو خير وطيب فيكم، حتى اسوأ الناس يملك بعض الجوانب الحسنة،هي مسألة تناسب بين قوى الخير والشر، فإذا غطت السلبيات على الإيجابيات، عندها لا نملك عمل الشئ الكثير….نحن إذن شركاء في البحث عن تحرير الروح، وهذه الحرية تكتسب، من يتبع طريقنا يجب عليه اجتياز الامتحانات، وتسلق العوائق، وارتقاء سلم المعرفة خطوة خطوة، فالأمر ليس سهلا ..إنكم عندما تعانون نعلم أنكم تزدادون قوة، وعندما تصلون إلى حدود قدراتكم نمد لكم يد العون، فمن يحصل بدون تعب يضعف، من الأولى أن تعانوا في بناء عقيدتكم من أن تؤمنوا إيمانا أعمى.".‏
إن الجهاز البشري السليم لا يخشى من أعتى الفيروسات، كذلك المجتمع السوي يتغلب على شياطينه، فإذا لم يتمكن من ذلك فهو مريض، ويجب أن يتغير أو يختفي، ذلك هو قانون التطور والذي يطبق على الجيمع بدون استثناء..إن حفظ الحياة لجسد مريض محكوم عليه بالموت بطريقة صناعية إنما هو قسوة وليست رحمة…ها أنتم تملكون أدوات الإجابة على تساؤلاتكم .. الإنسان المتواجد في عالم المادة يملك التأثير والتغيير خلال حياته الأرضية القصيرة أكثر من تأثير الروح الأعظم، فليعالج إذن مشاكله، أما الروح الأعظم فهو سيد الوقت والزمن، والمنظور منه يختلف باختلاف زاوية الرؤية، وإرادته صمدية تظهر على مر الزمان، والتناغم بين إنسان المادة والروح الأعظم يُعرّف بأنه "توافق عميق بين الماضي والحاضر والمستقبل، وحركة سير المعرفة الكلية وهذا في متناول يدكم إذا أردتم ذلك.‏
ويشير الآب إلى توافق المعرفة الروحية مع ما جاء في الأديان فيقول: "إن كل الديانات الكبرى المعروفة تنهل قوتها من الحكمة التي أوحيت من الملأ الأعلى لتغير طريق البشرية، وبما أن المعني في النهاية هو الإنسان، فإن أسلوب تطبيق هذه التعاليم من جانبه هو الذي يجدد اتجاهه من أعلى إلى أسفل"و ويوضح الآب إلى أنه على الرغم من أن "الحكمة الموجودة في جميع الأديان توحد الإنسان في اتجاه الحياة المعنية" إلا أن "التعصب للطقوس والعقائد المزيفة" خلق الكراهية والبغضاء لأن "العقيدة السطحية المحدودة النظر والغير مفهومة تكون سبب مشاكل كبيرة في طريق الجنس البشري"، وأكبر هذه المشاكل هو أن الإنسان "يسير ضد تيار الحكمة والوحي". ويقول الآب إن الإنسان سيدرك يوما ما أن الأديان جميعا مع اختلاف أشكالها ومناسكها إنما تخدم نفس الهدف اللانهائي ألا وهو الفناء في الله. ويبشر قائلا: سيأتي اليوم الذي يدرك فيه الهنود، المسلمون، اليهود، النصارى، وكذلك البوذيون والروحيون، حتى الكفار الملحدون، سيجد الجميع في إخوانهم من الجنس البشري نفس الشرارة الإلهية الموجودة فيهم، شرارة الحياة التي تُقرّب بعيدا عن اختلاف اللغات والأجناس والعادات والتقاليد. في هذا اليوم لن تجد الديانات ، والتي ما كانت يوما إلا وسيلة للهداية والمعرفة، سببا للوجود، وذلك لأنها عندئذ تكون قد أكملت مهمتها في هداية الإنسان إلى الله، إلى التيار الأعظم، إلى التوحد بين الجنس البشري. عندها يسترد الله أمانته. هذه ليست أمنية ولكنها نهاية معراج الترقي. إنه ليس نظاما خياليا، فالبعض منكم قد أمكنه ذلك بالفعل.