السبت، 18 أكتوبر 2014

المنهج هو أن نقرأ آيات الله في تناغم مع فطرتنا ومع واقع نعيشه، نتفاعل معه سلباً وإيجاباً




حديث الجمعة
 16 ذو الحجة 1435هـ الموافق 10 أكتوبر 2014م
السيد/ علي رافع

      حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
      الحمد لله الذي جمعنا على ذكره، وعلى طلبه، وعلى مقصود وجهه.
      الحمد لله الذي جعل لنا بيننا حديثاً متصلاً، نتواصى فيه بالحق والصبر بيننا، نتدبر أمور ديننا وحياتنا، راجين أن نكون على الصراط المستقيم، وفي الطريق القويم، نجاهد أنفسنا طالبين حياةً حقة، وأن نكون أحياءاً عند ربنا نُرزق دائماً.
      مدركين أن الدين هو منهج حياة، جاءت به كل الرسالات لتكشف للإنسان عن الطريق الذي يسلكه، "اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ"[الفاتحة 6]. وكانت فاتحة الكتاب هي تعبيرٌ عن هذا المنهج ــ كما نتذاكر بذلك دائماً ــ وكانت مناسك الدين هي تعبيرٌ عن علاقة الإنسان بالغيب، وهو قائمٌ في هذه الشهادة.    
      إن كنا قد عشنا في الأيام السابقة، منسكاً فيه معانٍ كثيرة للتواصل مع الغيب، منسك الحج، وما فيه من شعائر كثيرة تعلمنا كيف نقترب من الحقيقة، وأن اقترابنا من الحقيقة، اقترابنا من البيت العتيق، اقترابنا من البيت الحرام، اقترابنا من القبلة، من "..أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ..."[آل عمران 96] ـ هذا المنسك يعبر عن هذا الاقتراب، والذي أساسه أن يتخفف الإنسان من أحماله، وأن يشد الرحال إلى بيت الله الحرام، الذي يرمز إلى الحقيقة التي نريد أن نقترب منها، ونطوف حولها، فتكون حياتنا كلها طوافٌ حول بيت الله، حول قبلة الله، حول حقيقة الحياة.
      إنا نقول دائماً: أن هذه المناسك بشعائرها، وأركانها، وشكلها ـ هي رسائلٌ من الله لنا. قيام الإنسان بها هو تعبيرٌ عن المعنى الذي تحمله هذه الرسائل، وأن قراءة الإنسان لهذه الرسائل هو الأهم.
      وكل إنسانٍ على هذه الأرض، يمكنه أن يقرأ هذه الرسائل فيما يقوم به الآخرون بأجسادهم وتنفيذهم لهذه المناسك بماديّ وجودهم، إنهم بذلك ينقلون رسالةً للعالم كله. وربما الذي يحمل هذه الرسالة لا يقرؤها هو، ولا يعلمها هو، ولا يكسب منها أي شيءٍ، وإن كان هو قائمٌ بها.
      لذلك علينا أن نفرق دائماً بين الوسط الذي يحمل الرسالة، وبين مضمون الرسالة، أن يصل إلى الإنسان أو لا يصل إليه ـ أو لا تصل إليه هذه الرسالة ـ وهذه قاعدةٌ أساسية لنفهم آيات الله، ونتفاعل معها.
      فالكلمات تحمل رسالة، وليستطيع الإنسان أن يقرأها عليه أن يضعها في إطارها وفي سياقها، لأنها لا تعيش في فراغ، وإنما تعيش في واقع. ومن الأسباب، بل أن من الأسباب الأساسية التي تجعل الإنسان ينحرف في طريقه، هو أن يقرأ آيات الله في فراغ.
      وفي تراثنا، نعلم أن هناك فرقاً بين الحكم المطلق وبين إنزاله على الواقع. الحكم المطلق، هو كلامٌ مجرد. [من قتل يقتل](1)، حكمٌ مجرد، ولكن إذا نزلت بهذا الحكم إلى أرض الواقع، فإنك عليك أن تبحث عن الدوافع، والأسباب، والملابسات، فقد يَقتل إنسانٌ دفاعاً عن نفسه، أو عرضه، أو ماله، أو أرضه، أو وطنه ـ فلا يُطبَّق هذا الحكم عليه. وهكذا، فإن الآيات الكثيرة التي تتحدث عن قتال الكفار، يجب أن تُوضَع في إطارها.
      أما أن يؤخذ الأمر بصورةٍ لا تعترف بواقع الحياة، ولا بحق الإنسان في أن يختلف في رأيه، فتُوصِم كل من اختلف معك في عقيدتك بالكفر الذي يستوجب القتل، وتفعل ذلك دون أن تراجع نفسك، وتراجع هذا الفعل الكبير "...مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا..."[المائدة 32]، لذلك، فنحن نعاني في مجتمعنا، بل أننا نعاني في كل المجتمعات، في كل الديانات، من هذا المسلك الذي لا يستطيع أن يعيش في جوٍ نختلف فيه، ونتعايش معاً في ظل هذا الاختلاف.
      إننا نجد هذا التعايش في بعض المجتمعات التي استطاعت أن تُعلِي القيم الإنسانية فوق أي عقائدٍ دينية، ونقول هنا: عقائد دينية زائفة ــ في واقع الأمر ــ لأنها لم تجد فيمن هم قائمون على أمر الدين مُثلاً عُليا، وإنما وجدت استخداماً لمفهوم الدين في السيطرة على الشعوب والأفراد بصورٍ مختلفة، ولم تستطع أن تفرق بين هذه الممارسات، وبين مفهوم الدين في حياة الشعوب، ولم تجد من يفسر لها مفهوم الدين في حياتنا، كقانونٍ حقي، إنساني، يُعلِي من كل القيم الروحية والمعنوية، من حق الإنسان في حياةٍ كريمة في الدنيا وفي الآخرة.
      فحين رفضت الزائف، فقد خطت خطوةً تجاه الحقيقة، فحتى مع رفضها لهذا الشكل الزائف من الدين، فقد اقتربت خطوةً من الدين الحقيقي الذي أساسه أن يعيش الناس جميعاً في سلامٍ، وأمانٍ كلٌ يؤدي عمله، وكلٌ يُقدر حياته، ويعلم أنه كائنٌ حيّ، له حقوقٌ، وعليه واجبات.
      وما كان ينقص هذه المجتمعات إلا أن تدرك أن هذا بالفطرة، يوم يستقيم الإنسان في هذا، سوف يؤدي به إلى حياة روحية مستمرة. إدراكها لذلك، كان سيكمل معنى الحياة الأرضية في سلامٍ وأمانٍ، وفي إدراكٍ أن الإنسان ليس هذه الذات فقط، وإنما هو كائنٌ باقٍ بعد هذه الحياة.
      وهذا الإيمان الروحيّ المعنويّ، له تأثيرٌ على حياة الإنسان الأرضية، واللحظات التي يعيشها على هذه الأرض، وفي تهيئته لحياةٍ أخروية أبدية، يكون فيها في حالٍ أفضل من هذه الحياة الأرضية.
      عباد الله: نسأل الله: أن يرفع هذه الغمة عن الأرض، وأن يجعل الناس يرجعون إلى حقيقة أديانهم، وأن يدركوا أن الدين هو سلامٌ وأمانٌ، هو فهمٌ، هو فكرٌ، هو ذكرٌ، هو عملٌ، هو تعايشٌ، هومحبةٌ، هو أن نعيش جميعاً على هذه الأرض، لنكسب هذه الكرة التي نعيشها، والتي وُجِدنا فيها لنكون أحياءاً عند ربنا نُرزق.
      نسأل الله: أن يحقق لنا ذلك.
      فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
_________________________
     
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
      عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أن هناك منهجاً إن اتبعناه، استطعنا أن نعيش في تآلفٍ وفي تصالحٍ مع ما فينا من فطرةٍ وهبها الله لنا، وآياتٍ أنزلها الله علينا.
      هذا المنهج، هو أن نقرأ آيات الله في تناغمٍ مع هذه الفطرة التي وهبنا الله إياها، ومع واقعٍ نعيشه، نتفاعل معه سلباً وإيجاباً.
      وأن السبب في أن يشط الإنسان ويخرج في طريقٍ منفصل، هو في بُعده عن هذا المنهج، وفي قراءته لآيات الله بعيداً عن فطرته، وبعيداً عن واقعه.
      وأن هناك كثيراً من الأمثلة، توضح الفرق بين أن يقرأ الإنسان الآيات في فراغٍ، وبين أن يقرأها في ظل واقعٍ، في سياقٍ، وأن قضيته هو أن يُعمِل هذا المنهج، وأننا في النهاية قد لا نصل إلى نفس النتيجة.
      ولكننا إذا صدقنا في إعمال المنهج، فإن ذلك سوف يكون أفضل بالنسبة لنا، لأننا بذلك نكون صادقين مع ما أوجد الله فينا من فطرةٍ، ومع ما أنزل علينا من آياتٍ، وسوف نظل مختلفين على هذه الأرض، يدفع بعضنا بعضا، "...وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ..."[البقرة 251].
      إننا نخاطب كل إنسانٍ أن يُعمِل المنهج الذي تعلمناه في ديننا، من أن نتفكر ونتأمل، "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ..."[العنكبوت 20]، "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..."[آل عمران 191].
      يقرأون آيات الله، ويتدبرونها، ويتعلمونها، ويُرجِعونها إلى قلوبهم وإلى فطرتهم، ويعلمون بعد ذلك أنهم عليهم ألا يتكبروا ولا يستقووا، "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء..."[فاطر 28]، [أنا أقربكم من الله وأخوفكم منه](2)، يراجعون أنفسهم دائماً ويستمعون إلى أقوال غيرهم، "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ..."[الزمر 18]، لا يسمعون نفوسهم فقط، وإنما يسمعون الآخرين ويسمعون نفوسهم أيضا لا مانع في ذلك.
      ولكن بعد ذلك كله، بعد أن يسمعوا نفوسهم، ويسمعوا غيرهم، ويسمعوا ما كان في قديم ـ بعد كل ذلك يصلون إلى ما يجب عليهم أن يقوموا به.
      عباد الله: نسأل الله: رحمةً، ومغفرةً، وتوفيقاً، وعلماً، وفضلاً، وكرماً، وجوداً.
      نسأل الله: أن يجعلنا أداة خيرٍ وسلامٍ ورحمة، لنا، ولبلدنا، ولأرضنا.
  اللهم وهذا حالنا وهذا قيامنا، نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
      اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
      اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
      اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
      اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
      اللهم ارحمنا واغفر لنا واعف عنا.
      يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا.


 
_______________________________

(1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ {البقرة/178}.

(2) "إني أتقاكم لله وأخشاكم له" حديث شريف أخرجه مسلم في صحيحه كما ورد في موطأ مالك ومسند أحمد بصيغ مختلفة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق