الجمعة، 12 يوليو 2013

كم من الخطايا تُرتَكب باسم الدين وباسم الدفاع عن الدين

 4 رمضان 1434هـ   الموافق 12 يوليو 2013م

        حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
"...الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ..."[الأعراف 43].
الحمد لله، الذي جمعنا على ذكره، وعلى طلبه، وعلى مقصود وجهه، جعل لنا بيننا حديثاً متصلاً، نتواصى فيه بالحق والصبر بيننا، نتدبر أمور حياتنا، وما جاء به ديننا، لنتعلم. لنتعلم طريقنا وسلوكنا ومعاملاتنا، مدركين أن كل إنسانٍ، يأخذ من الدين بقدره، بحاله، بسعته، بعلمه، وأن تاريخنا، قد أظهر لنا مفاهيم كثيرة، في تفسير آيات الله وسنة رسوله ـ صلوات الله وسلامه عليه.
وهذه المفاهيم، اختلفت اختلافاً كثيراً، مما يدل على أن الإنسان لا يستطيع أن يستخدم مفهومه في أمورٍ دنيوية. تباينت هذه المفاهيم، من التشدد الشديد، في وصف المؤمن والكافر، وفسرت فئةٌ الكفر، بصورةٍ تجعل أي إنسانٍ يُخطئ خطأً ـ من وجهة نظر من قالوا ذلك ـ بالكفر. فالتكفير عندهم سهلٌ ـ من وجهة نظرهم ـ فيما يجب أن يكون عليه الإنسان المسلم.

فكَفَّروا الإمام عَليّ، وكَفَّروا آخرين أيضاً. وكما نعلم جميعاً، أن الذي قتل الإمام علي كان من هؤلاء، فيما أُطلِق عليهم إسم الخوارج، لم يمنعهم صيامهم للدهر أو قيامهم الليل، من أن يقتلوا، لأنه رَسخ في أذهانهم، أن هؤلاء الذين أرادوا قتلهم، خرجوا عن الدين وكفروا. واستخدموا الآيات والأحاديث، لبرهنة نظريتهم ومفهومهم. واستخدموا الآيات لذلك:
"...مَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ"[المائدة 44].
وهم الذين حكموا على هؤلاء وهؤلاء، أنهم لم يحكموا بما أنزل الله. وهناك مجموعةٌ أخرى، أرادت أن تتمَلَّق الحكام في ذلك الوقت، وأخذت من بعض الآيات، أن الله يفعل ما يريد: 
"...فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ"[هود 107] 
"وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ..."[التكوير 29] 
ووصلوا بمفهومهم هذا إلى الجبر، أن الإنسان مجبورٌ على فعله، بإرادة الله وبتقدير الله، وأن الحاكم وقد حكم، فهذه إرادة الله، ويجب طاعته وعدم الخروج عليه. وأصبح الناس مجبورين على ما يفعلون، ومن ثَمَّ، فلا نستطيع أن نُكَفِّرهم مهما أتوا من أفعال.
كلٌّ يأخذ في قضيةٍ مهمة مثل هذه، من الآيات ما يُثبِّت وجهة نظره، ولا ينظر للجانب الآخر. فإذا كان الأمر كذلك، فهل يستطيع أحدٌ في وقتٍ ما، أن يَستخدم مفهومه، في أن يفرض أمراً على المجتمع، ويقول أن هذا هو الدين؟
إن الدين فيما هو أحسن، إن الدين هو فيما يُصلِح المجتمع، إن الدين في كفاءة من يعمل وفي قدرته على التغيير إلى الأفضل، الدين له علاقةٌ بالحياة في كل مناحيها، ولكن بالعمل الصالح، وبإتقان العمل، وباتخاذ الأسباب، وبالعلم والمعرفة، وبالتكافل والتعاون، لا بالتعنت والعناد وأُحادية النظرة.
لا يمكن أن تتصور أنت الدين بمفهومك، ثم تريد أن تفرض هذا المفهوم، مستغلاً اسم الدين لتُمرِّر آراءك وأفكارك ورغباتك وشهواتك. لأن الدين دائماً، أكبر من أي مفهومٍ تفهمه، ومن أي مذهبٍ تتبعه. لذلك، رأينا في تاريخنا، الكثير من الخطايا تُرتَكب باسم الدين، وباسم الدفاع عن الدين، ولازلنا نرى ذلك في حاضرنا.
أما آن الوقت، لنرجع إلى الدين حقاً؟ بأنه أكبر من أي مفهومٍ نفهمه، وأن الدين هو في استقامة الإنسان في نيته، وفي هدفه، ومقصده، وفي حسن معاملته. الدين، هو الإنسان. هو الإنسان في خلقه الجميل، في تخلقه بأخلاق رسول الله ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ "كان خلقه القرآن"(1).
كان خلقه القرآن بطبيعته وفطرته، بنظرته للواقع، بتيسيره للأمور، بتفريقه بين ما هو دنيويّ يخضع للتجريب، وبين ما هو أخرويّ يخضع لإيمان الإنسان بوجوده الممتد وبعلاقته بربه، لا يخلط هذا بذاك. لا يفرض أمراً يمكن قياسه في الأرض وفي الدنيا، بأنه أخرويّ، ولا يجعل من أمرٍ أخرويّ لا يُقاس في الدنيا، بأن يقيسه بمعايير الدنيا.
فكانت الأمور الأخروية لها علاقةٌ بإيمان الإنسان وبنِيَّتِه، وليس لأحدٍ أن يتدخل في هذه العلاقة بين الإنسان وربه، في إيمانه، أو عدم إيمانه، أو طبيعة إيمانه، أو نوع إيمانه، أو ما يفعله نتيجة هذا الإيمان. لا سلطان لإنسانٍ على إنسان فيما يعتقده،  وفيما يقوم به لممارسة هذا الاعتقاد.
أما فيما يخص الدنيا، وما يفعله الإنسان وله أثرٌ على إنسانٍ آخر، فهناك سلطانٌ لإنسانٍ على إنسان، بالقانون الذي يرتضيه الجميع. لا يعتدي إنسانٌ على إنسان، ولا يسرق إنسانٌ من إنسان، ولا يحرض إنسانٌ على قتل إنسان، ولا يسب إنسانٌ إنساناً. هذه أمورٌ، تخضع للحكم الدنيويّ والمعاقبة الدنيوية.
عباد الله: إنا نطمع في الله، وفي رحمة الله، وفي عون الله، أن يفيق الناس إلى حقيقة دينهم، لهم أن يفكروا كما يشاءون، وأن يفهموا دينهم كما يستطيعون، ولكن لا يفرضوا مفهوماً واحداً على الآخرين وعلى المجتمع، وإنما يكون أساس التعامل في المجتمع ـ كما نقول دائماً ـ: "فلتكن منكم أمة تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله"*.
إيمانها بالله، هو أن وجودها على هذه الأرض له هدفٌ، وأن كل ما تقوم به على هذه الأرض له أثرٌ على حياة الإنسان الروحية والمعنوية والأخروية. ولكن حين تبدأ، فهي تدعو إلى الخير، بمفهوم الخير على ما تراه، وعلى ما يراه أي إنسانٍ على هذه الأرض. وتأمر بما هو معروفٌ، أنه يؤدي إلى صلاحٍ على هذه الأرض. وتنهى عن المنكر، الذي يؤدي إلى كل فسادٍ واضحٍ على هذه الأرض.
فالمعروف، هو ما تعارف الناس عليه، ووجدوا أنه يُنتِج خيراً. يدخل تحت ذلك في عصرنا الحالي، كل العلوم المُجَرَّبة، والتي لها تطبيقاتٌ أفادت البشرية في كل المجالات، بما فيها الإدارة والحكم، والتعامل بين البشر، والقانون. وكل هذه التجارب، هي تدخل تحت المعروف.
ويدخل تحت المنكر، كل الأمور التي ثبت فشلها، والتجارت التي لم تؤدي إلا لخراب في كل المجالات، بما في ذلك تجارب الحكم في المجتمعات المختلفة، وفي أساليب الإدارة في البلدان المتعددة، وفي كل التجارب البشرية التي ثبت فشلها.
والمعروف ليس أمراً ثابتاً، وإنما هو متغيرٌ مع التجارب والمراقبة وملاحظة الأثر في المجتمع، فقد تعتقد أن هناك أمراً معروفاً، وحين تطبقه لا يُنتِج في مجتمعك الأثر المناسب أو المرجو، فينقل من خانة المعروف إلى خانة المنكر.
وربما هناك شيءٌ كنت تعتقد أنه منكر في تجارب سابقة، ولكن الواقع الذي تعيشه، يستحضر هذا الذي فشل في مكانٍ آخر، فربما حين تجربه يؤتي بأثرٍ جيد، فيدخل في خانة المعروف، بالنسبة لك.
فالمعروف والمنكر أمورٌ نسبية وليست مطلقة، تخضع للقياس والمراقبة، ويأمر بها الخبراء والفقهاء والعلماء. لذلك، حين نكون كذلك، فإننا نطبق الدين. إن هذا ليس ما يطلق عليه البعض مذهباً علمانياً.
وإنما حين تطبقه بقواعد الدنيا وبقواعد العلم والمعرفة، فهو الدين. لا يُنقِص من علاقتك الروحية بالله، ولا من مفهوم وجودك ككائنٍ روحيٍّ، وليس ككائنٍ ماديٍّ فقط، لا يُنقِص هذا من مفهومك المعنويّ والروحيّ، بل أنه واجبٌ عليك، إذا كنت تؤمن بالله حقاً، أن تطبق على الأرض ما يتلاءم مع قوانينها:
[أنتم أدرى بشئون دنياكم](2).
عباد الله: نسأل الله: أن يوفقنا لما فيه خيرنا، ولما فيه صلاحنا، وأن يجعل منا أداة خيرٍ وسلامٍ ورحمة، لنا، ولبلدنا، ولأرضنا.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
______________________________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أن ما حدث في تاريخنا، هو لنتعلم منه. نتعلم، أن كل فريقٍ أو مجموعةٍ أو فرقة، قرأت آيات الله بصورةٍ، كان للواقع الذي يعيشونه أثراً فيما فهموه، وأراد كلٌّ أن يطبق وجهة نظره، دون أن يدرك أن هناك وجهات نظرٍ أخرى، وكلٌّ حاول ذلك باسم الدين.
وكان هذا الدرس التاريخيّ، لنتعلم، ألا نستخدم المطلق، بأن نفسره ونحده في مفهومٍ، ونستخدمه كمطلق في أمورٍ مقيدة، وأن هذا يأخذ الإنسان إلى فسادٍ وإلى ظلمٍ وإلى استبدادٍ وإلى طغيانٍ، وتصبح معالجته صعبةً جداً. كان الواجب علينا، أن نتعلم من هذا الدرس، ومن هذه الدروس، ألا نفعل ذلك في حياتنا.
هناك من تعلم هذا الدرس ونادى به، وهناك من لم يتعلم وظل يمارس الخطأ تلو الخطأ، مما أربك الحياة الأرضية والمجتمعية، ولازال يربكها في مجتمعاتٍ كثيرة، بل أنه يدفع الناس إلى أن يرفضوا الدين جملةً وتفصيلاً، في بعض الأحيان.
مع أن الدين في حقيقته ـ كما نراها وكما نفهمها ـ هو في إعمال العقل إلى أقصى حد، فيما يخص أمورنا الدنيوية، وأن لا تعارض بين الدين وبين مصلحة البشر، وكما قال أحدهم: [أن اخبرني ما هي مصلحة الناس، فإن كانت مصلحة الناس في أمرٍ، فهذا شرع الله](3).
عباد الله: علينا، أن نتعلم من تاريخنا ومن حاضرنا أيضاً، وأن نستطيع أن نقرأ الواقع قراءةً صحيحة، وأن نحاول دائماً، أن ندعو بالتي هي أحسن، وبالذي هو خير:
 "...ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ"[فصلت 34].
نسأل الله: أن يفيق الناس إلى حقيقة دينهم، وأن يرجعوا إلى ربهم، وأن يكونوا حقاً مسلمين، وحقاً مؤمنين، وحقاً محسنين، فهذا ما نرجوه لنا جميعاً.

اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه الناس حولنا.
اللهم ونحن نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تدع لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ظلماً إلا رفعته، ولا طاغيةً إلا كسرته.
اللهم فاجعلنا لك خالصين.
اللهم فارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
"رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ"[آل عمران 193].
_______________________

(1)      "كان خلقه القرآن" حديث صحيح، الراوي: عائشة، المحدث: الألباني.

*- "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [آل عمران104]

  - "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ...." [آل عمران 110]

(2) أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون . فقال " لو لم تفعلوا لصلح " قال فخرج شيصا . فمر بهم فقال " ما لنخلكم ؟ " قالوا : قلت كذا وكذا . قال " أنتم أعلم بأمر دنياكم".الراوي: أنس بن مالك ، المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم ، وفي رواية أخري : "سمع أصواتا فقال ما هذا الصوت قالوا النخل يؤبرونها فقال لو لم يفعلوا لصلح فلم يؤبروا عامئذ فصار شيصا فذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال إن كان شيئا من أمر دنياكم فشأنكم به وإن كان من أمور دينكم فإلي". الراوي: عائشة ، المحدث: الألباني  - المصدر: صحيح ابن ماجه.

ملحوظة : يؤبرون النخل: يلقحونها . الشيص : تمر لم يتم نضجه.

(3)             يقول الإمام الشاطبي: "إِنَّ أحْكَامَ الشَّريعةِ ما شُرِعَتْ إِلاَّ لمصْلَحَةِ النَّاس وحَيْثُما وُجِدَت المَصْلَحَةُ فثمَّ شرْعُ الله".

 

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق