الأحد، 24 سبتمبر 2000

أطباء الروح - المدارس السيكولوجية لأعظم المعلمين الروحانيين فى العالم

  • بقلم د. روبرت ماى
إنه كتاب للذين يبحثون عن إدراك الحقيقة في قلوبهم، ويرغبون في تحرير النفس من الذات البشرية (الأنا)... هل تشهد الإنسانية ظهور إنسان روحاني متنور – إنسان الحق – ليوحدنا جميعا في الله؟
ينتمي د. ماي إلى مدرسة كارل جوستاف يونج في التحليل النفسي، وهو أستاذ علم النفس الحديث، وله كتب عديدة في هذا المجال من بينها كتاب إعادة اكتشاف الوعي الكوني وكتاب مذكرات إنسان يبحث عن الله وغيرهما..
بدأ د. ماي رحلته الروحية عام 1961م عندما كان يبلغ من العمر العشرين، ثم استقال عام 1971م من وظيفته الجامعية كأستاذ لعلم النفس ليتفرغ تماما لهذه الرحلة، وليضع نفسه بين أيدي عدد من المعلمين الروحانيين من عدة ثقافات روحية وديانات مختلفة مثل اليهودية والمسيحية والبوذية والهندوسية والحكمة الصينية والديانة الإسلامية وغيرها.
يعد كتاب أطباء الروح نتاج هذه الرحلة التي استغرقت عشر سنوات ما بين الدراسة النظرية والممارسة الفعلية وربط ذلك بنظريات علم النفس الحديث ليوضح لنا أنه وجد في الأديان وفي تعاليم الحكماء والرسل والأنبياء مدارس سيكولوجية تضاهي المدارس الحديثة في علم النفس، فكما يقول د. ماي "لقد عرف هؤلاء الرسل قانون حياة الإنسان وقانون الحياة بأسرها."

قامت دار نشر "كروس روود" بنشر هذا الكتاب لأول مرة عام 1982م في نيويورك، ثم قامت بعد ذلك دار نشر "المنت" في كل من الولايات المتحدة وإنجلترا بنشر نسخة منقحة عام 1991م. وهو كتاب لمن يبحثون عن إدراك الحقيقة في قلوبهم ويرغبون في تحرير النفس من سيطرة الذات البشرية "الأنا".. ويكشف لنا الرسالة الروحية لجميع الأديان...
يطرح الكتاب عدة تساؤلات هامة وحيوية في حياتنا المعاصرة منها: ما الذي حدث لنظرة الإنسان الغربي عن معنى وجوده في المائة سنة الأخيرة من هذا العصر؟ ما هو مفهوم "النفس" عند علماء النفس المحدثين. لماذا ينكر علم النفس الوجود الروحي للإنسان؟ كيف عجز علم النفس الحديث عن إيجاد علاج للأمراض العصبية والنفسية التي تواجه الإنسان المعاصر؟ كيف أصبح العالم الآن تحت وطأة العلوم المادية، عبدا "لإله العلم"؟ كيف أغشت هذه العلوم المادية أبصارنا فلم نعد نرى الحقيقة؟ أي نوع من الوثنية التي تواجه العالم المعاصر؟ وهل نحن على وعي كامل بها؟ كيف يمكن مواجهتها؟
في محاولة للإجابة على هذه التساؤلات يؤكد لنا د. ماي أن الوثنية الجديدة لعالمنا المعاصر" لا تغشى فقط أبصارنا بل إنها تقتل الروح"، وأوضح في استعراض سريع لنظريات علم النفس الحديث منذ فرويد وحتى رانك عجز هذه العلوم عن كشف قانون حياة الإنسان ومساعدته لمعرفة معنى الحياة والبعد الروحي لوجوده على الأرض الذي يُمكنه من تحقيق ميلاد أو بعث روحاني جديد لنفسه..
تبدأ رحلة د. ماي بتأملات في معنى حياته منها: ما معنى أن يولد الإنسان من جديد؟ ما المقصود بالميلاد الروحي للإنسان؟ ما هي الإفاقة الروحية؟ ما معنى الوعي الكوني الشامل؟ كيف يحقق الإنسان هذا الميلاد الروحي أو البعث في حياته الأرضية؟
أن هذا التأمل في الواقع هو المحور الذي يقوم عليه الكتاب، وهو أيضا الحافز الذي دفع د. ماي لبدء رحلته الروحية والتي بفضلها استطاع أن يجد إجابات تشبع رغبته في المعرفة، ويصل من خلالها إلى الحقيقة داخل نفسه، ويحقق بذلك ميلادا روحانيا جديدا من خلال الرحلة التي قام بها مع الحكماء والرسل والأنبياء، فخصص لكل واحد منهم فصلا في الكتاب استعرض فيه حياتهم وتعاليمهم وكذلك تفاعله الشخصي مع هذه التعاليم.
يوضح لنا د. ماي من خلال هذه التجربة الدينية أن كل رسول ونبي وحكيم جاء برسالة خاصة وفريدة من نوعها، إلا أن كل هذه الرسالات وكل هذه الأديان تمثل في واقع الأمر رسالة واحدة فهي تدعو إلى دين واحد وتدعو إلى عبادة إله واحد وتبحث عن حقيقة واحدة تكمن في أعماق قلب الإنسان.. أي إنسان باختلاف لونه ودينه وجنسيته ولغته وعاداته وتقاليده. كيف توصل كل هؤلاء المعلمين إلى سر الحياة في الإنسان؟ كيف تحدثوا عن حكمة واحدة؟ كيف كانت رسالتهم جميعا دعوة إلى التحرر من سيطرة المادة وأن تكون العبودية لله وحده؟
يستعرض الفصل الأول من الكتاب حياة وتعاليم الحكيم الصيني "لوتسو"، وتتلخص تعاليمه المعروفة باسم "الطاوية" في حكمة توجه بها إلى تلميذه كونفشيوس فيقول:
"عندما يحين أجل الإنسان لترك هذه الأرض فإنه يُرفع إلى السماء بعمله فإذا لم يحقق الإنسان لنفسه هذا الهدف فإنه يبقي تائها على الأرض.. ولكي تحقق هدفك السامي الخالد في الحياة فعليك يا سيدي أن تتخلى عن الكثير من الأماني والأحلام المادية وأن تخلع جلبابك المادي المتمثل في شخصيتك وسلوكك الاجتماعي وأطماعك نحو الثراء والبذخ.. فإن كل ذلك لن يجديك نفعا.. هذه كل ما أستطيع أن أقدمه إليك من نصح إذا كنت تبحث عن الحقيقة... "
وقد سجل "لوتسو" هذه التعاليم في كتاب "تاوتشونج" (الطريق إلى الحياة الحقية) وأصبح الكتاب المقدس للديانة الصينية أو ما أسماه "لوتسو" بـ "جوهر الوجود" فما هو الطاو؟ إنه بالنسبة "للوتسو" يعنى "الله" ويقول عنه: "إنه الخالد، مصدر وجودنا، الذي يمدنا بعلمه وحكمته دون كلمات.. إنه الخير الذي يسير في حياتنا كسريان الماء، إنه الحق اللانهائي، السلام الكامل، الوهاب، الأول والآخر.. أصل وجودنا... " فالحكيم الصيني يرجع أصل وجودنا إلى الله وهو موجود قبل الوجود واسمه مطبوع على أرواحنا قبل تواجدنا على الأرض.. ولكن كيف يمكن أن يشعر الإنسان بالطاو (الله)؟ يقول "لوتسو": "لكي تفهم الطاو (الله) يجب أن تجعله في أعماق قلبك.. وأن تجعله يتحدث منك "وأن يكون لك مكانا مقدسا بداخلك تتوجه به إليه" و "ألا تبرح هذا المكان مطلقا"
يعلق د. ماي على هذه الحكمة فيقول "أن يكون لك هدف سامي في الحياة.. أن تتجه إلى قلبك باحثا عن الله.. أن تناجي هذا الإله فيكون هو هدفك وطريقك الحقى، وليس الطريق الذي يرسمه لك آباؤك ومعلموك بالمدرسة أو الذي يفرضه عليك مجتمعك وثقافتك". ويضيف د. ماي "إنه النداء الحق الذي ينبع من أعماق قلبك بداخلك" عندئذ ستعرف ماذا يقصد "لوتسو" "بالمكان المقدس".. وستعرف ماذا يقصد عندما قال: " إن الطاو (الله) هو الوجود بأسره الذي يفيض في الكون والطبيعة.. هذا الوجود لا يمكن حده أو رسمه."
أو كما قال:
" إن الطاو (الله) الذي يمكن أن نعبر عنه ونحده برسم لا يمكن أن يكون خالدا" " إن الاسم الذي يمكن تعريفه لا يكون أحدا صمدا."
يستعرض الفصل الثاني قصة وتعاليم سيدنا موسى (عليه السلام) محرر العبيد.. إنها ليست فقط قصة تحرير الإنسان من عبودية الفرعون الظالم ولكنها أيضا قصة تحرير النفس من سجنها بحثا عن الحرية أو كما يقول د. ماي: "إن سيطرة النفس البشرية الطاغية علينا من داخل أنفسنا تجعلنا نفقد معنى وجودنا، بل إنها السبب الرئيسي وراء العديد من الأمراض العصبية والنفسية المستعصية التي تسود عصرنا" ويقول كذلك: "إن السلطة الطاغية عندما تسود ليس فقط المجتمع بل الأسرة الصغيرة فإننا نفقد معنى الحياة" ويضرب لنا مثلا على ذلك فيوضح أن الأطفال الذين لا يستمتعون بالحب غير المشروط أو الحب من أجل الحب فإنهم يقعون ضحايا لآبائهم بضياع فطرتهم ومعنى وجودهم والسر الإلهي فيهم ونحن بذلك نسلب من هؤلاء الأطفال حريتهم في اختيار طريقهم في الحياة وبذلك "يفقدون حقهم في الحياة كأرواح تسعى إلى المعرفة"
فما هي العبودية؟ هي أن "تفقد معنى وجودك.. أن تصبح عبدا لطغيان السلطة الخارجية أو السلطة الداخلية لذاتك البشرية" وسيدنا موسى هو رمز للإنسان الذي رفض هذه العبودية داخله وخارجه فهو الإنسان الحكيم والمعلم الذي ينير الطريق في قلوبنا ليرشدنا إلى الحرية.. إنه النور الرباني الموجود داخل كل إنسان وهو النور الذي ظهر له كما جاء في التوراة:
"وظهر ملك الرب كقبس من بين النار المشتعلة في الشجيرة ولم تنطفئ فقال موسى: سأنظر الآن لعلي آتي منها بقبس أو أجد على النار هدى فلما أتاها نداه الرب يا موسى لا تذهب إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس."
يقول د. ماي هذا النور الداخلي هو يد الله الذي "يعلم بمعاناتنا ويشعر بغربتنا وإذا طلبنا "فإنه سيأخذ بأيدينا إلى أرض الميعاد" وهي ملكوت الحق في قلوبنا.. وهكذا يقول الرب لموسى: " أنا هو أنا.. أنا الله."
يتناول الفصل الثالث في الكتاب قصة سيدنا عيسى عليه السلام.. يظهر السيد المسيح بصورة غير متوقعة ليضيء الظلام وهو بذلك يرمز للنفس الحقية أو النور الداخلي الذي يولد في ظروف حالكة الظلام وفي أدنى بيئة وميلاده من "عذراء" يشير إلى أن النور الداخلي الذي يولد عندما تتطهر النفس البشرية ،وهو ميلاد الحقيقة داخل الإنسان ولا علاقة له بالظروف الخارجية. ويوضح د. ماي الرموز التي صاحبت قصة سيدنا عيسى عليه السلام فهو اسم لمعنى النور الإلهي في قلوبنا "إن ملكوت الله في قلوبكم" وظهور الحمامة أثناء تعميده بالماء هو رمز للقوى غير المنظورة التي من وراء تلك الطقوس الدينية في شعائر كل الأديان فيقول سيدنا عيسى "روح الرب نازل على لأنه مسحني" ويكون ذلك هو الكشف الروحي للإنسان فبعد خروجه من الماء (مرحلة التطهير) تنفتح السماوات فرأى "روح الله يهبط وكأنه الحمامة وينزل عليه" عندئذ أدرك سيدنا عيسى أن ملكوت الله في نفسه وأخذ يعلم الناس كيف يشعرون هم أيضا في نفوسهم بهذا الملكوت فيقول: " أنا فيكم وأنتم فيَ".. ذلك هو الوعي الذي جاء به السيد المسيح أن "تولد من جديد" وأن تسعى إلى الكمال وتشعر بالانسجام والتوحيد مع الأب (الله) فيقول " أنا والأب واحد" وكذلك "إني في الأب وأن الأب فيّ" هذا هو الشعور بوحدة الإنسان بالكون ورب الكون..
وتمثل قصة سيدنا عيسى (عليه السلام) كيف أن المسيح هو البلسم الشافي للروح المتألمة فيقول: "من آمن بي يحيا وإن مات" ويقول: " سأجعل منكم نور العالم" فهو النور الدفين في أعماق اللاشعور.. وبذلك تصبح قصة صلبه رمزا لموت الذات البشرية، أما الذي قام ورفع وبعث فهو المسيح نور الله الذي لا يخبو أبدا فيقول:
"من يبحث عن نفسه سيخسرها ومن يفقد نفسه في سبيلي سيجدها "
وكذلك يقول:
"من تمسك بنفسه الأرضية التي هي وهم يخسر نفسه السماوية التي هي الحقيقة"
ويقول كذلك،
"إن ملكوت الله كحبة المسترد يزرعها الإنسان في نسوته"
وبذلك تتلخص تعاليم السيد المسيح في أنه لا بد للذات البشرية أن "تموت" حتى تولد النفس الحقية، وهذا كما يوضح لنا د. ماي ليس موتا فيزيقيا ولكنه تحويل روحاني".. أن يحول الإنسان الظلام داخله إلى نور.. أن يملك زمام نفسه فيصبح سيدا وليس مسودا ليرى نور الله دائما وأبدا كما يقول سيدنا عيسى (عليه السلام) "ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" وبذلك نصبح أرواحا مباركة ولكن علينا اليقظة والأفاقة الروحية دائما أو كما قال سيدنا عيسى (عليه السلام): "كما أقول لكم أقول للجميع راقبوا أنفسكم.. تيقظوا!"
يتناول الفصل الرابع قصة حياة الأمير الهندي سيد هانا جوتاما".. ذلك الأمير الذي ولد قبل السيد المسيح بحوالي نصف قرن أو ما يزيد، ومع ذلك فإن قصة حياته مليئة برموز تكاد تكون مطابقة لحياة السيد المسيح فكيف كان ذلك؟ كيف استطاع هذا الأمير الثري أن يترك حياة القصور والبذخ ليجلس تحت شجرة متأملاً في نفسه وباحثاً عن الحقيقة؟ كيف تعرف على طريق الرسل والأنبياء باتباع منهجهم في مراقبة النفس وتطهيرها ليظهر نور المعرفة فيه؟ كيف ترقى في معراج الروح إلى أن وصل إلى مرحلة "البودا" إي الإنسان الروحاني المتنور"؟ لقد رسم جوتاما الطريق إلى النور فيما أسماه بالأمر الوسط، وهو أمرٌ بين حياة الرفاهية والبذخ وبين حياة الضنك والفقر.. هو أمر وسط يمتلك فيه الإنسان زمام نفسه الأرضية ليسمح بنفسه السماوية بالظهور والتجلي.. وتتلخص تعاليم السيد بودا في تحرير النفس من عجلة الحياة الأرضية، والتي تبدأ بالمعاناة بسبب الجهل وتنتهي بالموت بسبب المعيشة في الوهم فإذا استطعنا أن نقهر الجهل المتمثل في سيطرة الذات البشرية وأن تصل إلى مرحلة النرفانا (النور الداخلي أو النفس الحقية) فأننا بذلك نحقق الخلود يقول السيد بودا :
"إذا رغبت أن تصل إلى بودا (النفس الحقية - نور الله في الإنسان) فعليك أن تتجه إلى فطرتك الداخلية لأن بودا هو هذه الفطرة.. أما إذا بحثت عنه خارجك فلن تجده أبدا."
وهذا ما قاله سيدنا عيسى (عليه السلام) "ملكوت الله في قلوبكم"
يقول د. ماي: " إن تعاليم السيد بودا في إطار علم النفس الحديث هي تحويل وعي الإنسان من مرحلة السمسارا (الجهل بقانون الحياة) وهي المرحلة التي يرى فيها الإنسان العالم من منظار "الأنا" أو الذات البشرية إلى مرحلة النرفانا (النور) وهي أن يرى الإنسان العالم بالنور الإلهي الداخلي.. أي ظهور النفس الحقية".
ولكن كيف يفسر الإنسان الفرق بين الذات البشرية وبين النفس الحقية؟ يقول د. ماي: "أن الذات البشرية تشعر دائما بالانفصال وهي مرتبطة بالجسد الفاني وتخاف الموت ولذلك تسعى في تجارب الكراهية والحسد لإشباع رغباتها من اللذات المادية الزائلة.. أما النفس الحقية فهي مرتبطة دائما بالله وتسعى إلى ما وراء الحياة وإلى ما وراء الموت وهي النفس الخالدة.. والنفس الحقية كانت دائما موجودة قبل الوجود.. "
فيقول السيد بودا: "الحق خالد دائما" و "الموت لا يصل للإنسان الذي يرتبط بالحقيقة." أو كما قال سيدنا عيسى (عليه السلام) "سيكون انعتاقك بالحرية".. فالله حق.. والحق هو اسم الله الأعظم..
في الفصل الخامس من الكتاب يلخص لنا د. ماي تعاليم الديانة الهندوسية من خلال ملحمة التصوف التي كتبها الشاعر المغمور فاسيا والمعروفة باسم باجاتا جيتا" أي "أغنية الرب" يقول د. ماي : "إن هذه الملحمة تعكس تأمل الإنسان لمعنى وجوده في الحياة "
فمن هو الإنسان؟ من أنا؟ من أين أنا؟ إلى أين أنا؟ لماذا أنا؟ أو كما يضعها د. ماي في هذا الإطار: "هل أنا هذا الإنسان الذي يقوم بدور اجتماعي معين؟ هل أنا هذا الجسد البشري؟ هل أنا مجموعة التجارب الإنسانية التي أمر بها؟ هل أنا هذا العقل الذي يبحث ويتساءل؟ هل أنا مجرد هذه الأنا " … من أنا؟
إن ملحمة "الجيتا" (أغنية الرب) تلقي ضوءا رائعا حول هذه التأملات فهي تدور حول المحارب الشجاع أرجونا (الذات البشرية) والمعلم الروحي كريشنا (النفس الحقية). فأرجونا يدرك وسط المعارك الحربية الجارية أنه لا جدوى من هذه الحروب ويعجز عقله البشري عن إيجاد معنى لحياته فيضع نفسه في يد معلم روحاني يساعده في بحثه عن الحقيقة فيقول له كريشنا:
"إن الذات البشرية ما هي إلا جسر عندما يعبره الإنسان يبصر إذا كان لا يرى ويشفى إذا كان مريضا ويسعد إذا كان شقيا.. عندما يعبر الإنسان هذا الجسر يتحول الليل إلى نهار لأن السماء دائما مشرقة."
تدور تعاليم كريشنا الروحية حول النفس الحقية أو ما أسماه بـ "اتمان" أي "الله" فيقول:
"لم يكن هناك زمان لم يكن فيه الإتمان (الله) موجودا أو لم تكن أنت موجودا.. ولن يكون هناك زمان يتوقف فيه الاتمان (الله) عن الوجود أو تتوقف أنت فيه عن الوجود."
أو كما قال سيدنا عيسى (عليه السلام) "كنت موجودا قبل إبراهيم" أي أن الله الحق موجود قبل أي وجود..
يوضح لنا د. ماي من خلال تجربته الدينية "أن النفس الحقية هي روح الله في داخلنا والتي تقطن أعماق قلوبنا - هي ما أسماه كريشتا "اتمان" وما أسماه "لوتسو" "الطاو" وما أسماه جوتانا "بودا" وما أسماه عيسى "المسيح" وما أسماه محمد : "رسول الله.. "
وتؤكد مدرسة يونج ورانك الحديثة في علم النفس وجود نفس عليا داخل الإنسان هي أبعد وأعمق من مجرد الذات البشرية أو حتى الوعي الكوني الشامل أو كما يقول د. ماي: "هي أبعد من هذا وذاك فهي الأبد والأذل وهي ما قبل وما بعد الوجود." ويدافع عن رأيه ذلك قائلا: " إن هؤلاء الذين يرفضون هذه النفس العليا أو الوجود الروحي للإنسان لأنه شيء غير علمي ولا يمكن قياسه بالأدوات العلمية أو حتى تعريفه منطقيا فإنني أقول لهم إن هذه النفس ليست شيئا ماديا يمكن معرفته بالطريقة العلمية التي يمكننا أن نعرف بها كوكب جوبيتر مثلا أو معرفة الالكترون والبريتون. فهي ليست شيئا محسوسا ولا إدراكا حسيا ولا مفهوما عقلانيا.." هي كما قال كريشنا :" لا يمكن مشاهدتها بالحواس أو فهمها بالعقل البشري المحدود"
ويقول كريشنا كذلك:
"هناك من نظر إلى النفس الحقية (الاتمان) وتفهموها وعرفوا روعتها وهناك من تحدث عنها فقط كإعجاز فوق فهمهم وهناك آخرون عرفوا إعجازها بما سمعوا عنها وهناك أيضا من تحدث عنها ولم يفقه حرفا مما نطق."
وهذا يطابق تماما ما قاله السيد المسيح: "لقد عرف هؤلاء ملكوت السماء لأن لهم عيونا يبصرون بها". أما من لا يستطيع أن يفهم هذه النفس الحقية فإن "قلوبهم غلف وآذانهم صماء وعيونهم لا تبصر."
هنا يتساءل د. ماي مرة ثانية "ما الذي أصاب الإنسان؟ ما الذي أصاب الإنسانية جمعاء؟ إن الإنسانية تدانت من "العصر الذهبي" للوعي الروحي إلى "العصر الآلي" كما أشار حكماء الهند.. فما هو مصير الإنسان في العصر الحديث؟" يؤكد د. ماي "أن كل الديانات التي قمت بدراستها وممارستها سواء كانت الديانة اليهودية أو البوذية أو المسيحية أو الهندوسية أو الصينية أو الإسلامية تشير إلى عودة العصر الذهبي للوعي الروحي أو الكشف الروحي.. عودة "المجيء الثاني" أو المخلص أو البعث الروحي".. وهو يشير بذلك الى عودة إنسان روحاني متنور مبارك.. ولي من أولياء الله الصالحين يعيد للإنسانية بركاتها.
يستعرض الفصل الأخير من الكتاب قصة سيدنا محمد (عليه الصلاة والسلام) والذي تتلخص رسالته في شهادة " أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله".. يوضح د. ماي أن "الإسلام دين الاستسلام لإرادة واحد وخالق واحد وأن محمدا مثله مثل سيدنا إبراهيم وموسى وعيسى رسول الله أرسله الله في مهمة نبوية للعرب الوثنيين وهي كذلك رسالة لكل الوثنيين في العالم."
لقد عاش سيدنا محمد في عصر عرف بعصر الجاهلية.." أنه عصر لا يختلف عن عصرنا الحالي فسمات العصرين متشابهة بل تكاد تكون متطابقة فكلاهما عصر العبودية وغياب القيم الأخلاقية والاجتماعية حيث ينتشر الطمع والجشع.. وكلاهما عصر أن تقتل قبل أن تُقتل وتسرق قبل أن تُسرق..."
تمثلت الحياة الدينية في عصر سيدنا محمد (عليه الصلاة والسلام) بتعدد الأرباب والآلهة فاحتفظ العرب بـ 360 إله على شكل أحجار داخل الكعبة وكان من بين هذه الأوثان، وثن أطلقوا عليه اسم "الله" ماذا يعني هذا؟ يقول د. ماي : "إن هذه الحياة تعكس صور العقد النفسية التي كانت موجودة في نفوس البشر.. عندما حول الإنسان هذه الأمراض والعقد النفسية والرغبات المادية من حب التملك والسيطرة إلى تماثيل داخل نفوسهم وإلى تماثيل فعليه في الحياة.. فوصل الإنسان بذلك إلى مرحلة الجنون المتمثلة أعراضه في فيضانات الدماء والاغتصاب و وأد الأطفال الرضع.. أنه مرض أصاب المجتمع بأسره.. إلا أنه في وسط هذا الظلام الحالك كان يوجد الله.. النور الدفين داخل الإنسان والذي غفل عن البحث عنه وسط هذا الظلام الدامس الذي كانت تعيش فيه الذات البشرية.. "
استطاع سيدنا محمد (عليه السلام) أن يبحث عن هذا النور وتتبعه إلى مصدره الأصلي في داخل قلبه أولا فعرف بذلك معنى التوحيد.. معنى الإيمان بإله واحد وسط انتشار الوثنية وتعدد الإله وأعلن رسالته واستطاع بذلك أن يغير مجرى سير الإنسانية بأكملها.. فما هو التوحيد؟ ما هي وحدة الكون أو وحدة الوجود الذي تحدث عنها سيدنا محمد (عليه الصلاة والسلام) ؟ يقول د. ماي: "إن وحدة الوجود لا توجد في الشخصية التي يتمسك بها الإنسان ولا يمكن الوصول إليها عن طريق الدور الاجتماعي الذي يقوم به في الحياة " ويضيف قائلا:
" إنك لن تجد معنى لوحدة الوجود حتى في علوم النفس أو عند فرويد أو المحللين النفسانيين أو حتى في مدرسة يونج.. إنك قد تجد صورة لهذه الوحدة (تماما كما كان هناك وثن عند العرب اسمه الله) قد تجد وحدة الوجود في حلم أو رؤيا داخلية.. أو في رمز ديني... إلا أن واقع وحدة الوجود لن يكون في أي من هذه الأشياء.. لأن هذا الواقع موجود في بحثك عن الروح. إنه المعنى وراء الحياة.. إنه المعنى الذي وراء كل اسم وكل رسم.. إنه عالم الروح.. إنه الطاو الذي لا يمكن تسميته. إنه الله الذي لا صورة له.. إنه السكينة.. إنه ما أطلق عليه الهندوس اللانهائي.. ليس هذا ولا ذاك.. إنه ما وراء الأشياء.. إنه السر العظيم.. إنه ما اكتشفه موسى فوق جبل سيناء بالوادي المقدس.. إنه ما توصل اليه بودا تحت شجرة التين.. أنه "الاتمان" الذي تعرف عليه كريشنا.. أنه ما شعر به عيسى أثناء تعميده في نهر الأردن وبظهور الحمامة. أنه الحقيقة الواحدة.. إنه الواقع الوحيد الأبدي الأزلي للحياة والذي قال عنه سيدنا محمد "الله" - الواحد الأحد".. والذي عرفه محمد في ليلة من ليالي شهر رمضان عندما نزل عليه الوحي سيدنا جبريل وأمره أن يقرأ في الرسالة الأولى:
"اقرأ باسم ربك الذي خلق.. خلق الإنسان من علق" (سورة العلق: 1 –2)
يعلق د. ماي على هذا الحدث الجلل فيقول: "لقد قام جبريل بدور الوسيط بين نفس محمد والوجود المقدس" ويضيف: "إن العالم مليء بالوساطة الروحية أو الكشف الروحي والمتصوفون والحكماء لا ينكرون هذه الظاهرة ويرون أنها تجربة اتصال بأرواح ملائكية.. إلا أننا في عالمنا المادي اليوم ننكر هذه الظاهرة ولا نتقبل هذا الاتصال" ويؤكد: " صدق أو لا تصدق فإن هناك متخصصين ومعلمين روحانيين خبراء بعالم الروح ومجالات عالم الروح. وقد كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وسيطا فطريا لعالم الحقيقة استطاع أن يستقبل من عالم الروح رسالة الله إلى الإنسانية فجاءه الوحي في الرسالة الثانية:
"ياأيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر." (المدثر: 1 – 5)
إن أي إنسان يسعى لإدراك الحقيقة عليه أن يعلن "الجهاد" أو "الحرب المقدسة" على كل الأوثان بداخله فقد قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم "أنه الجهاد الأعظم" إنه جهاد النفس وعلى الإنسان أن يستعين بقوى الله بداخله لتعينه على هذه الحرب وعندما يحطم هذه الأوثان ويحرر نفسه من سيطرة الذات البشرية فإنه يقيم بذلك بيت الله في قلبه (الكعبة بداخله) أو كما يقول د. ماي "إن أي إنسان ينبذ الوثنية ويعلن أنه لا إله إلا الله قد أصبح مسلما" وأن كل من يتخذ محمدا قدوة تستنير بهديه ونوره في هذه الحرب المقدسة قد أعلن أن محمدا رسول الله.. وبذلك يكون سيدنا إبراهيم أول من أسلم ويكون سيدنا محمد خاتما أى موثقا ومصدقا لما جاء من قبله.
"آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، ربنا لا تؤاخذنا بما نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. (سورة البقرة: 284-286)
يشاركنا د. ماي في خاتمة الكتاب رؤية روحية لمستقبل الإنسانية فقد رأى في المنام هرما على قمته عين بشرية تتصل بالحقيقة ويفسر لنا د. ماي هذه الرؤية على أنها:
"تعبر عن وجود إنسان ما في حالة إفاقة روحية يتصل بعالم الروح.. مثل هذا الإنسان يقيم صلة بالله وهو بذلك يولد من جديد.. إنسان متحرر من كل عبودية إلا لله وحده.. فيمتلئ بنور الله وروح الحق.. يقيم علاقة بالله يكون مقصوده فيها وجه الله.. ويمكن لهذا الإنسان الروحاني المتنور أن ينشر نوره ويشاركه من حوله هذه التجربة الروحية، بل يمكن لكل الناس في جميع أنحاء العالم أن يشاركوه أيضا مثل هذه التجربة... فهناك شعاع نور بين النفس الحقية لإنسان ما والنفس الحقية لإنسان آخر يمكن أن يتصل بعضهما ببعض لتضىء الطريق لهما في "ملكوت الله".. فالبعد المقدس أو الوجود الإلهي موجود في داخل قلوبنا وبيننا."
هل يمكن أن تتحقق هذه الرؤية؟ هل يمكن أن تشهد الإنسانية إنسان الله الذي يقيم علاقة بالله يكون مقصوده وجه الله فيحيى نفسه الحقية ويحيى نفوسنا الحقية معه؟ هل يمكن أن نتوحد جميعا على محبة الله؟ هل يمكن أن نكون عبادا صالحين لله؟
إن كتاب أطباء الروح الذي يستعرض تاريخ الرسل والأنبياء جميعا يؤكد أن مثل هذه النبوءة يمكن أن تحدث فعلا لتنقذ الإنسانية من الهاوية التي تنحدر إليه.