الثلاثاء، 18 يونيو 2013

الكلمة الإفتتاحية للسيد علي رافع لندوة مسئوليتنا في تحقيق السلام

 برعاية الجمعية المصرية للبحوث الروحية والثقافية بالتعاون مع المؤسسة الدولية للتصوف
الحضور الكريم
الأخوة والأخوات
  يسعد الجمعية المصرية للبحوث الروحية والثقافية ويشرفها أن تشارك المؤسسة الدولية للتصوف في تنظيم هذه الندوة. ونحن نرحب بجميع المتحدثين المتميزين والمشاركين فيها معنا.
 والهدف المحوري لهذه الندوة هو تقوية الإحساس بالمسئولية في تحقيق السلام في البشرية على مستوى حياة الفرد الداخلية وعلى مستوى عالمنا ككل.

 وفي بدء ندوتنا أحب أن أشارككم بعض الأفكار الخاصة بالموضوعات التي ستدور حولها وهي تعبر عن وجهة نظري بشأن تلك الموضوعات.
 
 أولاً: الطريق إلى السلام في الرسالات الروحية العالمية:
 
 هناك تاريخ طويل لسيطرة الكراهية بين البشر بسبب الاختلافات العرقية أو الدينية على الرغم من أن روحانيات جميع الأديان تدعو إلى التسامح بين البشر وبالتالي لنشر السلام. وهذه ليست فكرة جديدة، فكلمة "إسلام" بالعربية مشتقة من الجذر (س.ل.م) وهو نفس الجذر لكلمة "سلام". كما أن الإسلام بمعناه الواسع يضم كل الديانات السماوية والطبيعية التي جاءت إلى الأرض وهو ما نفهمه من الآية الكريمة:
 
 {فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد"}(آل عمران 3: 20)
 
 إن كلمة "سلام" تُذْكَرُ في القرآن الكريم في 50 آية، وفي بعض الآيات تشير إلى مقام روحي رفيع، حتى أن الجنة تسمى "درا السلام":
 
 {لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (الأنعام 6: 127)
 
 فإذا ما كان الإنسان مسلماً بالمعنى الأوسع للكلمة كما شرحنا من قبل فإنه سيكون في مقام روحي عالٍ متمتعاً بسلام داخلي فيقبل الآخرين ويكون في سلام معهم. لقد وصل كثيرون من أصحاب الرؤى العميقة لتلك الفكرة ومنهم توماس مور الذي كتب عن المدينة الفاضلة قبل خمسمائة عام فجعل من التسامح واحدة من الفضائل الأساسية، ليس فقط للحفاظ على السلام المدني وإنما لسلامة العقيدة نفسها.
 
 ثانياً: السلام تعبير واقعي عن التناغم بين كل المخلوقات:
 
 لقد خلق الله الطبيعة والكائناتِ جميعاً والأحداثَ وفقاً لمشيئته. وحين ينظر بعض الناس إلى ما يحدث على الأرض من كوارث طبيعية تُسَبِّبُ الكثيرَ من الخسائر والأضرار مثل الزلازل والفيضانات والبراكين يتساءلون لماذا يفعل الله ذلك. وهذا مثلٌ من الأمثلة القليلة، وهناك غيرها مثلما يحدث حين يرى البعضُ أشخاصاً قد ولدوا معوقين بصورة أو بأخرى فيتساءلون أيضاً لماذا خلقهم الله على هذه الصورة.
 
 إن علينا أن نفكر في هذه التساؤلات لا لنحاول أن نجد لها إجابات فمعرفتنا محدودة وقدرتنا على الإحاطة بكل جوانب الحياة محدودة للغاية. إن الأسلوب العقلاني الذي نعتمد عليه في التفكير إنما هو ملاحظاتنا الواقعية، وما درسناه في العلوم المختلفة، وما يستريح إليه إحساسنا العام الذي نكتسبه من خبرتنا في الحياة على هذه الأرض، وما نعتقد أنه خير أو شر طبقاً لثقافتنا أو معايير مجتمعاتنا. يجب أن نستعمل تلك المعايير حين نكون في موضع المسئولية عن أي فعل أو تصرف، لكن هذه المعايير يجب ألا تستعمل للحكم على أشياء لا ترجع إلى عالمنا المشهود. فنحن إذا ما كنا مؤمنين بالغيب نتيجة لإدراكنا أن ما نعرفه هو أقل القليل بالنسبة لما لا نعرفه، فسندرك أننا مسئولون عن تغيير ما نستطيع تغييره، وأن علينا أن نتعايش مع ما لا نستطيع تغييره، على أن نكون متذكرين دوماً أن هذا لا يعني أن ما لا نستطيع تغييره سيستمر إلى الأبد، فقد يأتي يوم ما وتزداد قدرتنا على مساعدة هؤلاء الذين يعانون. فالوعي بالمسئولية التي تقع على عاتقنا وإخلاصنا في القيام بكل ما نستطيعه من أجل من يحتاج لخدماتنا سيساعدنا على أن نكون في سلام يتجلى في تناغمنا مع كل مايحدث في الكون.
 
 ثالثاً: السلام بين القلب والعقل والجسد:
 
 لقد أنعم الله على البشر بنعمه الكثيرة التي تعينه في هذه الحياة ومنها العقل والقلب والجسد الذي يحتاجه الإنسان لاستكمال رحلته الأرضية. فالعقل أُعطي القدرة على التحليل والتركيب والاستقراء والاستنباط وعلى التعميم والتخصيص وعلى التجريد والتشبيه وعلى التذكر والإدراك وكثير من القدرات الأخرى والوظائف التي لا نستطيع حصرها.
 
 والنفس العليا أو القوة المقدسة في الإنسان أو الـ"أنا" الحقية التي هي من وراء العقل والقلب والجسد تستعمل قدرات العقل؛ من أجل استيعاب ما يحدث في العالم، وبالتالي اتخاذ التصرف المطلوب لتغييره. والـ"أنا" تستعمل العقل أيضاً لفهم الرسالات التي يبعثها الله للأرض؛ حتى تُحَوِّل هذه الرسالات إلى سلوك في الحياة الدنيوية.
 
 التفكير والتفكر يقوي العقل. وعلى الرغم من كل القوى التي يتمتع بها العقل فإن له سقفاً لا يستطيع أن يتجاوزه. فالقلب يستطيع أن يتعامل مع بعض الأمور التي لا يمكن إثباتها تماماً بالعقل. لذا فحين يقف العقل عند نقطة ما تُبَادِرُ الـ"أنا" باستشارة القلب. والقلب هو مركز الشعور والإحساس بالحب أو الكره، أو الحسد أو كل المشاعر الحسنة أو السيئة التي لا دخل للعقلانية فيها. لذلك فالقلب يحتاج دائماً إلى التنقية من كل الصفات السيئة عن طريق الذكر.
 
 والجسد مسئول عن فهم ما يجري من أحداث والقيام بأفعال من جانبه. وله احتياجات ورغبات مما يُمَثِّل قوة دفع للعقل والقلب ليحققاها له. إن هذه الاحتياجات والرغبات خلقت في طبيعة الجسد لتدفع الإنسان إلى العمل والحركة على هذه الأرض. وتُرْشِدُ الرسالاتُ الإنسانَ إلى أن احتياجاته ورغباته إنما أعطيت له ليعمل على تحقيق الهدف من وجوده على الأرض من خلال تحويل الطاقة التي أنعم الله بها عليه بوجوده الفيزيقي إلى طاقة روحية تستمر معه بعد مفارقة الأرض. فالحكمة الكامنة في الديانات السماوية والأرضية أمَدَّتْ الإنسان بنظم للتدريبات الروحية من شأنها تحقيق التناغم بين العقل والقلب والجسد؛ ليحقق الهدف من وجوده. فالسلام بين القلب والعقل والجسد يُدرك حين تنجح الـ"أنا" في أن تجعلهم يعملون جميعاً معاً لتحقيق الهدف من وجود الإنسان على الأرض.
 
 رابعاً: السلام بين الأديان:
 
 إن سوء الفهم للأوامر والإرشاد الذي جاءت به الأديان هو أحد مصادر الصراع بين الأمم على مدى تاريخ البشرية على الأرض. وأحد أسباب سوء الفهم من وجهة نظرنا هو فصل الإرشاد في ذاته عن المقصد الذي جاء من أجله، وسبب آخر هو التفسير الحرفي الشديد للنص المقدس، وكذلك حصر تفسيره في معنى واحد، واعتبار أن هذا المعنى هو ما يقصده الله. لقد ذكر الله سبحانه وتعالى في آيات كثيرة أن الهدف الأساسي هو أن تُسَلِّم نفسك لله؛ مما يعني ألا تجعل نفسك عبداً لأي شخص أو فكرة جامدة مما هو موجود على الأرض. فتسليم نفسك لله وحده يعني أن تكون حراً. وهذا الهدف الأساسي هو ما أشار إليه القرآن الكريم بـ"الكلمة السواء" في الآية التالية:
 
 
 
 {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران 3: 64)
 
 إنه مما يدعو للدهشة الشديدة أن يقوم الناس بالعديد من الحروب والجرائم باسم الله خاصة بين هؤلاء الذين يُفترض أنهم مؤمنون بأحد الأديان. في الحقيقة إن السبب الرئيسي لأي صراع لم يكن الدين بحال ما ، وإنما هو النـزوع للقوة والمال وشهوات هذه الدنيا.
 
 إن السلام بين الأديان يمكن تحقيقه فقط إذا ما استمعنا لبعضنا البعض حتى نكتشف ما هو مشترك بيننا، والوحدة الكامنة في الأديان جميعاً ، وإذا ما توقفنا عن الجدال حول ما نعتقده بشأن أمور غيبية. ذلك لأن كل ما نفكر به بشأن هذه الأمور ما هو إلا أفكار لا ترقى إلى مستوى اعتبارها الحقيقة نفسها، فالواقع يقول أننا لا نستطيع أن نتجادل بشأن أمر هو بطبيعته فوق مستوى قدراتنا كبشر.
 
 خامساً: السلام بين الديني والدنيوي (الإنساني والمقدس):
 
 الاهتمام بأمر الدنيا هو جزء من الدين. فحتى تكون مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً صالحاً فإنه من الواجب عليك أن تحترم ما يوجبه التفكير العقلاني الواضح، والأسباب المنطقية للأمور، وتأخذ المصالح العامة للناس بعين الاعتبار.
 
 من وجهة نظرنا يعتبر الفرق الأساسي بين ما يأتي بدافع من الدين وما يصل إليه البشر طبقاً لتجربتهم الوضعية هو الأمر الخاص بالإيمان بوجود الحياة الآخرة، وعلاقة ذلك الإيمان بالحياة الأرضية. ومع ذلك فهذا الفرق يجب ألا يتسبب في حدوث مشاعر الكراهية والصراع، ذلك لأن قضية الإيمان بالغيب هي قضية شخصية تماماً تعتمد على ما يعتقده كل إنسان، ومبلغ قدرته على التفكير المجرد، وما يدور في حياته الداخلية. أما على مستوى المجتمع فتلك القضية تؤدي إلى فجوة أوسع بين الناس؛ لأن بعضهم - ممن يَعْتَبِرون أنفسهم متدينين - ينحرف عن
 
 القيم التي يقبلها العقل، ويتخيل أن هناك قوانين شديدة الوضوح تضمها النصوص المقدسة ويجب تطبيقها مباشرة في حياتنا الأرضية. إنهم لا يستطيعون الإدراك أن الكلمات المقدسة ما هي إلا وسائل محملة بالمعاني ويعتمد فهم تلك المعاني على السياق الذي وردت فيه، والثقافة السائدة، والمقصد منها و عوامل أخرى كثيرة. فتفسير النصوص المقدسة هو دائماً نسبي وليس مطلقاً. ومع ذلك فالطريق الوحيد الذي أراه لحل هذا التناقض الظاهري هو توفير الحرية في المجتمعات وتشجيع الحوار. ومن الملاحظ هذه الأيام وجود تيارات دينية متعددة تؤمن بالدولة المدنية التي يستطيع أن يعيش فيها جميع الناس بأطيافهم المختلفة، ويختارون بمحض إرادتهم أسلوب الحكم الذي يناسبهم، وتلك خطوة طيبة لبناء السلام بين ما هو ديني وما هو وضعي أو بشري.
 
 سادساً: وحدة الإنسانية وتعدد التعبير:
 
 ينتمي البشر جميعاً إلى أصل واحد كما يتمتع جميعهم بنعمة العقل والقلب والجسد. ومع ذلك فكل إنسان له شخصيته المتفردة. ولذلك فكل شخص على الأرض إنما يُعِبِّرُ عن حياته الداخلية المتميزة. وبما أن البشر جميعاً يخضعون للنظام الكوني الذي أوجده الخالق فإن الرسالات جميعاً كشفت عن هذا النظام أو القانون بطرق متعددة. فالمناسك التي جاءت في الأديان المختلفة إنما تعبر عن المفاهيم نفسها برسائل متنوعة. لذلك فتعدد التعبير الذي هو تجلي للمفهوم نفسه يجب ألا يكون مصدراً لوجود الكراهية والتناحر. ومن هذا المنطلق علينا أن نعمل على تناول هذه القضية وأن نُعَلِّم أنفسنا أن نقبل التعدد والتنوع.
 
 تلك هي أفكار موجزة أردت أن أشارككم فيها، لكني أتطلع للاستماع إلى المزيد من الأفكار منكم خلال المناقشات وورش العمل التي ستعقد على مدى الأيام الثلاثة للندوة.
 
 أتمنى لكم مناقشات وتفاعلات ناجحة وتبادلاً للأفكار الخلاقة والنتائج المثمرة. كما أتمنى لضيوفنا إقامة طيبة في مصر.
 
 وأخيراً وليس آخراً أحب أن أتقدم بالشكر لكل من شاركوا في أن تكون تلك الندوة حقيقة على أرض الواقع. فأتوجه بشكر خاص للسيدة ناهد آنجا، والدكتورة علياء رافع والسيدة عائشة رافع والسيدة ماجدة المفتي والسيدة أماني المفتي اللاتي قمن بتنظيم تلك الندوة. وأشكر السيدة باسنت أحمد موسى لتفانيها في حمل مسئولية كل الخطوات التنظيمية والإعداد بمشاركة السيدة إيناس الصحن. وأقدم شكري لسكرتارية الجمعية المصرية للبحوث الروحية والثقافية الأستاذ أنيس الرفاعي والأستاذ محمد حامد لتوليهما مسئولية الشئون المالية والحكومية. وأشكر السيدات نيفين صدقي ومها جوهر وإيناس عامر للأعمال الفنية المتميزة، وكذلك الأستاذ محمد عباس.
 
 ويسعدني أن أعبر عن فخري بمجموعة الشباب الذين قاموا بجهد كبير للمساهمة في توفير الجمال والنجاح للندوة وأخص بالذكر العمل الفني لعمرو محمود خيرت وعاطف محمود، ويمنى العسيلي، وفريق الترجمة: محمد حلاوة، وشيرين علي، وأميرة العدوي، وعلي السلاموني، ومنة محمود، وعلا بدوي وهدى عز العرب. وكذلك جميع المتطوعين لاستقبال الضيوف والإشراف على توفير النظام وكفاءة الأجهزة، وطباعة أوراق البحث وتوزيع الشنط وكثير من الأعمال الضرورية للندوة: الأستاذ حسن عبد الرؤوف، أحمد صقر، نيللي شعيرة، أمينة شاهر، علياء إبراهيم، مروة خميس، وائل عاطف، وليد مصطفى محمود، هيثم البنداري، رافع صالح، محمد زين، علي عباس، إيمان حبيب، محمد عبد الفتاح، عمرو فكري، ومحمد صلاح.
 
 إني واثق أن هناك المزيد من الأسماء لأعضاء دائرتنا الروحية التي لم تشملها هذه الكلمة لكن عطاءهم موضع كل التقدير، وهم يعرفون أنفسهم فأرجو من الجميع أن يقفوا لنقدم لهم الامتنان.
 
 وأتمنى لكم جميعاً ندوة طيبة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق