الجمعة، 27 سبتمبر 2013

تأملات في معاني الطواف حول بيت الله

        حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
الحمد لله، والحمد دائماً لله، والشكر دائماً لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد الله: تدبروا آيات الله وشعائر الله، التي حَمَّلها رسائل لكم، رسائل باقية، رسائل دائمة، رسائل متجددة. وعلينا، أن نُذكِّر أنفسنا دائماً، بما تحمله هذه الشعائر، من معانٍ راقية، ومن مقاصد نبيلة، ومن أهدافٍ واضحة.
حين نتأمل في منسك الحج وما فيه من شعائر، وأول شعيرةٍ فيه، هي الطواف حول البيت: 
"إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا..."[آل عمران 96].
(وكثيراً ما تحدثنا عن معنى البيت، وعن معنى القبلة، التي نُوَلِّي وجوهنا إليها في صلاتنا، ودلالة هذا البيت، الذي هو على أرضنا، وهو من تراب هذه الأرض في بنيانه الظاهر لنا) علينا أن نسأل أنفسنا: ما هي دلالة هذا البيت؟ لأن الكثيرين، حين ينظرون من الخارج، ويرون المسلمين وهم يتدافعون، للتبرك بهذا البيت وبالحجر الأسود، ينظرون إلى المسلمين كعبدة أوثانٍ.

لذلك، وجب علينا، وديننا هو الذي علمنا أن نُكبِر الله دائماً عن أي صورةٍ وعن أي شكل، وأن نُكبِر عباداتنا ومناسكنا عن أي صورةٍ وعن أي شكل، وأن نفهم دائماً، أن الصورة والشكل يحملان رسالة، وأن القضية ليست في ذات الشكل وذات الصورة، وإنما فيما يحملان من مفهومٍ لنا ـ لذلك، كان واجباً، أن نقرأ الرسالة في كل منسكٍ، وفي كل عبادةٍ أُمِرنا بها.
وهذا، ما نحاوله دائماً في أحاديثنا، وهناك أبعادٌ كثيرة، تناولنا بعضها، ولكن التأمل لا نهاية له. فربما نفهم اليوم فهماً، ونفهم غداً فهماً آخر، لا يتعارض معه، ولكن يضيف إليه. هذا البيت على أرضنا. وهذا، له دلالةٌ كبيرة.
فلم يأمرنا الله بأن نتجه إلى السماء: 
"قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ..."[البقرة 144]، وكانت القبلة التي ارتضاها الله لنا، هي بيت الله الحرام، وهي مكانٌ ونقطةٌ على أرضنا. وهذا، له دلالاتٌ كثيرة.
من هذه الدلالات، أننا يوم نتوجه إلى هذا البيت، سائلين الله قوةً وعوناً ورقياً، إنما نتجه إلى أرضنا، وهذا يعني أن ما يدفعنا إلى أعلى، وما يرقى بنا في حياتنا الروحية، هو ما نعمله على أرضنا، هو في فعلٍ على أرضنا، هو في واقعٍ نتجه إليه ونشد الرحال إليه. وهذه قضيةٌ كبرى، لأنها تنعكس على كثيرٍ من أساليب حياتنا، فالذي يُحيينا في آخرتنا، هو ما نفعله على أرضنا.
وهذا، يُكبِر من تقدير الإنسان لما يعمله على هذه الأرض، ولما يجب أن يكون عليه في تعاملٍ مع الله وهو يؤديه، بل أنه ينعكس على مفاهيمه لآيات الله ولأوامر الله، فيفهمها من هذا المنطلق، يفهمها كواقعٍ يعيشه، كأصلحٍ يريده، كأحسنٍ يطلبه، لا يطلبه لذاته ولا لشكله ولا لصورته، ولكن يطلبه لأنه الأحسن الذي يراه، وعليه أن يكون صادقاً مع ما يراه.
لا يستطيع الإنسان أن يتحرك خطوةً إلى الأمام، إلا إذا كان يرى هدفاً يريد أن يصل إليه، وإن لم يَرَ هذا الهدف، فلن يستطيع أن يتحرك. والبيت يرمز لذلك، فهو واقعٌ على هذه الأرض، ويستطيع الإنسان أن يتحرك في اتجاهه، ويستطيع الإنسان أن يستقبله، فهو يعرف أين يقع، وكيف يتجه إليه، وإذا أراد أن يذهب إليه، يعرف طريقه.
لذلك، فحياة الإنسان على هذه الأرض، يجب أن يصاحبها هدفٌ، يرجوه الإنسان ويتجه إليه، ويعرف كيف يصل إليه. ولا يكون اتجاه الإنسان اتجاهاً صادقاً، ووصوله إلى الهدف وصولاً صادقاً ـ إلا إذا كان الإنسان يعتقد ذلك فعلاً. ولا يستطيع الإنسان أن يعتقد ذلك فعلاً، إلا إذا توافق ذلك، مع ما يعقله وما فُطِر عليه.
فإذا لم يكن له مفهومٌ في الحج، فذهابه إليه، لا يعني شيئاً، واتجاهه في صلاته إلى قبلته، لا تعني شيئاً، إنما هي حركاتٌ في حركات، لا قيمة لها، ولا تأثير لها. وإنما يكون لها تأثيرٌ كبير، إذا كان له مفهومٌ فيها، وأصبح بقيامه بها، متفاعلاً مع هذا المفهوم، يُرسِّخه في قلبه ووجدانه وعقله، بممارسته له.
وهكذا الحال، في أعمال الإنسان الدنيوية، وفي أهدافه الحياتية، إن لم يكن لها جانبٌ في عقيدته الروحية، فلا قيمة لها ـ فلا قيمة لها في حياته الروحية والأخروية، وإنما هي قيمتها على هذه الأرض، قد تنفع لوقتٍ وقد لا تنفع، ولكن هو لم يكسب منها شيئاً في حياته الأخروية.
هذا هو الدين، كما نفهمه، وكما ندركه، وكما نتأمل فيه. قد نخطئ وقد نصيب، ولكن هدفنا في النهاية، هو أن نربط بين هذه الحياة الدنيوية، وبين حياتنا الأخروية، وألا يكون ذلك على سوء فهمٍ في هذه الحياة الأرضية.
فنحن نُقدِّر ما أودع الله فينا من فطرةٍ، تستطيع أن تُقيِّم الفعل ونتيجته، وأن ما حَبَّبَنا الله فيه، وبفطرته التي فطرنا عليها، هي معيارٌ، نستطيع أن نقيس عليه. فنحن نريد للناس أجمعين، أن يعيشوا عيشةً راضية، أن يعلموا وألا يكونوا جاهلين، وأن يتطببوا ولا يكونوا مرضى، وأن يلجأوا إلى سكنٍ ولا يكونوا مشردين.
ولا نحاول أن نقلب الغيب، مع الحاضر والمشهود، فنقول: أن الله لو أراد أن يجعل الناس كلهم في هذا الحال الراضي، لجعلهم. فلا نفعل شيئاً ولا نبذل جهداً، ولا نحاول أن نعلم ونتعلم، ونبحث عما يُصلِح حال الناس على هذه الأرض، ونقول: هذه إرادة الله ـ بظن إيمان.
أو أن نقول: أن علينا أن نعبد الله بصلاةٍ وصيامٍ والتزامٍ بتعاليمه وإرشاداته ـ التي نظنها ـ والله سوف يرزقنا بعد ذلك. فهذا، ليس عبادة. إذا كنت تقول: أن علينا أن نعبد الله. فهذه ليست عبادة. عبادة الله، أن تعمل، وأن تفهم، وأن تبحث. بل أن كل العبادات المنسكية، هي محاولة أن تُقوِّم سلوكك علي هذه الأرض، حتى تتعلم وتبحث.
فإذا كنت تتجه إلى الله حقاً، فأنت تسأله أن يهديك سواء السبيل، أن يعلمك من لدنه علماً، وأن يساعدك على أن تتعلم مما ترى من مظاهر على أرضك: 
"قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ..."[العنكبوت 20]، 
يوجهنا الله كثيراً إلى هذا، ويصف عباده الصالحين: 
"الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..."[آل عمران 191].
الطريق الوحيد، أن ترى بيت الله على الأرض، وأن ترى قبلة الله على الأرض، وأن ترى كسبك في الله على الأرض، وأن تعلم أن العبادة، هي في أن تطلب قوة تساعدك، على أن تكون مخلصاً في عملك وفي عبادتك، من خلال خدمتك للآخرين.
نسأل الله: أن نفهم، وأن نقرأ ما أمرنا الله به، من خلال مناسكه وعباداته التي سَنَّها لنا وكشفها لنا، لتساعدنا أن نفهم أكثر، وأن نتعلم أكثر، فلا نكون كالجاهلين، الذين لا يعرفون كيف يقرأون، وكيف يفهمون، وكيف يتعمقون، وإنما نكون قارئين، عالِمين، عارفين، عاملين بما نعلمه، فنكون حقاً في طريق الله، وفي طريق رسول الله الذي علمنا إياه.
نسأل الله: أن نكون كذلك، وأن يجعلنا دائماً في طريقه، وأن يجعلنا دائماً، عباداً له خالصين، لوجهه قاصدين، معه متعاملين، عنده محتسبين.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أننا حين ننظر فيما أمرنا الله به، في منسك الحج، وأول رمزٍ في هذا المنسك، هو البيت الذي وُضِع ببكة مباركاً، وفي دلالة هذا الأمر، من زاوية سلوكنا، ومعاملاتنا، وتشريعنا، وسَنِّ قوانيننا، ومعاملاتنا، وأن علينا أن ندرك، أن نتعامل بقوانين هذه الأرض، وبمعاييرنا التي هي موجودةٌ في فطرتنا، من عدلٍ، ورحمةٍ، ورغبةٍ في حياةٍ أفضل للناس جميعاً.
إن كنا ندرك، أن كل إنسانٍ على هذه الأرض، له وضعه، وله رسالته، وله طريقه ـ إلا أن هذا، هو مفهومٌ مجرد. ولكن إذا جئنا إلى المفهوم المقيد، الذي هو له علاقةٌ بأرضنا، علينا أن نتعامل، بأن نحاول جاهدين، أن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا، "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"(1).
فإذا كان حب الإنسان لنفسه، أن يكون في عيشةٍ راضية، فعليه أن يحب للناس جميعاً، أن يكونوا في عيشةٍ راضية، وعليه أن يبذل كل جهده، فيما يسر الله له، من عملٍ وقدرةٍ على عمل. أن يجتهد قدر استطاعته، ليكون أداةً في سبيل ذلك، عليه أن يدفع بالتي هي أحسن، وأن يدعو للذي هو خير، وأن يعلم أن هذا هو في واقعٍ يراه، ويستطيع أن يشعر به، وأن يقيسه، وأن يُقَدِّره.
أما إذا تراخى الإنسان، وظن أن هذا التراخي إيمان، وظن أن هذا التراخي عبادة، فهو بذلك، لا يكون قد قرأ آيات الله قراءةً صحيحة، وهي تأمر الإنسان أن يسعى في الأرض، وأن يُعمِّر الأرض، وأن يتفكر ويتدبر في خلق السماوات والأرض، وأن يسير في الأرض، فينظر كيف خلق الله الخلق، أسباب الحياة ومسبباتها، قوانين الحياة وتجلياتها. وأن يعرف أن المقصود، هو أن يبذل كل جهده، ليخدم إخوانه في البشرية.
وقد أمرنا رسول الله، أن نسعى في خدمة إخواننا، وفي مساعدة من يحتاج إلينا، وأن يكون ذلك بحسن الخلق: 
[أقربكم إلي منازل يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون](2) 
"وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ..."[التوبة 105]،
" فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"[الزلزلة 8،7].
عباد الله: نسأل الله: أن يفيق الناس إلى دينهم، وأن يقرأوا دينهم، وأن يكونوا في حالٍ أحسن وأفضل مما هم عليه، وأن يدركوا أن الله أكبر، ويدركوا أن دينهم متجددٌ دائماً، يكلمهم ويخاطبهم دائماً، رسائله موجودةٌ في كل ما يحدث حولهم. عليهم أن يقرأوا وأن يسمعوا، حتى يكسبوا حياتهم وطريقهم.
اللهم وهذا حالنا وهذا قيامنا، نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل وجوهنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا.  

 خطبة الجمعة 21 ذو القعدة 1434هـ الموافق  27سبتمبر 2013م

    
______________________________

(1)             حديث شريف الراوي: أنس بن مالك المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري.

(2)             - حديث شريف: " أكمل المؤمنين إيماناً أحسانهم أخلاقاً الموطئون أكنافاً ، الذين يألفون ويؤلفون ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف". أخرجه الطبراني ـ الجامع الصغير للطبراني- صحيح.

- " إن أحبكم إلي أحسانكم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون وإن أبغضكم إلي المشاءون بالنميمة    المفرقون بين الأحبة الملتمسون للبراء العيب " الراوي: أبو هريرة المحدث: المنذري - المصدر: الترغيب والترهيب


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق